غزة- لا تلبث الأم العشرينية نورهان صالحة أن تخرج من المستشفى حتى تعود إليه مجددا في رحلة معاناة مستمرة منذ ولادة رضيعتها "حياة" قبل نحو 6 أشهر.
أطلقت الطفلة حياة صرختها الأولى على وقع حياة بائسة لأسرتها النازحة من بلدة بيت حانون المدمرة كليا في شمال قطاع غزة ، وتنقلت عقب اندلاع الحرب الإسرائيلية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 من مكان إلى آخر، لتقيم حاليا في بلدة الزوايدة وسط القطاع.
تقول الأم نورهان للجزيرة نت، "قررنا تسميتها حياة، لتكون لنا حياة وسعادة وأملا وسط هذا الظلام واليأس والموت والخراب والمجاعة، لكن الواقع معقد وأكبر من أحلامنا وأمنياتنا البسيطة".
تتكون أسرة نورهان من 4 أفراد، لكن حملها وإنجابها لحياة -كما تقول- كان "الأصعب والأقسى من بين تجاربها مع بقية أطفالها"، فقد قضت أشهر الحمل حتى الولادة قلقة وتعاني سوء التغذية وبؤس واقع النزوح والتشرد ومشاهد الموت والدمار، "وربما تسللت هذه المشاعر والتجربة السيئة لحياة داخل الرحم وتأثرت بها قبل رؤيتها النور"، كما تضيف الأم بحزن.
وعند ولادتها، قرر الأطباء وضع حياة في الحضّانة 25 يوما، بسبب معاناتها من ضعف المناعة والتهابات حادة، فقد ولدت الطفلة بوزن يزيد قليلا على 3 كيلوغرامات، لكنه أخذ يتناقص، بدلا من الزيادة، وتتساءل الأم نورهان: كيف لوزنها أن يزيد وأنا نفسي أعاني المجاعة، ولا أستطيع إرضاعها، والحليب المدعم مفقود من الأسواق؟
وإن توفر شحيح هذا الحليب، فإن أسرة حياة لا تقوى على ثمنه الباهظ الذي يفوق سعر العلبة الواحدة منه 60 دولارا، "وهو أكثر بـ5 أضعاف سعره قبل الحرب".
وتقول نورهان إن "رضيعتي بحاجة إلى تغذية، وحليب علاجي مدعم، والعلبة لا تكفيها سوى أيام فقط، وليس لنا مصدر دخل يعيننا على شراء الحليب ومواجهة قسوة الحرب المدمرة والحصار الحاد".
وطوال حديثنا معها كانت نورهان تحدق بالنظر إلى طفلتها الراقدة على سرير بقسم الأطفال في مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح وسط القطاع، المكتظ عن آخره برضّع وأطفال من أعمار مختلفة يعانون من سوء التغذية الحاد.
ويقول المتحدث باسم المستشفى الدكتور خليل الدقران، في تصريحات صحفية، إن نسبة الإشغال بقسم الأطفال تقدر بـ250% جراء الاكتظاظ الشديد لأطفال يواجهون سوء التغذية الحاد وأمراضا أخرى معدية ناجمة عن تداعيات المجاعة المتفشية.
ورغم حضور الأم نورهان بجسدها في المستشفى، يظل تفكيرها مشتتا، ويتنازعها القلق على مصير رضيعتها حياة، وعلى أسرتها وأطفالها الذين تضطر إلى تركهم بالأيام يواجهون متاعب الحياة والمجاعة التي تهوي بيدها الثقيلة على بطون زهاء مليونين و300 ألف نسمة، وتغرس مخالبها في أجسادهم المنهكة.
وعلى مقربة من نورهان، كانت منى أبو عريبان تحاول تهدئة طفلها خالد (4 أعوام) الذي أصابته حالة مرضية، وتقول للجزيرة نت إن الأطباء أخبروها أنها ناجمة عن "صدمة تعرض لها جسمه بعد تناوله حبات من العنب بعد انقطاع دام نحو عامين لم يعتد فيها جسمه الصغير على تناول الفواكه أو مواد غذائية تحتوي على السكر".
لدى الأم منى (30 عاما) أسرة من 5 أفراد، تقيم حاليا في مخيم النصيرات بعدما أجبرت على النزوح قبل بضعة أشهر من منزلها في مخيم المغازي للاجئين وسط القطاع.
وتقول إن "المرض والمجاعة شتّتوا شملنا وفرقوا بين الأم وأطفالها. أنا هنا بالمستشفى مع خالد، وأطفالي هناك بعيدا عني منذ 5 أيام، ولا أعلم متى يتماثل طفلي للشفاء وأعود إليهم ونجتمع معا".
ومع كل غارة تسمع بها على مخيم النصيرات، أحد أكثر مناطق وسط القطاع عرضة للقصف الجوي والمدفعي، تقول منى "أرتجف وأشعر أن قلبي سيخرج من بين ضلوعي قلقا على أسرتي وأطفالي.. هل هذه حياة؟ إننا نعيش الموت في كل لحظة وبكل وسيلة، قصفا ومرضا وجوعا".
ويعاني طفلها خالد تضخما بالقصبة الهوائية، وسخونة شديدة تصل إلى 39 درجة، ويزداد قلق والدته على مصيره مع الواقع المنهار داخل المستشفى وشحّ المحاليل والأدوية.
وتقول "هنا لا علاج، وفي منازلنا وخيامنا لا يتوفر الطحين والطعام (..) هذا ليس سوء تغذية بل انعدام للتغذية، وتجويع متعمّد هدفه قتلنا جميعا".
ووفق آخر التحديثات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة، فقد سجلت مستشفيات القطاع 15 حالة وفاة، بينها 4 أطفال، بسبب المجاعة وسوء التغذية خلال الساعات الـ24 الماضية، لترتفع حصيلة ضحايا سياسة التجويع الإسرائيلية إلى 101 حالة وفاة، بينها 80 طفلا منذ اندلاع الحرب.
وفي سياق مرتبط بهذه السياسة التي تصفها هيئات محلية ودولية بأنها "ممنهجة" وتقوم على "هندسة التجويع"، يواصل الاحتلال ارتكاب جرائم يومية بحق المجوّعين ومنتظري المساعدات والباحثين عن "لقمة العيش".
ويوثق المكتب الإعلامي الحكومي استشهاد ما يزيد على ألف فلسطيني، وجرح أكثر من 6 آلاف آخرين، في حين لا يزال 45 في عداد المفقودين، نتيجة استهدافهم في ما يسميها "مصايد الموت" على أعتاب مراكز توزيع المساعدات التابعة لمؤسسة غزة "الإنسانية" المدعومة أميركيا وإسرائيليا.
وترفض الأمم المتحدة الخطة الإسرائيلية، وترى أنها تفرض مزيدا من النزوح، وتعرّض آلاف الأشخاص للأذى، وتَقْصر المساعدات على جزء واحد فقط من غزة ولا تلبي الاحتياجات الماسّة الأخرى، وتجعل المساعدات مقترنة بأهداف سياسية وعسكرية، كما تجعل التجويع ورقة مساومة.
كثيرون من منتظري المساعدات هم آباء وأرباب أسر، خلّفوا وراءهم زوجات وأمهات مكلومات وأطفالا باتوا أيتاما، وتتلاعب بهم خطوب الحياة القاسية.
يقول رجل أربعيني نازح من رفح في خيمة بمواصي خان يونس ويعيل أسرة من 5 أفراد -لم يكشف هويته- للجزيرة نت "في كل مرة أذهب للحصول على المساعدات تودعني زوجتي بالدموع، لأنها تعلم أنها رحلة موت، ولكن لا خيار لدي، إما الموت أو جلب الطعام لأسرتي وأطفالي".
أما محمد العواودة (19 عاما) فقد اعتاد الذهاب إلى مركز توزيع المساعدات في منطقة " محور نتساريم " وسط القطاع، وفي مرات قليلة تمكن من العودة بشيء من طعام لأسرته (8 أفراد)، في حين نجا مرارا من موت محتم.
فقبل نحو أسبوع توجه العواودة برفقة صديقه بحثا عن الحطب شرق مخيم البريج ، القريب من السياج الأمني الإسرائيلي، فاستهدفتهما قذيفة دبابة إسرائيلية، ومكثا ينزفان على الأرض أكثر من ساعة قبل نقلهما إلى مستشفى شهداء الأقصى.
كان العواودة يبحث عن الحطب لبيعه وتوفير الطعام لأسرته، ويقول للجزيرة نت "بدلا من العودة بالحطب والطعام ها أنا مبتور الساق لا أستطيع الحركة".
تمضي والدته إيمان (40 عاما) ساعات النهار برفقته في المستشفى، وتحاول تحريره من الحالة النفسية السيئة التي يعاني منها، قبل أن تعود مع مغيب الشمس لأسرتها في منزلها المدمر جزئيا في المخيم.
وبحزن والدموع تحتبس أسفل نقابها، تقول إيمان "كان محمد كتلة من النشاط والحركة، ومنذ طفولته تحمل المسؤولية في مساعدة الأسرة على أعباء الحياة، وعمل قبل اندلاع الحرب في مخبز وفي قطاع البناء، واليوم بات معاقا مبتور الساق، يحتاج إلى من يساعده، وانقلبت حياتنا رأسا على عقب، وحتى الدواء اللازم له لا نمتلك المال لتوفيره".