تشهد السوق التونسية خلال الأشهر الأخيرة دعوات متزايدة لل مقاطعة استهدفت علامات تجارية متهمة بارتباطها بالاحتلال الإسرائيلي، وهو ما بدأ ينعكس تدريجيا على سلوك المستهلكين وإستراتيجيات بعض الشركات.
ويرى مراقبون أن الشركات العالمية العاملة في تونس اضطرت إلى مراجعة سياساتها التجارية بعد تصاعد الضغط عليها وتراجع الإقبال على منتجاتها.
فقد سجلت مشروبات "كوكاكولا" خلال الفترة الماضية انخفاضا في الطلب، مما دفع إدارتها إلى إطلاق عروض وتخفيضات في محاولة لوقف التراجع. ويعتبر نشطاء أن هذه التخفيضات دليل على حجم الضغط الذي فرضته المقاطعة على العلامة التجارية، مؤكدين أن مثل هذه الخطوات أدت إلى تكاليف إضافية تحملتها الشركات للحفاظ على موقعها في السوق.
الوضع نفسه انعكس على سلسلة مطاعم "كنتاكي" التي فقدت جزءا من زبائنها. فقد بدت مقرات عديدة شبه خالية، مما اضطر الإدارة إلى التعويل أكثر على خدمة التوصيل المنزلي لتعويض التراجع في المبيعات المباشرة.
وتكثفت التحركات أمام فروع سلسلة المتاجر الفرنسية "كارفور"، حيث نُظمت وقفات احتجاجية في العاصمة وسوسة وصفاقس ومنزل بورقيبة. ورُفعت خلالها شعارات تطالب بوقف التعامل مع شركات مرتبطة بـ"الكيان الصهيوني".
إحدى الحوادث التي زادت من حدة التوتر كانت اعتداء أعوان الحراسة مؤخرا على نشطاء حملة المقاطعة بأحد فروع "كارفور" في منطقة المرسى بالعاصمة. وقد أدى هذا التطور إلى تصعيد الحملات الرقمية والميدانية، كما وسّع دائرة المقاطعة لتشمل منتجات وعلامات أخرى عبر قوائم ووسوم موحدة ومقاطع توعوية على منصات التواصل.
في السياق، تقول آلاء الهادف، عضو الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع إسرائيل، إن نتائج الحملات لم تصل بعد إلى مستوى إغلاق مقرات بعض الماركات العالمية، لكنها نجحت في إعادة تشكيل وعي المستهلكين وإبراز القضية الفلسطينية في تفاصيل حياتهم اليومية.
وأضافت للجزيرة نت أن هذا التحول في وعي المواطنين يُعد أحد أهم المكاسب حتى وإن لم يظهر بشكل مباشر في الأرقام أو المؤشرات الاقتصادية، فالمقاطعة جعلت التونسيين أكثر ارتباطا بالقضية الفلسطينية على مستوى التفكير والسلوك الاستهلاكي.
بدوره، يقول علاء الدين الهمامي، الناشط في حملة المقاطعة، إن التخفيضات التي طرأت على أسعار منتجات بعض العلامات التجارية "تشكل مؤشرا واضحا على تأثير الضغط الشعبي على الشركات وتُظهر أن قرارات المستهلكين يمكن أن تؤدي إلى تحولات ملموسة في سياسات البيع والتسويق". ويؤكد أن هذا التطور "يعكس مدى قدرة المجتمع على ترجمة وعيه التضامني إلى أفعال اقتصادية حتى لو لم تتحقق تغييرات جذرية على الفور".
ويرى أنّ تحركات الشباب تهدف إلى تنبيه الرأي العام إلى خطورة التعامل مع شركات تدعم آلة الحرب الإسرائيلية، مشيرا إلى أن القضية الفلسطينية أصبحت في صميم الحياة اليومية للتونسيين بفضل حملات المقاطعة.
من جانبه، يقول أحمد الكحلاوي، رئيس جمعية دعم المقاومة العربية ومناهضة التطبيع ، إن المقاطعة لم تعد مجرد موقف رمزي، بل تحولت إلى "سلاح اقتصادي" يوازي في أهميته أي شكل آخر من أشكال المقاومة.
وأضاف الكحلاوي أن الجمعية التي يرأسها كانت من أوائل المنظمات في تونس التي نادت منذ سنوات بضرورة تفعيل المقاطعة كخيار إستراتيجي، معتبرا أن "المعركة ليست عسكرية فقط، بل هي أيضا معركة اقتصادية وثقافية يجب أن يخوضها كل مواطن من موقعه".
وشدّد على أنّ الجمعية ستواصل جهودها في نشر الوعي بخطورة التطبيع بكافة أشكاله، ودفع السلطات نحو إقرار قانون يُجرّم التعامل مع الاحتلال.
وأكد أن "المقاطعة ليست مجرد رد فعل ظرفي، بل هي التزام طويل الأمد يجسد انحياز التونسيين الثابت لفلسطين".
كما أشار إلى أن "كل عملية شراء من منتجات مرتبطة بالاحتلال تتحول إلى دعم مباشر لآلة الحرب"، مضيفا أن هذا الوعي يعكس إدراك المستهلك لقيمة قراره الاقتصادي.
في المقابل، يثير بعض النقابيين مخاوف من أن تؤدي الضغوط على بعض الفضاءات التجارية إلى تقليص مواطن العمل. فقد عبّر عمال في فروع "كارفور" عن قلقهم من تداعيات الحملة على مستقبلهم المهني، مما يطرح معادلة دقيقة بين الضغط الشعبي والدور الاجتماعي للشركات.
ويلاحظ الخبراء أن غياب إطار قانوني واضح يجعل القرارات الاستهلاكية الفردية هي الأداة الأكثر تأثيرا في الوقت الحالي. ويرى الكحلاوي أن حملات المقاطعة أسهمت في تعميق ثقافة الاستهلاك الواعي في تونس، مشيرا إلى أن المستهلك أصبح أكثر تدقيقا في أصل العلامات التجارية.
وتقول آلاء الهادف إن حملات المقاطعة "لم تحقق بعد نتائج كبرى مثل غلق مقرات بعض العلامات العالمية، لكنها نجحت في إعادة تشكيل وعي المواطنين وربط قراراتهم الشرائية بمواقفهم التضامنية".
لا تقتصر التحركات المساندة لفلسطين في تونس على الاحتجاجات أو حملات المقاطعة بمختلف جوانبها التجارية والاقتصادية والثقافية، وإنما شملت كذلك مبادرات أخرى على غرار تنظيم قافلة برية باسم "قافلة الصمود" في اتجاه معبر رفح. غير أن القافلة توقفت قبل دخول المنطقة الشرقية لليبيا بعد أن مُنعت من العبور.
ورغم الإحباط الذي خلّفه هذا المنع، أعلن المنظمون عن خطوة جديدة تتمثل في إطلاق "أسطول الصمود" يوم الأربعاء القادم من تونس، في محاولة رمزية لكسر الحصار عن غزة وإيصال رسالة تضامن أممية مع الشعب الفلسطيني.
ويعتبر مراقبون أن هذه التحركات تعكس ارتباط الوعي الشعبي في تونس بالقضية الفلسطينية ليس فقط من خلال المساندة السياسية والشعارات، بل أيضا عبر الأفعال اليومية مثل المقاطعة والتحركات التضامنية.