في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
القدس المحتلةـ في تطور يثير قلقا واسعا داخل إسرائيل ويكشف الأثمان البشرية العميقة والممتدة للحرب على قطاع غزة ، شهد الجيش الإسرائيلي ارتفاعا غير مسبوق في حالات الانتحار والأزمات النفسية في صفوف جنوده منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وسُجلت هذا الأسبوع حالة انتحار جديدة في صفوف جيش الاحتلال، حيث أقدم مقاتل من لواء " غولاني " على إنهاء حياته في قاعدة عسكرية جنوب البلاد.
والجندي كان قد غادر قطاع غزة للعودة إلى قاعدة سدي تيمان ، حيث كان في انتظاره محققو الشرطة العسكرية لاستجوابه في إطار تحقيق فتح قبل نحو شهر.
وبعد خضوعه للتحقيق، قرر قادته سحب سلاحه الشخصي، لكن في ساعات الصباح الباكر، استولى على سلاح أحد زملائه أثناء نومه وأطلق النار على نفسه، تاركا رسالة انتحار.
وبحسب المعطيات الرسمية الصادرة عن الجيش، سُجل عام 2024 وحده 21 حالة انتحار في صفوف الجنود، وهو أعلى رقم منذ أكثر من عقد. كما وثقت السلطات العسكرية 17 حالة أخرى في عام 2023، في حين سُجل حتى منتصف 2025 حوالي 14 حالة انتحار جديدة، مما يجعل هذه الفترة إحدى أكثر الفترات دموية من هذه الناحية في تاريخ جيش الاحتلال.
وترجع الأوساط العسكرية والإعلامية الإسرائيلية هذا الارتفاع إلى الضغوط النفسية الهائلة التي عاشها الجنود، خاصة في ظل تعبئة أكثر من 300 ألف من قوات الاحتياط، الذين خدم كثيرون منهم لأشهر طويلة في غزة والمناطق الحدودية تحت ظروف شديدة القسوة.
وتعرض هؤلاء الجنود لمواجهات دموية في قلب أحياء مدمرة ومكتظة، وواجهوا تهديدات يومية من الكمائن والعبوات والقناصة، مما فاقم مستويات التوتر والصدمة.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن الانتحار بات السبب الثاني للوفاة في صفوف الجيش، بعد القتال المباشر، في حين يعترف المسؤولون العسكريون بأن طول أمد الحرب والعبء النفسي غير المسبوق الذي فُرض على المقاتلين كان له أثر مباشر في زيادة هذه الأرقام.
إلى جانب حالات الانتحار، تفاقمت أيضا ظواهر الإضرابات النفسية والانسحابات من الأدوار القتالية بسبب الضائقة العقلية، إذ أعلن الجيش أن آلاف الجنود توقفوا عن أداء مهامهم القتالية منذ بدء الحرب.
وأظهرت تقارير صحفية أن المشكلة لا تقتصر على من هم في الخدمة الفعلية، بل تطال أيضا من خلعوا زيهم العسكري، مع تسجيل حالات انتحار لجنود سابقين أصيبوا باضطرابات ما بعد الصدمة.
وتُسلط هذه الأرقام المقلقة الضوء على كلفة الحرب الخفية التي لا تقاس فقط بعدد القتلى في المعارك (890 جنديا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بينهم 446 في الحرب البرية على غزة)، ولا بأكثر من 6 آلاف جريح، بل بما تتركه من ندوب نفسية عميقة على أجيال كاملة من الجنود.
وتثير هذه المعطيات نقاشا داخليا صعبا في إسرائيل حول الأهداف والإستراتيجيات في غزة، وسط دعوات متزايدة لإعادة تقييم جدوى استمرار العمليات البرية الطويلة، وتحذيرات من عواقب تفاقم الأزمة النفسية في صفوف الجنود على التماسك الاجتماعي والثقة بالمؤسسة العسكرية.
يقول مراسل صحيفة "هآرتس" للشؤون المجتمعية، توم ليفينسون، إن الأرقام المقلقة التي سجلت مؤخرا تعكس ارتفاعا واضحا في معدلات الانتحار بين أفراد الجيش الإسرائيلي منذ بدء الحرب على غزة، مما يثير تساؤلات حادة عن الضغوط النفسية الهائلة التي يواجهها الجنود في ظل ظروف أمنية ومعيشية صعبة.
وأوضح ليفينسون أن المؤسسة العسكرية تعزو هذا الارتفاع إلى تعبئة واسعة النطاق، خاصة في صفوف قوات الاحتياط، حيث خدم مئات الآلاف لأشهر طويلة في جبهات قتالية معقدة.
وأشار إلى أن نسبة كبيرة من حالات الانتحار سجلت بين الجنود في الخدمة الفعلية، مما يعكس حجم العبء النفسي الذي يرافق المهام العسكرية اليومية.
وبحسب ليفينسون، فإن العديد من الجنود المنتحرين تعرضوا لصدمات قتالية تركت آثارا عميقة على صحتهم النفسية، سواء في الحرب الحالية أو في تجارب سابقة.
كما شدد على أن الأرقام الرسمية الصادرة عن الجيش لا تشمل أولئك الذين أنهوا حياتهم بعد تسريحهم وخلع زيهم العسكري، رغم أن معاناتهم النفسية ارتبطت بشكل مباشر بالخدمة العسكرية.
ونقل ليفينسون شهادات لجنود يخدمون حاليا داخل قطاع غزة، ويعانون من القلق واضطرابات نفسية، عبروا فيها عن شعورهم بالتخلي عنهم بعد إرسالهم إلى أتون معركة مفتوحة.
قال أحدهم "أرسلتمونا إلى المعركة، فاستمعوا الآن إلى ما لدينا لنقوله". وهي رسالة اختصر بها 5 جنود نظاميين يومياتهم في حرب لا تنتهي، يصفون فيها حماسا تحول إلى إحباط، ولحظات فشل وانكسار، وصعوبة متزايدة في التأقلم مع الحياة المدنية خارج الجبهة، ويعترفون بخوفهم من أن يرافقهم هذا الكابوس إلى الأبد.
يصر الجيش الإسرائيلي على أن عدد حالات الانتحار المسجلة حتى الآن "ليس مرتفعا" مقارنة بحجم التعبئة الضخم منذ اندلاع الحرب، مشيرا إلى أن عدد جنود الاحتياط المجندين تضاعف تقريبا، مما يفسر برأيه الزيادة المسجلة في الأرقام.
لكن البروفيسور يوسي ليفي بلاز، رئيس مركز أبحاث الانتحار في مركز روبين الأكاديمي، يقدم تحذيرا أكثر قتامة، فهو يرى أن ما سجل حتى الآن قد لا يكون سوى بداية، محذرا من أن "موجة الانتحار الحقيقية قد لا تزال قادمة".
ويشرح ليفي بلاز في دراسة نشرها مركز روبين الأكاديمي أن الأرقام الحالية، التي تبدو في نظر البعض "معقولة" أو "قابلة للتفسير" في ضوء حجم القوات المجندة، قد تكون مضللة.
ويوضح أن الأزمات الجماعية الحادة، مثل هجوم 7 أكتوبر ، تميل في البداية إلى خفض معدلات الانتحار، لأن الناس يشعرون بأنهم جزء من مواجهة مشتركة ضد "عدو خارجي"، وهو شعور قد يؤجل الأزمات الشخصية.
ويضيف البروفيسور "في مثل هذه اللحظات، يكون الناس أقل انشغالا بمعاركهم الداخلية. لكن مع مرور الوقت، ومع التراجع التدريجي في الشعور بالوحدة الوطنية أو زوال الإحساس بالخطر الخارجي، تعود الأزمات الداخلية وتطفو على السطح، وغالبا بقوة أكبر".
هذا التحذير يسلط الضوء على خطر كامن يواجه الجيش الإسرائيلي والمجتمع الأوسع في الفترة المقبلة، مع استمرار الحرب وتراكم آثارها النفسية على الجنود وأسرهم.