وجدت المظاهرات الحاشدة في تركيا على مدار الأيام الماضية صدىً في أعمدة الرأي في الصحف العالمية، وسنحاول فيما يلي أن نستعرض بعضاً من تلك الآراء.
نبدأ جولتنا من مجلة فورين بوليسي الأمريكية، حيث نطالع مقالاً بعنوان "لا يمكن لتركيا أن تنعم في وجود أردوغان أو بدونه"، للباحث ستيفن أيه كوك.
واستهل ستيفن حديثه بالقول "إنه من الصعب أن نحدّد على وجه الدقّة متى انزلق أردوغان على منحدَر الثقة المفرطة بالنفس كسياسي ناجح حتى وصل إلى الغطرسة النرجسية".
"ربما حدث ذلك في أثناء زيارة له بمصر في أعقاب انتفاضات ما يُعرف بالربيع العربي، عندما احتشد مصريون كثيرون للترحيب بالزعيم التركي"، يجيب الكاتب على السؤال الذي طرحه.
ويضيف "لا بُدّ أن رمزية هذا الاستقبال الحاشد لم تغِبْ عن بال أردوغان، وهو الذي ينتمي إلى تيار سياسي يرى في زوال الإمبراطورية العثمانية ومجيء الجمهورية حادثة تاريخية مؤسفة"، وفقاً لستيفن.
أو ربما حدث هذا الانزلاق إلى الغطرسة النرجسية في تركيا في يونيو/حزيران 2013، عندما خرجت حشود بمئات الألوف في أنحاء البلاد إظهاراً لدعم وتأييد "السيد العظيم". أو ربما حدث ذلك لأردوغان بعد فشل انقلاب 2016، عندما واتتْه الفرصة وأخذ يتخلّص من خصومه الحقيقيين والمتوهَّمين على السواء - في عملية تطهير واسعة لم تنته حتى الآن، وفق ما أورد المقال.
ويرى الكاتب أنه يمكن رسم خط مستقيم يصل بين تلك الأحداث التي ذكرناها وبين آخر خطوة أقدم عليها أردوغان حتى الآن، وهي اعتقال أكرم إمام أوغلو - آخر خصومه الذي يمثلون خطراً حقيقياً.
وإذا كانت خطوة اعتقال إمام أوغلو جريئة، فإنها محسوبة أيضاً؛ بحسب صاحب المقال، ذلك أن أردوغان يعلم أن دونالد ترامب في البيت الأبيض لن يحاسبه على التخلص من خَصم محتمل. كما أن الأوروبيين يتوددون الآن إلى تركيا لدواعٍ أمنية، في ظل تراجُع واشنطن على صعيد التزاماتها الأمنية إزاء حلفائها في الناتو.
"لكنّ أردوغان، رغم ذلك، قد لا ينجح؛ فإذا كان استطاع قراءة المشهد الأمريكي والأوروبي قراءةً صحيحة، فإن غطرسته فيما يبدو أنْسَتْه أن يحسب حساب الأتراك"، على حدّ تعبير الكاتب.
فربما لم يخطر ببال أردوغان أن يخرج الأتراك في حشود، احتجاجاً على اعتقال رئيس بلدية اسطنبول إمام أوغلو، لكن هذا ما حدث بالفعل. حيث يقول كاتب المقال إنه "من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه هذه الانتفاضة في تركيا، لكنْ أيّاً ما كانت النتيجة، فهي لن تكون جميلة".
ويحذّر مراقبون من مغبّة نجاح مقامرة أردوغان، التي ستعني أنّ تحوُّل تركيا إلى المسار الاسبتدادي سيُمسي مضموناً. لكن الكاتب يرى أن هذه ليست القضية؛ فتركيا من وجهة نظره سارت في هذا المسار الاستبدادي بالفعل. لكنّه اتخذ في تركيا شكلاً تنافسياً - إذ هناك انتخابات في تركيا وأحياناً يفوز فيها خصومٌ لأردوغان، من أمثال إمام أوغلو - فيما يُطلق عليه الباحثون مصطلح "الاستبدادية التنافسية".
لكن مصطلح "الاستبدادية التنافسية" لا يوصّف الحالة التركية بشكل دقيق، بحسب الكاتب، الذي أشار إلى أن خصوم أردوغان عندما يفوزون، فإنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً بهذا الفوز؛ ذلك أن أردوغان استطاع على نحوٍ ما أن يستخدم أدوات السلطة لإبطال أثر نتائج الانتخابات التي لا توافق هواه، فأفرغ بذلك مصطلح "الاستبدادية التنافسية من مضمونه".
"وهنا تكمن مشكلة الأتراك وغيرهم من الشعوب، التي تتجرأ بأن تحلم بالحياة بعد زوال حُكّامها من أمثال أردوغان"، على حدّ تعبير الكاتب، الذي يرى أن رحيل أرودغان لا يعني بالضرورة أنّ القادم أفضل في تركيا، وفي التجربة المصرية بعد رحيل حسني مبارك مثال على ذلك، بحسب صاحب المقال.
وننتقل إلى صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية، حيث نطالع مقالاً بعنوان "لا يمكن لأوروبا أن تعيد أخطاءها في تركيا"، للباحثة غونول تول، مديرة مركز الدراسات التركية في معهد الشرق الأوسط.
واستهلت الكاتبة بالقول إن ما تشهده تركيا من مظاهرات هي الأكبر من نوعها منذ عقود، لا يتعلق بمصير رئيس بلدية أو معارض بارز فحسب، بل بما هو أكبر من ذلك بكثير.
وتشير الكاتبة إلى اعتقال أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية اسطنبول، والمنافس السياسي الأبرز للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بتُهم تتعلق بالفساد، وإقالته من منصبه، قبل أيام معدودة من إجراء حزب الشعب الجمهوري المعارض انتخابات تمهيدية رمزية كان أوغلو هو المرشح الوحيد فيها.
وتجد الكاتبة أن الحكومة التركية تجاوزتْ ذلك الحدّ الذي كان يميّز النظام "الاستبدادي التنافسي" في تركيا، عن الأسلوب الاستبدادي الروسي، في أعين طلاب الجامعات الذين هم في صدارة المشهد.
ولم يعُد هؤلاء الطلاب غاضبين على أردوغان فقط، وإنما امتدّ غضبهم إلى القادة الأوروبيين كذلك.
وفي مظاهرة في إسطنبول، تساءل أحد الطلبة: "أين الاتحاد الأوروبي، الذي يتشدّق دائماً بكلمات الديمقراطية وحقوق الإنسان، أين هو بينما يتعرّض مستقبلنا للسرقة؟ فيما نتعرّض نحن للضرب أثناء دفاعنا عن هذا المستقبل!".
ورأت الكاتبة أن المتظاهرين في تركيا يخاطرون مخاطرة كبيرة في معرِض الدفاع عن مستقبل الديمقراطية في البلاد؛ فالشرطة تستخدم العنف المتزايد بينما تُشدد الحكومة رقابتها عبر الإنترنت؟
وعلى الرغم من إغلاق السلطات للطرق وحظْرها للتظاهُر، إلا أنّ ما يقرب من 15 مليون شخص أدلوا بأصواتهم لصالح إمام أوغلو، متجاوزين بذلك إجمالي ما حصل عليه الحزب من أصوات في انتخابات 2023.
تقول الكاتبة إن في ذلك "إشارة واضحة إلى رفض الناس لقبضة أردوغان المُحكمة على السلطة".
"لكن الطريق وعرة" بحسب غونول؛ إذ بقي على الانتخابات الرئاسية ثلاث سنوات، ما يجعل الحفاظ على هذا الزخم صعباً، لا سيما مع لجوء الشرطة إلى العنف المفرط.
وحذّرت الكاتبة من أن أردوغان قد يلجأ إلى بعض التكتيكات ذاتها التي سبق واستخدمها من قبل مع مظاهرات قامت ضده فنزع عنها غطاء الشرعية ووطّد حُكمه.
ونبّهت غونول إلى إتقان أردوغان "دور الضحية"، إزاء مظاهرات حاشدة في 2013، بقولها إن الرئيس التركي يمكن أن يقوم بالدور نفسه مجدداً الآن، عبر تصوير المظاهرات بأنها مؤامرة للإطاحة بحكومته ومطالبة أنصاره بالتصدّي لتلك المؤامرة.
لكن مثل هذه التكتيكات قد تكلّف أردوغان الكثير هذه المرّة؛ فالاقتصاد التركي الآن ليس كما كان في 2013، حيث تكبّدت الليرة التركية والأسهم والسندات خسائر فادحة.
وتخلص كاتبة المقال إلى أنه في حال لم يعد الهدوء بسرعة، فإن المشكلات الاقتصادية التركية مرشحة للتفاقم.
وترى غونول، أن أردوغان يستفيد من المناخ الدولي المتساهل على نحو غير معتاد. ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لا يخشى أردوغان أي انتقادات أمريكية؛ ذلك أن "ترامب مشغول للغاية بتقويض الديمقراطية في بلاده، على نحو لا يجد معه وقتاً لمحاسبة المستبدّين في الخارج"، بحسب الكاتبة.
أيضاً القادة الأوروبيون يتطلعون إلى دور للقوات التركية في أوكرانيا؛ "وبينما يتخذ أردوغان المزيد من الخطوات لتعزيز سلطويته، يُبدي القادة الأوروبيون استعداداً للتغافل عن ذلك شريطة أن تساهم تركيا في التصدي لروسيا"، تضيف.
واختتمت غونول بالقول: "ها نحن الآن إزاء منعطَف مُهمّ على الصعيد السياسي التركي، ولا ينبغي لأوروبا أن تعيد أخطاءها؛ ففي ظل ترامب لم تعُد هناك فرصة للتذرُّع بأن الولايات المتحدة تتصدى للدفاع عن القيم الديمقراطية، وعلى أوروبا أن تملأ هذا الفراغ، كما أن تعزيز الدفاعات ضد روسيا لا يكفي لتأمين العالم الحُر ضد الاستبداد".
ونختتم جولتنا من صحيفة ديلي صباح التركية، التي نشرت مقالاً بعنوان "سياسات الشارع والمسؤولية السياسية"، للكاتب نيبي ميش.
واستهل نيبي مقاله بالقول إن حزب الشعب الجمهوري يتبنّى استراتيجية "التعتيم حتى على أخطر الادّعاءات عبر تسييس الإجراءات القانونية، ووصفها بأنها مسيَّسة"، في إشارة إلى التحقيق مع رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو.
"دعاوى فساد كبرى يجري تصويرها كما لو كانت لا تعتمد إلا على شهادات سِريّة، بينما يتمّ تجاهل تقرير مجلس التحقيق في الجرائم المالية، وتقرير الإحالة الصادر عن وزارة الداخلية، فضلاً عن نتائج فَحْص سِجلات المكالمات والرسائل، وملفات المناقصات والتقارير الضريبية"، بحسب الكاتب.
ورأى نيبي ميش، أن حزب الشعب الجمهوري، يتذرّع بالقول إن "الثقة في القضاء متدنية"، في محاولة لتشويه سُمعة المحاكمة من البداية، بحيث تبدو النتيجة مثيرة للجدل مُسبقاً، "إنهم يستهدفون تعزيز فكرة عدم الثقة في القضاء" عبر هذه السردية، كما يقول الكاتب.
ويضيف في مقاله أنه عبر استخدام مواد أُعدّتْ لوسائل إعلام أجنبية، يسعى حزب الشعب الجمهوري إلى إثارة الانتقادات ضد تركيا في الخارج، لتعزيز فكرة أن المستثمرين لن يأتوا إلى تركيا، ثم يتمّ الترويج بأن التقلبات في سعر الصرف واضطرابات البورصة هي نتيجة لقرارات الحكومة - وأنه لولا ذلك التحقيق ما حدث شيء من هذا كله.
وعليه، فإننا إزاء "محاولة اختزال الإجراءات القضائية وتقزيمها لتصبح مجرّد عُنصر في معادلة السلطة والمعارضة السياسية"، يقول الكاتب.
واتهم الكاتب حزب الشعب الجمهوري بمحاولة التأثير على الإجراءات القضائية، عبر خلق أجواء ضاغطة من خلال تبَنّي خطاب "الدعوات إلى النزول للشوارع"، وتبنّي تعبير"الانقلاب السياسي" وغير ذلك.
كما اتّهم صاحب المقال، المُعلّقين المؤيدين لحزب الشعب الجمهوري في وسائل الإعلام بالترويج لفكرة أن "هذه المخالفات تقع أيضاً في بلديات تابعة للحزب الحاكم، فلماذا لا تواجِه شخصيات الحزب الحاكم المتورطة المصيرَ نفسَه الذي يواجهه أكرم إمام أوغلو الآن"؟
وتساءل الكاتب "لمَ لا يقول هؤلاء المعلّقون إنّ أيّ شخص يتورّط في الفساد يجب أن يخضع للمساءلة"؟
ومضى نيبي ميش قائلاً إن: "افتراض أنّ المتهم بريء حتى تثبت إدانته هو مبدأ قانوني عالميّ، لكنْ يجب ألا ننسى كذلك أنّ هناك مبدءاً عالمياً آخر يقول إن الضغط على القضاء لا يمارسه فقط مَن هم في السلطة".
واختتم الكاتب بالقول إن "المعارضة تحمل القدرَ نفسه من المسؤولية الذي تحمله الحكومة من أجل أن تنعم الدولة بالسلام والاستقرار... وإن الطريق إلى السلطة مُعبَّدةٌ بالمسؤولية السياسية، وإن السياسيين الذين لا يُقدّرون تبِعات الدعوات إلى النزول للشوارع لن يمنحهم المجتمع الشرعية التي يحتاجونها".