هذا المقال بقلم الصحفي والكاتب اللبناني عمر حرقوص*، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN .
في خطاب هو الأبرز منذ اندلاع المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل، خرج المرشد الإيراني علي خامنئي بموقف، بدا فيه كما لو أنه يعيد ضبط نغمة الخطاب السياسي الإيراني: من شعارات الثورة الإسلامية العابرة للحدود، إلى نبرة ترفع "الوطن الإيراني" فوق كل اعتبار، وربما مقدمة لتحول أوسع في مفهوم إيران لنفسها ولدورها في الإقليم .
خامنئي، الذي طالما عُرف بتمسكه بالمفاهيم الثورية مثل "تصدير الثورة"، و"الأمة الإسلامية"، و"المستضعفين في الأرض"، اختار في خطابه الأخير التوجه إلى الداخل الإيراني بلغة السيادة الوطنية، والردع القومي، والحفاظ على مصالح إيران العليا. استُبعدت من خطابه مفردات كـ"نصرة محور المقاومة" و"الولاء المطلق لخط الولي الفقيه"، وحل مكانها خطاب أقرب إلى القومية الواقعية التي تستبطن حسابات الدولة، لا مبادئ الثورة فقط .
ولكن هل يعبّر هذا التحول عن تغير حقيقي في بنية النظام الإيراني؟ أم مجرد مناورة ظرفية أملتها التحديات المتزايدة داخلياً وخارجياً؟
أثبتت الحرب الأخيرة مع إسرائيل ، والتي دامت 12 يوماً، أن إيران ليست قادرة على إدارة حرب مباشرة إقليمية واسعة على أكثر من جبهة. في السابق لم تتورط طهران مباشرة بالحروب ضد الولايات المتحدة ولا ضد إسرائيل، بل فضلت استغلال ما يسمى بالأذرع، مستعملة بالمقابل خطاب "الردع الهادئ" والقدرة على التحكم في التصعيد .
ولكن الحروب منذ السابع من أكتوبر 2023 أدت إلى استنزاف الأذرع، فنقلت إسرائيل المواجهة إلى الأرض الإيرانية. انتهت المعركة ووجدت طهران نفسها أمام تحول جديد، العمل للحفاظ على حضورها في المنطقة ومنع نقل المعركة مجدداً إلى أراضيها. وتلك هي النقطة المفصلية التي تفسر ربما انتقال خطاب خامنئي من رجل دين على رأس نظام يقود ميليشيات وأذرع في الخارج إلى سياسي يقود دولة .
قبل أعوام اغتالت مسيرة أميركية القيادي بالحرس الثوري قاسم سليماني في العراق، يومها أعادت طهران قراءة دورها الإقليمي بواقعية أكبر، وبدل أن تفتح حرباً مع "العدو الأكبر"، فضلت قصف مواقع بالعراق بعد إبلاغ واشنطن بموعد الضربة، وهو ما كررته الشهر الماضي في الرد على القصف الأميركي لمواقع نووية إيرانية، بمهاجمة قاعدة العديد في قطر بعد إبلاغ واشنطن لتحضير قواتها لمواجهة الصواريخ، ليظهر هنا أن الحرب فرضت معادلة جديدة تقول: ليس كل ما يُمكن فعله أيديولوجياً، يمكن تحمله سياسياً واقتصادياً .
وبهذا المعنى، فإن خطاب خامنئي الأخير لا يبدو ارتجالياً، بل ثمرة تراكم في مؤسسة الحكم، التي وجدت نفسها أمام خيار بقاء الثورة أو بقاء النظام، فانتقلت لحماية النظام عبر التورية، حيث يستطيع نائب الولي الفقيه بغياب "المهدي المنتظر" أن يعود للعب دور رجل السياسة، يحاور ويناور، ويزيح جانباً دور رجل الدين الذي يقود الأذرع المدافعة عن النظام، بانتظار التحولات التي تفرض تغييراً بالمنطقة .
من الجائز القول إن التركيز المفاجئ على "إيران أولاً" قد يخدم النظام داخلياً. ففي ظل تآكل الثقة، وانهيار العملة، وضجر أجيال جديدة من لغة الثورة بعد تراجع طهران عن "فرصة إزالة إسرائيل"، يبدو اللعب على وتر "الهوية الوطنية الإيرانية" أشبه بمحاولة استعادة السيطرة الرمزية على الداخل .
لكن في المقابل، من السذاجة تجاهل أن النظام الإيراني يجيد الازدواج الخطابي، فهو يقدم وجهاً وطنياً عاقلاً للخارج، فيما يستبطن وجهاً أيديولوجياً صلباً عند الحاجة، وبالتالي، فإن "الوطنية" في خطاب خامنئي قد تكون مناورة تكتيكية لتحسين وضع إيران التفاوضي، أو تغييراً إستراتيجياً مزمناً نحو بناء إيران كقوة إقليمية، لا فقط كثورة دائمة .
الواقع أن خامنئي لم يتخل عن أدوات الثورة، لكنه قد يعمل على إعادة ترتيبها، "حزب الله"، "الحشد الشعبي"، "أنصار الله الحوثي"، "الجهاد الإسلامي" و"حركة حماس" ما زالوا أوراق نفوذ مهمة، لكنها لم تعد تحرك كما كانت سابقاً بسبب الاختراق الإسرائيلي الذي سبب لها ضربات قاسية .
إيران قد تكون بصدد تحول تاريخي من "ثورة الإسلام" إلى "دولة إيران". لا يعني هذا بالضرورة انقلاباً على النظام، لكنه يعني بداية فصل جديد: حيث يتقاطع الأمن القومي مع السيادة، وتصبح الوطنية الإيرانية غطاء مشروعاً لكل خيارات البقاء. ولكن هل يستطيع النظام الحفاظ على هذا التوازن، أم أن الأيديولوجيا ستعود للواجهة حين تنتهي الحاجة التكتيكية لخطاب "إيران أولاً"؟
الأيام المقبلة لا سيما مع تصاعد ملفات التفاوض والضغط الإقليمي ستُظهر ما إذا كان خطاب خامنئي الأخير لحظة صدق نادرة، أم مجرد فصل جديد في فن البقاء السياسي الإيراني .
* عمر حرقوص، صحفي، رئيس تحرير في قناة "الحرة" في دبي قبل إغلاقها، عمل في قناة "العربية" وتلفزيون "المستقبل" اللبناني، وفي عدة صحف ومواقع ودور نشر .