يعيش القطاع الصحي في غزة ظروفا مأساوية نتيجة حرب الإبادة المستمرة على القطاع منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي استهدفت المستشفيات والمراكز الطبية والكوادر الطبية، والحصار الذي يمنع وصول المستلزمات العلاجية للقطاع.
وأمس الأحد، حذرت منظمة الصحة العالمية من التدهور الخطير في الأوضاع الصحية بقطاع غزة، في ظل الحصار الخانق المفروض على القطاع منذ قرابة شهرين، ومنع دخول المساعدات الإنسانية والطبية.
وقالت مارغريت هاريس المتحدثة باسم المنظمة إن "الوضع الصحي في غزة كارثي، ونحن قريبون جدا من الهاوية" مشيرة إلى أن المخاطر الصحية التي يواجهها السكان تتفاقم يوما بعد يوم نتيجة نقص الإمدادات الأساسية.
وأكدت أن الفلسطينيين في غزة محرومون من أساسيات الحياة، بما في ذلك الغذاء والمياه النظيفة والمأوى، فضلا عن تعذر الحصول على الرعاية الصحية، مشيرة إلى أن الفلسطينيين يخافون حتى من الذهاب إلى المستشفى بسبب استهداف العديد منها.
وقد التقت "الجزيرة صحة" طبيبين عادا مؤخرا من غزة، بعد أن أمضيا أسبوعين ضمن وفد طبي تابع لمؤسسة "رحمة حول العالم".
وقال الدكتور ضياء أحمد رشدان (استشاري أول في طب العيون وجراحتها) -وهو رئيس قسم العيون بمستشفى سدرة للطب في قطر- إنه أجرى 86 عملية جراحية خلال هذه الفترة، شملت إصابات العيون الناجمة عن الرضوض سواء المؤدية لجروح أو الرضوض المغلقة، وعمليات الماء الأبيض الناجمة عن رضوض العين والماء الأبيض الولادي والماء الأبيض المرتبط بالتقدم بالعمر، وفحص حالات ومتابعة العمليات في العيادات، وأيضا إجراء الاستشارات العينية في أجنحة المستشفى وخصوصا العناية المركزة.
وعمل الدكتور رشدان في مستشفى غزة الأوروبي في خان يونس.
وتحدث -في تصريحات للجزيرة صحة- عن كثرة الصعوبات التي تواجه القطاع الصحي بشكل عام، وفي مجال صحة العيون بشكل خاص، أبرزها استمرار الحرب واستنزاف طاقات القطاع الصحي كافة كالموارد البشرية والمادية، وعدم توفر المستهلكات اللازمة لإجراء العمليات الجراحية العينية، وعدم توفر المستهلكات اللازمة لتشغيل الأجهزة الخاصة بالعمليات العينية، وعدم توفر أعداد كافية من الأدوات الجراحية لإجراء الجراحات وبالتالي الحاجة لانتظار تعقيم الأدوات الجراحية مما يعرقل القدرة على إجراء أعداد كبيرة من العمليات في اليوم الواحد.
كما تشمل الصعوبات نقص جودة تنظيف الأدوات الجراحية خصوصا الدقيقة قبل تعقيمها بسبب عدم توفر أجهزة التنظيف بالأمواج فوق الصوتية، وتهالك الأجهزة الطبية وتلف الكثير منها، وعدم توفر كوادر تمريض كافية لتغطية العمل لساعات طويلة في حال الرغبة بإجراء أعداد كبيرة من العمليات في اليوم الواحد، وتراكم قوائم طويلة للمرضى على الانتظار لاجراء العمليات الجراحية.
ولفت رشدان إلى عدم توفر أساسيات العناية الصحية اليومية من ماء ومواد التنظيف وصرف صحي، وعدم توفر السكن النظيف، وعدم توفر ماء الشرب النظيف والغذاء الصحي للتعافي من الأمراض والوقاية منها.
ومن الأمور التي أثّرت كثيرا في الدكتور رشدان "العجز عن تقديم الخدمة للحالات التي جاءت للعيادات على أمل إجراء عمليات جراحية لها ولم نستطع ذلك لضيق الوقت أو الحاجة لمتابعة طويلة غير ممكنة لضيق وقت المهمة الطبية أو عدم توفر المستهلكات اللازمة للعمل الجراحي أو عدم وجود طبيب مختص بعلاج هذه الحالات، وسيارات الإسعاف التي تتوافد على قسم الطوارئ لإيصال بعض المصابين ومن ثم تتابع طريقها إلى ثلاجة الموتى لإيصال البعض الآخر".
وقال الدكتور رشدان إنه كان من اللافت مشاهدة الأطفال الصغار الذين يلعبون بين الدمار بطياراتهم الورقية التي صنعوها بأيديهم وإصرارهم على الحياة.
وردا على سؤال "بتقديركم كم يحتاج القطاع الصحي في غزة من جهد وزمن حتى يعود كما قبل الحرب" قال رشدان إنه للأسف القطاع الصحي بحاجة لإعادة تأهيل في البنية التحتية من ما يقارب نقطة الصفر بما يشمل الأبنية والأجهزة الطبية ومركبات الإسعاف ونظم التنظيف والتعقيم، والأرشفة والسجلات الطبية بالإضافة لإعادة بناء نظم التعليم الطبي المستمر وتدريب الأطباء الجدد.
وأضاف أنه كلما توفرت البنية التحتية المذكورة أعلاه بسرعة أكبر أعيد بناء المنظومة الصحية بشكل أسرع، ولكن الجهد المطلوب كبير جدا.
وقال الدكتور رشدان "لمست تقديرا عاليا وشكرا كبيرا من المرضى والزملاء بالمستشفى للجهد المقدم لهم كما غمرني كرم وطيبة أهل غزة وإصرارهم على الحياة رغم انعدام مقوماتها ورغم المآسي التي أصابت كل فرد وكل بيت".
الدكتور أنس حجاوي أخصائي جراحة العظام والمفاصل، قال إنه تعامل شخصيا بشكل مباشر مع حالات إصابة ناتجة عن القصف، معظمها كانت شديدة ومعقدة، وتضمنت كسورًا مفتوحة. ونظرًا لشح الموارد، كان التدخل الجراحي يقتصر غالبًا على مبدأ "العلاج العظمي للتحكم بالضرر" Damage Control Orthopedics، أي التثبيت الأولي للكسور بأقل تدخل ممكن، حرصًا على حياة المصاب وتقليلًا لمدة التخدير.
وأضاف حجاوي أن عمله كان في قسم جراحة المسالك بمجمع ناصر الطبي.
وقال -في تصريحات خاصة للجزيرة صحة- إن أبرز الصعوبات التي واجهناها تمثلت في النقص الحاد بالمستهلكات الطبية، أدوات التعقيم، والأدوات اللازمة لتثبيت الكسور. بالإضافة إلى ذلك، كان واضحًا مدى الإرهاق والتعب الذي يعانيه الكادر الطبي، نتيجة العمل المتواصل دون توقف منذ بدء العدوان، رغم المصائب الشخصية الكبيرة التي ألمّت بكثير منهم، إذ فقد بعضهم أحبّاءه بل حتى عائلته بأكملها.
وأضاف حجاوي أن "من أكثر المواقف التي تركت أثرًا في نفسي موقف أحد الممرضين في مجمع ناصر الطبي الذي كان يحدّثنا عن وداعه لطفله ووالديه وزوجته كل صباح قبل الذهاب للعمل. وبعد ساعات من حديثه، سمعنا بخبر قصف منزله، حيث فقد والده ووالدته. لقد كان مشهدًا لا يُنسى يجسد المآسي التي يعانيها الأهل في غزة".
وردا على سؤالنا حول ما يحتاجه القطاع الصحي في غزة، قال حجاوي "إنه بحاجة ماسّة إلى دعم حقيقي ومتواصل من المجتمع الدولي والأفراد، فالنقص يشمل كل شيء: المعدات، الكوادر، التدريب، والتمويل. وهذا القطاع هو عمود الصمود الأول في وجه آلة العدوان، ومن واجب كل إنسان حر أن يساهم في دعمه".
وكانت المتحدثة باسم الصحة العالمية، قالت إن الأطباء والممرضين يعانون من نقص جميع المستلزمات الضرورية لمساعدة الجرحى، مضيفة أن العاملين بالقطاع الصحي يفتقرون إلى أكياس الدم، ووحدات الحقن الوريدي، وأعواد القطن لتنظيف الجروح، والمضادات الحيوية لحماية الناس من العدوى.
وبينت هاريس أنه يوجد حاليا في غزة 21 مستشفى، و4 مستشفيات ميدانية، إلا أن أيا منها لا يمتلك القدرة الكافية من الأسرّة لتلبية الاحتياجات، موضحة أن المستشفيات لهذا السبب غالبا ما تضطر لإرسال المرضى إلى منازلهم بسرعة، قبل أن يتعافوا تماما بهدف استقبال مرضى جدد.
وتابعت قائلة "هذا يعني أن العاملين في قطاع الصحة محرومون من كل شيء. نحن قريبون جدا من الهاوية، ولهذا هناك خطر كبير".