آخر الأخبار

النقب: العراقيب قرية هدمتها إسرائيل أكثر من 200 مرة ويعيش أهلها "في خيم وسيارات متنقلة"

شارك الخبر
مصدر الصورة

"الوضع بشكل عام مأساوي جداً، والظروف المعيشية صعبة للغاية؛ فلا ماء ولا كهرباء ولا بنية تحتية، ولا خدمات تعليمية أو صحية". ربما يبدو هذا وصفاً لأحد سكان غزة بعد أكثر من عام من الحرب التي دمرت القطاع الفلسطيني وبنيته التحتية، لكن الحقيقة أن هذا هو الوضع الدائم منذ أكثر من نصف قرن في قرية العراقيب بصحراء النقب في إسرائيل، حسبما قال نجل أحد أشهر زعماء القرية لبي بي سي.

يسكن العراقيب اليوم 22 عائلة، ويقدر عدد سكانها بنحو 87 شخصاً، وفق عزيز صياح، نجل الشيخ صياح الطوري، شيخ قرية العراقيب، الذي يوصف بأنه أحد أبرز "مناضليها". ويقول عزيز لبي بي سي إن قسماً من هؤلاء السكان "يعيش في سيارات متنقلة"، وقسماً آخر يبني الخيم والبيوت بأبسط المواد "من الخشب وقماش اليوتا والنايلون".

لم يكن هذا تعداد سكان قرية العراقيب قبل نحو عقد من الزمن؛ فوفقاً لـ "منتدى التعايش السلمي في النقب من أجل المساواة المدنية"، الذي أسسه عدد من المواطنين العرب واليهود، فإن عدد سكان العراقيب كان يقدر بنحو 400 نسمة حتى 27 يوليو/تموز عام 2010 حين تعرضت بيوت القرية للإزالة من قبل السلطات الإسرائيلية.

هذا يعني أن عدد سكان العراقيب تقلص خلال عشر سنوات إلى أقل من الرُبع، في إطار مرحلة من مراحل تراجع عدد سكان القرية منذ ما يصفه سكانها بـ "المجزرة" التي شهدتها القرية عام 1948، مروراً بالحكم العسكري الإسرائيلي والنزوح القسري للسكان، بحسب ما حكاه شهود عيان من القرية ممن عاصروا فترة الخمسينيات.

ويحذر منتدى التعايش السلمي في النقب، من أن الخطر الأساسي على القرية هو "الهدم والاعتقالات وأعمال البلطجة واستخدام الأسلحة ضد سكان القرية".

وعلق عزيز صياح بأن العراقيب هي "أول قرية تهدم بيوتها بالكامل" في النقب، كنوع من "الاختبار" لرد فعل الأهالي، لتطبيق الفكرة ذاتها على بقية القرى غير المُعترف بها إسرائيلياً، بحسبه.

وأكد أن "المضايقات والملاحقات والاعتقالات للشباب والنساء" مستمرة حتى يومنا هذا لأهالي القرية، مضيفاً أن "الصندوق القومي اليهودي حاول أكثر من مرة غرس أشجار حرجية [أشجار للزينة]، خاصة على أرض الشيخ صياح الطوري، ويقومون دائماً باعتقالات للأهالي، والتنكيل بهم ومصادرة سياراتهم ومحتويات البيوت".

مصدر الصورة

"سميت ابنتي عراقيب"

مصدر الصورة

تقع العراقيب في المنطقة الشمالية من صحراء النقب إلى الشمال من بئر السبع، وتتبع رسمياً التقسيم الإداري أو ما يعرف بـ"قضاء" بئر السبع، منذ العهد العثماني مروراً بالانتداب البريطاني وحتى اليوم.

ويقول المؤرخ والأكاديمي الدكتور إبراهيم أبو جابر عن تحديد موقعها في كتابه "العراقيب: التاريخ، الأرض، الإنسان" الذي صدر في عام 2018، إنها تقع بين الضفة الغربية "جبل الخليل"، وقطاع غزة.

ويصف عزيز صياح الموقع بأنه "استراتيجي"، بيد أن هناك العديد من البلدات "اليهودية" التي تفصل بين العراقيب وبين الضفة من ناحية، وبينها وبين غزة من ناحية أخرى، بحسبه.

مصدر الصورة مصدر الصورة

وقد اكتسب اسم القرية شهرة واسعة بسبب عمليات الهدم ومصادرة ممتلكات سكانها باستمرار خلال العقد الأخير، حتى إن السيدة صباح زوجة عزيز صياح، ابن شيخ العراقيب، قررت أن تطلق اسم "عراقيب" على إحدى بناتها، عندما علمت فور ولادتها بإحدى عمليات الهدم والتجريف المستمرة منذ عام 2010 للقرية.

وقالت السيدة التي تبلغ 47 عاماً لبي بي سي: "سميتها عراقيب كي تحمل القضية برمتها بتاريخها وحاضرها".

ملكية متوارثة

تعود ملكية العراقيب إلى عدد من العشائر العربية التي سكنت المنطقة قبل مئات السنين، "وربما آلاف السنين" بحسب المؤرخ الفلسطيني أبو جابر. ويعود تاريخ تأسيس القرية إلى عهد العثمانيين.

ويقول المؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة في دراسة بعنوان "العراقيب هي فلسطين"، إنه بعد أعوام قليلة من بسط العثمانيين سيطرتهم على بلاد الشام ومصر، فرضت الدولة الضرائب على الأراضي المزروعة.

وأشار أبو ستة إلى وثيقة نادرة للضرائب العثمانية تعود إلى نحو 400 عام قبل تأسيس دولة إسرائيل، صدرت في عام 1569، توضح أن الأراضي "التي تدعي إسرائيل في محكمة بئر سبع أنها قفْر لا صاحب لها"، هي أرض "مفتلحة [مزروعة] يعيش عليها أهلها ويدفعون عنها الضرائب".

وذكر أبو ستة أن من بين تلك الأراضي "خربة الجعيثني" التي عُرفت بأرض بني عقبة خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، وكان يسكنها في القرن السادس عشر أكثر من 43 عائلة، بحسب الدراسة.

وتقدر مساحة ديرة العراقيب بحسب أبو جابر بنحو 100 ألف دونم أو كيلومتر، معظمها أراضٍ زراعية. ويقول أبو جابر إن العراقيب تسكنها اليوم عشائر عربية ذكرها بالتفصيل في كتابه الذي حصلت بي بي سي على نسخة منه.

وأوضح المؤرخ أبو جابر الذي تنحدر أصوله من قرية العراقيب، أن هذه الأراضي ملكية خاصة "أبا عن جد" لتلك العشائر، وأن بحوزة أصحابها "مستندات رسميّة" تثبت ذلك قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948، لكن السلطات الإسرائيلية سنّت العديد من "القوانين العنصرية"، وفق تعبير أبو جابر، "لتتمكن من مصادرتها".

وقد تواصلت بي بي سي مع وزارة العدل الإسرائيلية للتعليق، ولم تتلق أي رد حتى الآن؛ لكن المؤرخ الإسرائيلي موردخاي نيسان قال لبي بي سي عربي إن القانون والسياسة الإسرائيلية لا يعترفان "بحق العودة" للعرب إلى منازلهم أو أراضيهم السابقة من عصور ما قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية عام 1948.

وأضاف نيسان لبي بي سي أن هذا القانون "يتفق مع المبدأ القائل بأن العدوان يُبطل الحقوق"، متهماً العرب بارتكاب "أعمال عدائية عسكرية" في ديسمبر/كانون الأول عام 1947، قبل إعلان قيام دولة إسرائيل بنحو خمسة أشهر.

وعلق الباحث الإسرائيلي في دراسات الشرق الأوسط قائلاً إن العرب "يدفعون الآن ثمن شن الحرب" قبل نحو 77 عاماً.

الانتداب البريطاني

يرى المؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة في دراسته أن أكثر ما ساهم في سلب وثائق الملكية في القرية وغيرها من مناطق النقب هي فترة الانتداب البريطاني التي صدر فيها تقرير عام 1921 لمسح كامل الأراضي والتثبت من وجود الوثائق القانونية الدامغة لملكية "كل دونم في فلسطين".

ويقول أبو ستة إن حكومة الانتداب بات في استطاعتها تصنيف معظم الأراضي بأنها "موات"، أي لا مالك لها، بحكم أن الأغلبية الساحقة من الأراضي مملوكة ومزروعة بحكم العرف والعادة والتوارث من جيل لجيل.

ومع ذلك، فقد أرفق أبو ستة وثيقة باللغة الإنجليزية، تُعرف بقرار تشرشل، وزير المستعمرات آنذاك، في سنة 1921 بالاعتراف بحقوق أهالي قضاء بئر السبع بحسب العرف والعادة.

وأرفق المؤرخ الفلسطيني أبو ستة مع الوثيقة ترجمة باللغة العربية توضح ما جاء في اجتماع وفد من مشايخ بئر السبع مع وزير المستعمرات البريطانية في 29 مارس/آذار 1921، في مقر الحكومة في القدس، ونصت الوثيقة على ما يلي:

"وقد أعاد وزير المستعمرات تأكيد الوعود التي أعُطيت في بئر السبع من جانب المندوب السامي للمشايخ بأن الحقوق الخاصة وعادات القبائل البدوية في بئر السبع لن يجري التعرض لها".

كما تضمنت دراسة "العراقيب هي فلسطين" خريطة قانون انتقال الأراضي لسنة 1940 الذي يحدد الأراضي العربية الصرفة التي يُمنع اليهود من التملك فيها، والأراضي اليهودية التي يُسمح لليهود بالتملك فيها، والأراضي ما بين هذا وذاك، بإذن من المندوب السامي مباشرة.

وتوضح الخريطة أن المنطقة "أ" ومساحتها 16.680، هي أرض عربية صرفة لا يُسمح لليهود بالتملك فيها، وتشمل مساحة قضاء بئر السبع التي تتبع لها قرية العراقيب، ومناطق أخرى.

ويعلق المؤرخ الفلسطيني بأن "إسرائيل استولت على هذه الأراضي كلها بعد الغزو الصهيوني سنة 1948 وسجلتها أراضي دولة، إلا أن بريطانيا لم تسجل أراضي بئر السبع أراضي دولة قط. ولو كانت أراضي قفراً كما تدعي إسرائيل لسجلتها بريطانيا أراضي دولة".

"مجزرة العراقيب"

ذكر الكتاب والمؤرخون الفلسطينيون، بناء على شهود عيان، أن القرية شهدت توترات منذ ما يُعرف بـ"النكبة" في مايو/أيار عام 1948 (إعلان تأسيس دولة إسرائيل)، بدأت بمنعهم من حراثة أرضهم وحصادها ورعي الغنم، وقتل بعض الأفراد، ثم انتهت بـ"مذبحة" جماعية راح ضحيتها 14 من أفراد القرية.

وذكر الدكتور إبراهيم أبو جابر أن هناك قائداً عسكرياً إسرائيلياً، يعرف باسم مستعار "موشيه خواجا"، أو "موسى العير" من مستوطنة مشمار هنيغب، كان يجوب النقب مع مجموعة من مسلحين آخرين، فصادف مجموعة من 14 بدوياً، بينهم فتيان صغار وشباب كانوا يعملون في الحقول.

ويقول الكاتب إن المستوطنين أرغموا المزارعين على ركوب شاحنة عسكرية، واقتادوهم إلى منزل مهجور للاجئ فلسطيني يدعى عودة القواسمة، وهناك جرى "إعدام" الفلسطينيين الأربعة عشر وألقيت جثثهم داخل البيت الطيني.

وقد تعرض الضحايا للطعن بالسلاح الأبيض بعد إطلاق الرصاص عليهم للتأكد من موتهم، بحسب الكاتب، الذي أكد عدم نجاة أحد من تلك "المجزرة" باستثناء خليل محمد أبو العطار الزوايدة، الذي فارق الحياة بعد ساعات من نقله إلى بيته في الفخاري.

ويعلق الشيخ صياح الطوري بأن دولة إسرائيل "لم تعترف حتى الآن بالمجزرة، ولم تحاول الصلح مع عائلات الشهداء" رغم التعرف على الشخص المسؤول عما حدث، مضيفاً أن "مجزرة العراقيب" لم تحظ باهتمام الكثير من المؤرخين بالنظر إلى بُعدها الجغرافي عن بؤرة الأحداث آنذاك في القدس والضفة الغربية.

وينقل الدكتور أبو جابر عن السكان المحليين قولهم إن الدافع وراء ارتكاب "مذبحة العراقيب" عام 1948 هو الرغبة في زرع الخوف في نفوس الأهالي وحملهم على الرحيل والاستيلاء على أراضيهم، بينما رأتها السلطات الإسرائيلية عمليات "وقائية" لمنع التسلل من قطاع غزة إلى الداخل أو إلى جبل الخليل، و"لحمل سكان العراقيب على الامتناع عن إيواء وتقديم المساعدة للثوار الفلسطينيين"، ولحماية المستوطنات اليهودية القريبة، وفق بيان للسلطات الإسرائيلية تعقيباً على هذه الواقعة.

نزاع قضائي

يقول الدكتور إبراهيم أبو جابر إن السلطات الإسرائيلية "أوهمت" السكان بإمكان العودة إلى أراضيهم بعد أشهر من تدريبات عسكرية "مزعومة" إبان الحكم العسكري عام 1951، ما دفع السكان إلى العودة إلى أراضيهم أكثر من مرة، قبل أن يهجّروا مجدداً على يد السلطات الإسرائيلية.

وما بين عامي 1952 و 1953، سجلت الدوائر الإسرائيلية المختصة أراضي العراقيب التي "أجبِر أصحابها على إخلائها"، ضمن أراضي الدولة، ما عرف فيما بعد بقانون امتلاك الأراضي. وفي العام التالي، منحت الدولة أراضي العراقيب لشركة يهودية لفلاحتها.

ويعلق عزيز صياح الطوري على ذلك متهماً السلطات الإسرائيلية بـ"التحايل" لمصادرة الأراضي، موضحاً ما تناقله أهل القرية عن أهاليهم بشأن ما حدث في الخمسينيات، قائلاً إنه طُلِب من الأهالي النزوح من أرضهم نحو الشمال نصف كيلو متر لفترة من الزمن كانت نحو 6 أو 7 أشهر، "وخلال تلك الفترة، أصدروا قوانين في الكنيست تحت الحكم العسكري".

وأضاف الطوري لبي بي سي أن القانون نصّ على أن كل إنسان غير موجود على أرضه، تصبح أرضه تلقائياً أرض دولة، و"لم يكن أحد على علم بأنهم أصدروا قانوناً يسلب ملكية تلك الأراضي".

وبحسب الطوري، حين أراد سكان القرية العودة، وافق الحاكم العسكري على ذلك مقابل دفع مبلغ مالي "كإيجار" للأرض، ما رفضه أهل العراقيب قائلين "إن ذلك يعني أن الأرض ليست أرضنا، والأرض أرضنا".

وفي عام 1969، صدر ما يسمى "قانون التسوية" في النقب، الذي يقضي بمنح كل صاحب أرض ما مقداره 20 في المئة من إجمالي مساحة الأرض، والباقي 80 في المئة على شكل تعويضات مالية مقابل تنازل أصحاب الأرض عن أراضيهم، وهو ما رفضه أهل العراقيب، بحسب المؤرخ الدكتور إبراهيم أبو جابر.

ويضيف أبو جابر أن السلطات الإسرائيلية لجأت إلى وسيلة أخرى، وهي "رش الأراضي الزراعية بالمبيدات الكيماوية، مستخدمين الطائرات"، ما اضطر الأهالي للجوء إلى القضاء والطرق القانونية، التي لم يُبتّ فيها حتى اليوم.

وقد تواصلت بي بي سي مع وزارة العدل الإسرائيلية لتوضيح تفاصيل الوضع القانوني لقرية العراقيب، ولم تتلقّ رداً حتى الآن.

ويرى المؤرخ الإسرائيلي موردخاي نيسان أن قضية العراقيب "ليست معقدة"، متهماً البدو باستغلال القصة وتضخيمها "كأداة لتشويه سمعة إسرائيل"، التي يقول إنهم ينكرون شرعيتها وينكرون سلطة المحكمة العليا.

وأكد نيسان لبي بي سي أن أحكام المحكمة الإسرائيلية "لا لبس فيها؛ فلا يوجد دليل أو توثيق لملكية البدو للأرض التي يدعون ملكيتها لهم. وبالتالي فإن الأرض هي أرض دولة".

ومع ذلك، عرضت الحكومة على البدو، بحسب نيسان، قطعاً سكنية وأموالاً في رهط القريبة من العراقيب، معلقاً بأن "هذا كرم" من الدولة الإسرائيلية "يتجاوز نص القانون".

"أبادوا كل شيء حتى الطيور"

عاد أهالي العراقيب إلى أراضيهم في قريتهم منذ التسعينيات، لكن الحكومة الإسرائيلية لم تعترف بهذه القرية وبعشرات القرى العربية الأخرى في النقب، ويعني ذلك عدم تزويدهم بالكهرباء أو الماء أو البنية التحتية.

ورغم تلك الظروف "غير العادلة" بحسب سكان العراقيب، فإنهم تعايشوا لعشرات السنين وهيأوا لأنفسهم سبل حياة "معقولة"، وكانوا يتلقون الخدمات الصحية والتعليمية في مدينة رهط التي تبعد عن القرية نحو 10 كليومترات.

وعاش سكان العراقيب لفترة طويلة على المولدات الكهربائية التي تُشحن بوقود يُقسَّم ثمنه على سكان القرية، كما حكى عزيز صياح لبي بي سي، وكان لكل طفل "كمبيوتر محمول"، كل ذلك قبل أن يفاجأ أهل العراقيب بهدم قريتهم بالكامل ومصادرة كل ممتلكاتهم في السابع والعشرين من يوليو/تموز عام 2010.

اسرائيل تهدم قرية عربية في النقب يقطنها أكثر من 300 شخص

وذكر تقرير لمنظمة العفو الدولية أن عملية إجلاء الأهالي نُفذت "بالقوة على أيدي ما يربو على 100 من قوات مكافحة الشغب. وهُدم ما لا يقل عن 46 بيتاً واقتلعت آلاف أشجار الزيتون وغيرها من الأشجار، بينما صودرت ممتلكات شملت مولدات كهرباء ومركبات وثلاجات".

ويعلق عزيز صياح على عملية الهدم هذه قائلاً: "خسرت بيتي ومذكراتي ووثائق شخصية وأدوات منزلية للمطبخ وأجهزة الغاز والثلاجة والتلفزيون وكل شيء، وهي محتويات بيت كامل لأب وأم وستة من الأبناء"، ولم يعد باستطاعة الناس شراء البديل حتى يومنا هذا.

وتصف زوجته السيدة صباح ما حدث في ذلك الوقت بأنه "إبادة" للحياة في العراقيب، قائلة: "لقد أبادوا [السلطات الإسرائيلية] كل شيء، المنازل والشجر وحتى الطيور [الدواجن]".

وقالت في حديثها لبي بي سي "عشت أنا وأسرتي أياماً صعبة، فقد كان الأطفال ينامون وهم يرتدون 'الكنادر'"، في إشارة إلى النعال والأحذية، خوفاً من مداهمة مفاجئة خلال الليل.

وأضافت أنها ونساء القرية صرن يتناوبن إذا ما أردن الخروج من القرية لقضاء حاجتهن من مدينة رهط التي تبعد عن القرية مسافة نصف ساعة، فإذا ما حدثت مداهمات من السلطات الإسرائيلية، أرسلن تحذيراً لمن هن في الخارج.

وأعربت عن الخوف الذي يعيش فيه الأهل حين يغادر رب البيت منزله لاصطحاب أولاده إلى المدرسة، فرغم أن المسافة بين القرية ومدينة رهط قريبة، إلا أن الجميع يعيش شعوراً دائماً بالخطر، خوفاً من المداهمات للمنازل وقت غياب رجل البيت.

ومنذ عام 2010، نفذت الدولة أكثر من 200 عملية هدم وتجريف لما تبقى من أنقاض العراقيب، حيث لجأ الأهالي إلى بناء خيام من القماش وبيوت من الخشب، محرومين من تربية الدواجن والأغنام، وصاروا يعتمدون على اللحوم الجاهزة من المدينة، بحسب السيدة صباح.

ويعلق الدكتور موردخاي نيسان على ذلك قائلاً إن إبعاد العرب عن العراقيب أكثر من 200 مرة بسبب "البناء غير القانوني"، "يسلط الضوء على عدائهم المسلح لإسرائيل".

"أعادوا العراقيب إلى زمن الأجداد"

قالت صباح إن السلطات الإسرائيلية أعادت من تبقى من سكان العراقيب إلى زمن الأجداد، حيث "صارت الخيمة تضم الأب والابن والبنت والحفيد"، موضحة عدم وجود خصوصية لندرة الموارد.

ومع ذلك، فإن الأشياء المادية كالغاز وغيره يمكن تعويضها، بحسب صباح، لكن ما يفتقده أهل العراقيب هي "الراحة النفسية" فبدونها "لا حياة".

وأوضحت صباح أن منفذي عمليات الإزالة في كل مرة وحتى اليوم، يحملون كاميرات في صدروهم تسجل كل شاردة وواردة، ويُمنع منعاً باتاً على سكان القرية وقت الإزالة، لمس أي شيء من المتعلقات في الخيم والمنازل، التي لا تحتوي إلا على الجرار والقليل من الصحون وأشياء بسيطة.

ووصف عزيز الصياح عمليات الهدم بأنها "مُركّبة"؛ فمن يصدرُ قرار الهدم هو مفتش دائرة أراضي إسرائيل، ومن ينفذ الهدم مقاول، تحميه وحدة "يوآف" الشرطية الإسرائيلية، ويقول إنها "مخصصة لهدم منازل البدو في النقب".

يُذكر أن منظمة العفو الدولية قد أصدرت تقريراً في مايو/أيار 2024 عن الإخلاء القسري وهدم بيوت النقب، وأشارت فيه إلى وحدة "يوآف" الشرطية الإسرائيلية التي أُنشئت عام 2011 "بهدف ظاهري يتمثل في إنفاذ القانون ووقف البناء غير المرخص في البلدات البدوية في النقب".

تعرف على قرية خان الأحمر البدوية التي تسعى إسرائيل لهدمها

وحذرت المنظمة من الإخلاء القسري لعدد من قرى النقب "تحت غطاء التطوير العمراني"، الذي تستخدمه السلطات الإسرائيلية "كأداة لتهجير البدو وحرمانهم من حقوقهم، وإجبارهم على العيش في جيوب أصغر فأصغر من الأرض، في مثال واضح لنظام الأبارتهايد [الفصل العنصري] الإسرائيلي"، وفق تقرير المنظمة.

ويقول عزيز صياح إن "ما زاد الطين بلة" أن قضت المحكمة بأن يدفع أهل العراقيب ما يقارب المليون و800 ألف شيكل [نحو نصف مليون دولار] تعويضاً عن تكاليف هدم السلطات الإسرائيلية للقرية في المرات الثماني الأولى"، كما قضت في عام 2018 بحبس والده الشيخ صياح مديغم الطوري لعشرة أشهر مع دفع 11 ألف دولار كغرامة.

وفي قضية أخرى، حُكم على عزيز صياح نفسه وزوجته بالحرمان من المعيشة في قرية العراقيب، لكن هذا لم يمنعهما من التردد عليها لزيارة المقابر والآبار ورصد ما يحدث هناك من "انتهاكات"، بحسبهما.

وتقول صباح إنها تعلمت التصوير للتوثيق على يد سيدة يهودية من منتدى التعايش السلمي تدعى حيانوح، تبلغ 75 عاماً، وهي من سكان بئر السبع، واصفة إياها بأنها "أكثر من الأخت" بالنسبة لها، وأنها تقف إلى جوار "قضية العراقيب" مادياً ومعنوياً.

"إسرائيل تخشى أن تكون العراقيب سابقة ملهمة"

"هناك قوانين في إسرائيل، لكن لا يوجد قانون ينصف العربي في حقه في ملكية الأرض"، هكذا قال عزيز صياح، معرباً عن عدم ثقته في نظام القضاء الإسرائيلي، بعد محاولات قانونية باءت بالفشل.

وحكى عزيز قصة يقول إنها حدثت في قرية "الزرنوقة" غير المعترف بها في النقب، شأنها شأن العراقيب، وكان بها يهودي اشترى قبل تأسيس دولة إسرائيل قطعة أرض من أحد البدو، وقد اعترفت السلطات الإسرائيلية له وحده بملكيتها، لكنها رفضت الاعتراف بوثائق بقية الأراضي التي يملكها البدو العرب.

وعلق على ذلك بأنه "لا يوجد عدل هنا في المحاكم الإسرائيلية تجاه الأقلية العربية في الداخل. حتى القضاء أداة لسلبنا حقنا".

وأوضح لبي بي سي قائلاً: "حاولنا فتح ملفات أكثر من مرة، لكن الدولة تستخدم هذه الملفات ضدنا، آخرها ملف الملكية على الأرض. وحتى هذه الساعة لا يوجد قرار في المحكمة بالنسبة لملكية الأرض".

وقد تواصلت بي بي سي مع وزارة العدل الإسرائيلية للتعليق على هذه الاتهامات، ولم نتلقّ رداً حتى الآن.

وعلق ميخائيل سفارد، الخبير الإسرائيلي في قانون حقوق الإنسان، على هذا الأمر، قائلاً: "لأكون صادقاً، أعتقد أن السلطات القضائية لم تعطهم أي سبب للثقة بهم".

وأضاف سفارد، المحامي عن مجتمع العراقيب لبي بي سي، أن السبب السياسي وراء رفض إسرائيل الاعتراف بالعراقيب هو أن السلطات تخشى أن تكون العراقيب "سابقة ملهمة للعديد من السكان الآخرين" لاستعادة أراضيهم.

وقال إن إسرائيل ترغب في أن تضع يدها على تلك الأراضي "لتطوير المجتمعات اليهودية"، وأن يكون البدو العرب محصورين "في منطقة صغيرة وكثيفة" بدلاً من امتلاك مساحات واسعة من الأرض.

في حين، انتقد موردخاي نيسان تمسك سكان العراقيب بأراضيهم، مقارناً بينهم وبين سكان قرية كفر برعم في الجليل، والتي تعد من أشهر القرى المهجرة خلال عام 1948 بالتزامن مع قيام دولة إسرائيل.

وحكى الباحث الإسرائيلي أن سكان هذه القرية من الطائفة المارونية المسيحية أجبروا على الرحيل بأمر من الجيش الإسرائيلي في حرب 1948، "ولم يكن لديهم أي عداء تجاه اليهود"، ورغم موافقة المحكمة الإسرائيلية على حقهم في العودة، إلا أن الحكومة الإسرائيلية رفضت.

وعلق نيسان لبي بي سي قائلاً: "هذا ربما كان سيشكل سابقة خطيرة لعودة عربية جماعية إلى القرى التي كانت قائمة قبل عام 1948" واصفاً السماح لهذا "الطوفان الديموغرافي" بالعودة بأنه يشكل تهديداً للدولة اليهودية.

وأضاف المؤرخ الإسرائيلي بأن المارونيين لم يتظاهروا منذ ذلك الحين أو يهاجموا الحكومة، بل ذهبوا للعيش في بلدة الجش المجاورة، قائلاً "إنهم يحترمون الدولة ويعترفون بشرعيتها تماماً. لكن العراقيب حالة مختلفة".

وقال عزيز صياح إن سكان العراقيب مواطنون لدولة إسرائيل، "لكن هذه الدولة لا تنظر إلينا بمنظار المواطنة والحقوق"، مؤكداً استمرار "الدفاع عنها بالوسائل المتاحة لنا وبالطرق السلمية".

"الصبر والتحدي"

تقول صباح إنها خضعت للاستجواب ست مرات، "هددوني خلالها بغرف التعذيب، وأروني كيف يصلبون السجين كنوع من التهديد"، مؤكدة أنها رغم شعورها بالتعب إلا أنها "لن تستسلم".

وأعرب زوجها عزيز صياح الطوري عن أمله في الاعتراف بقرية العراقيب، لاسيما بعد الاعتراف بعشرات القرى تحت اسم "مجلس إقليمي لكل ست قرى، من خلال النضال المستمر والعنيد في النقب"، رغم أن "هذا الاعتراف منقوص"؛ لأنه لا يسمح ببناء أو إصدار تراخيص للبيوت في تلك القرى، حسبما يقول.

وأضاف أن قضية العراقيب تحولت إلى نوع من التحدي، "فمنذ 1948 وحتى 2010، لم تُهدم قرية بشكل كامل إلا قرية العراقيب كتجربة أولى"، كما يقول، "والأهالي مصممون على الصبر والتحدي رغم شح الموارد".

وتقول زوجته التي أنجبت ستة أبناء من الذكور والإناث، إنه على الرغم من زواج اثنتين من بناتها إلا أنهما تترددان على العراقيب التي تمثل لهما ذكريات طفولتهما.

وأعربت صباح عن رغبتها في أن يعيش أبناؤها وأحفادها في أمان وسلام، وألا يضيع هباء ما فعله الأجداد "الذين كافحوا وضحوا بالكثير في سبيل شراء هذه الأرض منذ قديم الزمان".

ويقول الحقوقي الإسرائيلي سفارد إن "القانون الدولي هو المجال الوحيد والمعيار الوحيد الذي يوفر لمجتمعات السكان الأصليين كالعراقيب، الكرامة والحقوق التي يحق لهم الحصول عليها".

وأضاف أن اللجوء إلى القانون الدولي في هذه الحالة سيضع المحكمة [الإسرائيلية] في موقف صعب، فسيتعين عليها إما قبول المعايير الدولية وإعطاؤهم [أهل العراقيب] حقوقهم، أو الاعتراف بأنها لا تكترث للقانون الدولي، وهو ما يضعها في حرج".

واختتم عزيز صياح الطوري حديثه لبي بي سي قائلاً: "نحن على يقين تام بأن الاعتراف بقرية العراقيب آتٍ لا محالة. وإنْ كانت الدولة [الإسرائيلية] لا تعترف بنا، فنحن نعترف بأنفسنا".

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك الخبر

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا