كلّنا نطمح، في حياتنا المهنيّة، لاختبار ما عاشه صانع القبعات الأمريكي إيريك جافيتس خلال اليومين الماضيين: أن نُحدث اختراقاً يجعلنا حديث الناس. لكن قلّة قليلة تحظى، مثل جافيتس، بفرصة دخول التاريخ، بفضل قبعة.
فبينما كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوقّع قرارات تنفيذية قد تغيّر وجه الولايات المتحدة، من إقفال الحدود مع المكسيك إلى الانسحاب من "منظمة الصحة العالمية"، كان كثيرون يصبّون تركيزهم على القبّعة الكحلية التي غطّت جبين زوجته ميلانيا وعينيها، وحجبت عن وجهها قبلته، ومنعت الكاميرات من ترصّد تعابير وجهها.
كثيرون شبّهوها بقبعة زورو، وآخرون قالوا إنها تذكّرهم بقبعات مايكل جاكسون، بينما رأى بعضهم فيها النسخة الداكنة من القبعة الحمراء للبطلة الخيالية كارمن ساندييغو. حتى أن إحدى ناقدات الموضة في مجلّة "غلامور" كتبت أنها تذكّرها برمز "إنكوغنيتو" الخاص بالتصفّح المجهول في غوغل.
ماذا نعرف عن عملتي ترامب وميلانيا الرقميتين؟
ستة عوامل قد تكبح خطط ترامب خلال ولايته الثانية
يقول جافيتس، مصمّم القبّعة، في مقابلة مع قناة "سي بي إس" الأمريكية بعد حفل التنصيب: "في يديّ، بدت (القبعة) بسيطة ومتواضعة، لكن حين اعتمرتها ميلانيا مع الإطلالة الكاملة، منحتها حضوراً قوياً".
يبدو أن فريق ميلانيا ترامب طبّق حرفياً مقولة جورجيو أرماني (1934): "الأناقة ليست في لفت الأنظار، بل أن تبقى حاضراً في الذاكرة". كذلك تنسجم إطلالتها مع مقولة إيف سان لوران (1936-2008): "مع مرور السنين، أدركتُ أن ما يهمّ في الفستان هو المرأة التي ترتديه".
فهل كانت القبعة لتترك الوقع ذاته لو ارتدتها سيدة أخرى، وفي مناسبة مختلفة؟
يبدو أن ميلانيا ترامب أرادت أن تفتتح ولاية زوجها الثانية بصورة مختلفة تماماً عما عُرفت به سابقاً. ففي ظهوراتها الإعلامية خلال ولاية زوجها الأولى، كانت تبدو مرتبكة أحياناً، وغالباً ما كان المعلقون على مواقع التواصل الاجتماعي يتناقلون لقطات تسلّط الضوء على انزعاجها أو عدم ارتياحها، أو مللها، وكأنها كانت مجبرة على التواجد أمام الكاميرات، أو كأنها كانت تحاول أن تخفي موقفاً سلبياً من المسؤوليات المرتبطة بدورها كزوجة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن هذه المرة، يبدو أنها أكثر ثقة واستعداداً لأخذ دور الزوجة الوقورة، تماشياً مع القيم المحافظة التي يسعى ترامب لإظهار التزامه الراسخ بها.
لطالما تجاوزت القبّعات دورها كإكسسوار بسيط، إذ ارتبطت برموز اجتماعية ورسائل سياسية، وكانت حاضرة في خزائن أبرز الشخصيات، من سيدات البيت الأبيض إلى أفراد العائلات الملكية.
اكتسبت القبّعات بُعداً هويّاتياً، إذ كانت تعكس المكانة والطبقة الاجتماعية، قبل أن تصبح جزءاً من الموضة اليومية، متربعة على أغلفة المجلات، وفي إطلالات المشاهير الذي يعتمرونها كعلامة على تميّزهم وفرادة أساليبهم في اللباس.
قبل ذلك، وإن عدنا إلى القرون الوسطى في أوروبا مثلاً، سنجد أن اعتمار القبعات اقتصر على الطبقات الأرستقراطية، إذ كانت تحاك من خامات نادرة مثل الحرير الثمين والريش، وتمتثل لتصاميم تعكس قواعد صارمة في فرز مراتب النبلاء.
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تغيّرت مكانة القبّعات، لتتحول من رمز للطبقية إلى عنصر أساسي في الحياة اليومية. وأتاح التقدّم الصناعي إنتاجها على نطاق واسع، مما جعلها متوفرة لشريحة أكبر من الناس.
رغم ذلك، شهدت القبّعات تراجعاً تدريجياً في شعبيتها بعد الحرب العالمية الثانية، مع صعود صيحات أكثر عملية وبساطة. لكنها بقيت جزءاً لا غنى عنه في المناسبات الرسمية والاحتفالية، من حفلات الزفاف والمآتم الملكية إلى مراسم التنصيب الرئاسية.
تُعد جاكلين كينيدي واحدة من أبرز أيقونات الموضة اللواتي رسّخن نمطاً جديداً من القبعات خلال الستينيات. خلال حفل تنصيب زوجها جون كينيدي عام 1961، اختارت قبعة بيضاوية من نمط "بيلبوكس"، بتصميم هالستون، وبقيت ترتدي قبعات مشابهة خلال إطلالاتها وزياراتها الرسمية. صُمّمت تلك القبعات لتستقر بخفّة فوق رأسها، وغالباً ما انسجمت ألوانها مع فساتينها ومعاطفها.
في الثمانينيات، اعتمدت نانسي ريغان أسلوباً مختلفاً، إذ ارتدت قبّعات من أقمشة فاخرة وبألوان جريئة وزاهية، تعكس بريق هوليوود الذي شكّل جزءاً من شخصيتها العامة، وطبع ولاية زوجها، الرئيس (والممثل السابق) رونالد ريغان.
أما في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية، فقد ارتدت هيلاري كلينتون ولورا بوش القبّعات في المناسبات الرسمية بين الحين والآخر، من دون أن تكون عنصراً بارزاً في إطلالاتهما.
ومع ذلك، التزمتا بها في المناسبات الرسمية مثل الجنازات الوطنية، لما تضفيه من احترام لقواعد اللباس الرسمي.
ميشيل أوباما من جهتها، اشتهرت بخياراتها الجريئة في الفساتين كتعبير عن شخصيتها العصرية القريبة من نساء الطبقة الوسطى، لكنها ارتدت القبّعات في مناسبات محدودة، مثل القداديس أو المناسبات الرسمية. الأمر نفسه ينطبق على جيل بايدن.
أما قبعة ميلانيا ترامب، في المقابل، فقد وصفتها مجلتا "غلامور" وفوغ" المتخصصتان بالموضة، بأنها "شديدة، وقورة، ومحتشمة"، و"بسيطة بشكل غير متوقع".
ولم تكن هذه المرة الأولى التي تتقن فيها ميلانيا اختيار القبّعات، إذ أنها لفتت الأنظار في عام 2018 بقبّعة بيضاء ضخمة ارتدتها خلال استقبالها للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزوجته في البيت الأبيض.
لاحقاً، عرضت تلك القبعة، مرفقة بتوقيعها، للبيع في مزاد علني إلى جانب قطع أخرى من خزانتها، وحققت ربحاً وصل إلى 250 ألف دولار.
تُعد الملكة الراحلة إليزابيث الثانية من أبرز الشخصيات المعاصرة التي أتقنت فن ارتداء القبّعات، إذ اشتهرت بقبّعاتها ذات الألوان الزاهية، كالفوشيا، والأخضر الفاتح، والأزرق الملكي، وكانت دائماً متناغمة مع ألوان معاطفها وفساتينها.
لم تكن القبّعات بالنسبة إليها رسائل بصريّة تحمل دلالات وطنيّة، إنسانيّة، أو حتى دبلوماسيّة، وغالباً ما زُيّنت قبّعاتها بزهور ترمز إلى نباتات البلدان التي تزورها.
أما قبّعة إيريك جافيتس التي اختارتها ميلانيا ترامب، فدليل حيّ، في عصر مواقع التواصل، على إمكانية تحوّل إكسسوار بسيط واحد، إلى علامة فارقة. الهدف هنا ليس بالضرورة "التفشّي على الإنترنت"، بل التميّز بقدر كافٍ لتبقى الصورة محفورة في الذاكرة الجماعية.