غزة- في مدينة الحرب وعلى شاطئها المحاصر، حبٌّ بلا قيود، حكاية كان بطلاها نسيم وخطيبته علا الناجيان من الإبادة حتى تلك اللحظة، واللذان هربا من دائرة النار إلى مقعدين بسيطين متلاصقين في مقهى شعبي على شاطئ بحر غزة ، بحثا عن هواء لا تعبقه رائحة البارود، وعن صوت للحياة يعلو على هدير المدافع، يطلقان بصرهما بعيدا حيث الأفق، ويحلمان بالسفر بعد الحرب إلى بلاد بعيدة تتجاوز الحدود والحصار.
وبينما يهمس نسيم لعلا وهو يشدّ على كفها "لا حرب هنا.. لا شيء سوى الحب"، تبوح هي بخوفها من فقدٍ جديد لا يحتمله قلبها، بعدما خطف الموتُ شقيقتها وأمها التي لم يتحقق حلمها بأن تراها عروسا، لكن الحرب أصرّت أن تُعزز شعور علا وخوفها، حيث قطعت الغارة حوارها عن هواجس الموت الذي انقضّ على آخر ما تعلّق به قلبها، و تقول "وقع الانفجار ولم يكن نسيم يبعدُ عني سوى خطوة واحدة".
وتتابع روايتها للجزيرة نت "نظرتُ إلى رأسه أولا وتأكدت أنه سليم فاطمأننت، فأنا أعلم أن إصابات الرأس قاتلة، ظننت أنه بخير وطلبت من المسعف أخذه أولا، وما إن رفعوه حتى تدفّق الدم من ظهره المفتّت، قلت له: نسيم، ابق بخير أمانة يا حبيبي".
لم تكن علا تعلم أن هذا آخر عهدها بشريك عمرها، وأن نظراتها إليه ستكون الأخيرة، والتفتت إلى قدمها النازفة وأوتارها المقطعة، ليحملها المسعفون إلى المشفى، وهناك، لم تتوقف عن السؤال عن خطيبها نسيم الذي كان قد استشهد، لكنّ عائلتها أخفت عنها الخبر، الذي قرأته بعيون من كانوا يلتفون حولها بدموعهم ونظراتهم المشفقة، وتختم حديثها متسائلة: ماذا بيني وبين الموت حتى ينقضّ على كل كيان أجد معه سعادتي؟".
وبينما نسف الصاروخ الإسرائيلي قصة حب بين علا وخطيبها، لم يكن في حسبان الشابة منى جودة أن ترتقي على شاطئ البحر الذي أحبته وهرعت إليه من أذى الحرب وضجيجها، فلم يمر يومان على حديث منى (21 عاما) مع والدتها عن الشعور الذي وجدته أمام البحر بعد أن افتقدته منذ بداية الحرب، حين أخبرتها قائلة "وجدتُ راحة غريبة على البحر، سأتردد دوما إليه لأخفف من ضغط العمل".
وعلى غير العادة تأخرت منى التي انخرطت منذ مطلع الحرب بالعمل الإنساني ومساعدة الأيتام، وكانت قد طلبت من والدتها انتظارها لتناول طعام الغداء معا، وخلال ذلك مرّ على مسامع الأم خبر استهداف كافتيريا الباقة، فقادها انقباض قلبها للخروج من المنزل بحثا عنها.
تقول هالة -شقيقة منى- للجزيرة نت "أصرت أمي على الذهاب إلى مشفى الشفاء لتفقد المصابين، علّ منى تكون بينهم، فلم تجدها، ثم دخلت ثلاجات الموتى واصطدمت بجثمان رغد صديقة منى المقربة التي كانت برفقتها، وراحت تنادي "وينك يا ماما"، وبعد ساعتين من البحث المضني بين الإصابات والجثامين، تلقت اتصالا يفيد بأن منى مُسجّاة على أرض المشفى المعمداني ، وأنها شهيدة".
"كأنها كانت تودعنا"، تضيف هالة والدموع تخنقها، وتتابع عن اللحظات التي سبقت استشهادها، حيث "أصرت منى على ارتداء ملابس بيضاء، وعانقت الجميع بلا سبب، حتى في العمل كانت كعصفورة تطير بين رفيقاتها كأنها تتجهز لحفل كبير".
ورفضت منى -تواصل هالة- السفر رغم إتاحة الفرصة لذلك، وأصرَّت على البقاء مع والديها بغزة، وباختيارها رفضت تركهم لوحدهم، لكن الحرب أبعدتها عنهم قسرا للأبد.
وبينما هرعت منى إلى البحر بحثا عما يخفف عنها إرهاق العمل، فإن عددا كبيرا من العاملين عن بُعد والصحفيين المستقلين يجدون فيه مساحة بديلة للعمل، خاصة بعدما جفّت منافذهم مع انقطاع والاتصال والإنترنت والكهرباء والنزوح المتكرر، إذ وفَّرت هذه ما يحفزهم على اللجوء إليها من إنترنت، وكهرباء للشحن، وفنجان قهوة يعيد إليهم -رغم ثمنه المرتفع- ذاكرة ما قبل الحرب.
وفي كافتيريا الباقة، حيث ارتكب الاحتلال مجزرة قبل أيام، جلس الصحفي وديع أبو سعود، مراسل قناة اليمن الفضائية في شمال غزة، لا ليهرب من مهمته، بل ليؤدّيها، ويقول للجزيرة نت إنهم يرتادون هذه الأماكن للحصول على الإنترنت لنقل موادهم الصحفية عبر الشرائح الإلكترونية التي يتطلب تشغيلها وجودهم غربا نحو الميناء، أو صعودهم لأماكن مرتفعة، ويضيف "لكن كل علوّ صار يقابله صاروخ، فبتنا نلجأ للمقاهي للعمل".
ولم تشكل هذه المقاهي للصحفيين نقطة اتصال فقط، بل مهربا مؤقتا من التغطية الدامية لمشاهد الدم والمجازر اليومية.
وأصيب أبو سعود بتلك المجزرة، ويقول "وجدت الأرض مفروشة بأشلاء الشهداء، بينهم أطفال ونساء، وزملاء وأصدقاء أعرفهم بالاسم والملامح"، ويختم "من بين مجازر كثيرة شهدتها خلال الحرب، كانت هذه مختلفة، لأنني كنت هناك لا لأغطي، بل لأتنفس، ولكن هذا يبدو محرّما علينا أيضا".
ولم تكن مجزرة "كافتيريا الباقة" استهدافا عابرا، بل جريمة محو جماعي قُتل فيها 33 إنسانا، لكل منهم قصة، ووجهة، وغاية، لم يكن أي منهم يتوقع أن مقعدا على الشاطئ سيكون موضع قدره ونهايته.
نسق متكرر من الاستهداف المتعمد لأي بقعة يتنفس عبرها الغزيون هواء غير الدخان والبارود، ويسمعون فيها شيئا مختلفا عن صوت الحرب، وينتزعون راحة مؤقتة من جحيمها.
كما لم تكن تلك المجزرة الأولى من نوعها، فقد سبقتها عدة استهدافات مشابهة لمقاهٍ واستراحات شعبية في شمال القطاع وجنوبه.
وفي حين نجا وديع من موت محقق في كافتيريا الباقة، لم ينج الصحفي يحيى صبيح من استهداف مقهى التايلندي الذي راح ضحيته 39 شهيدا، وكان واحدا منهم، حيث تنقل بين المقاهي بحثا عن زاوية يؤدي فيها مهامه الصحفية كمتعاون مع منصات ومواقع إخبارية.
وقابلت الجزيرة نت أمل زوجة الشهيد يحيى، التي كانت تبوح له بخوفها عليه في كل مرة يخرج بها من المنزل، خاصة مع تعمد الاحتلال استهداف الصحفيين، وقد كانت محاولاتها لمنعه تبوء بالفشل، فيجيبها "دعيني أمت مع الناس، حاملا وجعهم، هذا أهون من أن أموت وحدي صامتا".
وتقول أمل "كنتُ أستعطفه بحملي جنينا، فيقول لي إذا بقيت حيا فسأكون سندهم، وإذا استشهدت فسيكونون سندك".
وضعت أمل طفلتها، وبعد 5 ساعات فقط اصطحب يحيى رفاقه لزاويته في المقهى ذاته، ليقدم لهم حلوى بمناسبة سلامة زوجته، ليرتقي معهم جميعا، وليتحول يوم ميلاد الطفلة ليوم عزاء لوالدها الذي لن تسمع صوته.
أيام قليلة فصلت بين مجزرتي الباقة والتايلندي، سبقتها مجازر أخرى استهدفت بشكل مباشر مقاهي شعبية راح ضحيتها العشرات، بعدما كانت هذه الأماكن بمثابة نوافذ ضوء لأهالي مدينة تخنقها الحرب، لكن الاحتلال لم يتركها خارج بنك أهدافه، زاعما وجود "مطلوبين" داخلها، الأمر الذي ينفيه الناجون من هذه المجازر ويؤكدون أن عائلات من سيدات وأطفال ومدنيين هم من يرتادونها.
كما يستهجن الغزيون ذلك متسائلين "إن كانت مزاعم الاحتلال صحيحة فلماذا يصر على استهدافهم بين الجموع؟" ويجيبون أنفسهم بأن إسرائيل تصر على وأد كل محاولة بسيطة يسعون عبرها لإيجاد متنفس من الموت، والخوف، والوجع، فتقتلهم فيها عن سبق إصرار وترصد.