في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
يغطي راتب الموظف الحكومي السوري، الذي يعادل حوالي 20 دولارا شهريا، أقل من 15% من تكلفة السلة الغذائية الأساسية لعائلة مكونة من خمسة أفراد، والتي تبلغ 136 دولارا.
أما راتب موظف القطاع الخاص في سوريا، والذي يبلغ 50 دولارا شهريا، بالكاد يغطي 37% من هذه التكلفة.
هكذا تقول البيانات الاقتصادية، لكن المواطن السوري يبسط الأمر أكثر بالقول إن "الراتب لا يطعم خبزا".
الآن، وبعد انهيار نظام الأسد، هل ستأتي على السوريين شهور يغطي فيها راتب الموظف تكلفة السلة الغذائية؟
التوقعات غير مبشرة، لأنها تقول إن اقتصاد سوريا يحتاج إلى 20 سنة للتعافي من آثار الحرب، حسب تقرير لصندوق النقد الدولي صدر عام 2016.
الـ 20 سنة تعد زمنا طويلا لا يقوى السوريون على تحمله، لذا يعتقد الخبير الاقتصادي السوري، مناف كومان، أن تقوية العملة المحلية "قد لا تحتاج إلى عقدين للتعافي، بل ربما نصل إلى الهدف خلال خمسة أعوام".
وأضاف في حديث لموقع "الحرة" أن الإدارة السورية قد تتجه في خطوة أولى إلى "حذف بعض الأصفار" من العملة لتلافي التدهور الذي تعاني منه بعد فقدانها لنحو 99 في المئة من قيمتها خلال سنوات الحرب.
والمشكلة المعقدة في سوريا هي قيمة العملة المحلية التي نزلت إلى القاع، وخلقت فجوة شاسعة بين الدخل وتكاليف المعيشة التي ترتفع يوما بعد يوم.
يذكر السوريون قبل الحرب أن 50 ليرة سورية فقط كانت تمكنهم من امتلاك دولار واحد. واليوم، يحتاج السوري من 13 ألف إلى 15 ألف ليرة كي يملك نفس الدولار، وهذا يعني أن العملة المحلية فقدت 99% من قيمتها.
وقال خبراء صندوق النقد الدولي في تقرير إن اقتصاد سوريا انكمش بنسبة 55 في المئة على الأقل في السنوات الخمس الأولى من الحرب، مشيرين إلى أن التعافي الاقتصادي يحتاج 20 عاما إذا ما حققت البلاد نمو اقتصاديا سنويا بمستويات 4.5 في المئة.
واعتمد الخبراء في تقديراتهم على بيانات متوسط معدلات النمو لدول شهدت صراعات مماثلة منذ سبعينيات القرن الماضي.
وكانت الليرة السورية سجلت ارتفاعا بعد نحو أسبوع من إطاحة الرئيس، بشار الأسد، في الثامن من ديسمبر إثر هجوم مباغت شنته فصائل معارضة بقيادة هيئة تحرير الشام.
الباحث والأكاديمي الاقتصادي السوري، فراس شعبو، يرى أنه "لا يمكن الحديث عن تعافي الليرة السورية من دون إعادة الثقة بالمؤسسات الاقتصادية الرسمية".
وقال لموقع "الحرة" إن تعافي أسعار الصرف لا يحتاج إلى سنوات طويلة مثل الاقتصاد، وأي أثر للأدوات النقدية قد يظهر بشكل مباشر في الأسواق.
وأضاف شعبو أن "المشاكل الهيكلية في الاقتصاد السوري على مدار سنوات الحرب، تسببت في إنهاك الموارد النقدية للبلاد"، وسيكون للمساعدات الخارجية "دور مهم في تعزيز احتياطيات العملة الأجنبية".
وكان القانون السوري يجرم التعامل بغير العملة المحلية، ويفرض غرامات وعقوبات قاسية تصل إلى السجن سبع سنوات لمن يتعامل بالدولار أو العملات الأجنبية.
وطالت اعتقالات عشرات التجار ورجال الأعمال بحجة "التعامل بغير الليرة" وبينهم أسماء معروفة وتجار مخضرمون.
وكان السوريون يتحاشون لفظ كلمة الدولار في جلساتهم أو عبر الهواتف ويستخدمون كلمات أخرى خشية من توقيفهم، وهو أكده أخر وزير للاقتصاد السوري في عهد بشار الأسد، محمد ربيع قلعه جي في تصريحات لقناة "الحرة" في الثامن من ديسمبر.
وقال قلعه جي إن تجريم التعامل بالدولار كان أحد الأخطاء التي أضرت كثيرا بالاقتصاد، فضلا عن القيود التي فرضها الأسد على حركة الأموال.
وحدد شعبو جملة من القرارات التي يمكن للمصرف المركزي السوري اتخاذها على المدى القريب، أهمها ضبط الكتلة النقدية المتاحة في الأسواق، والبدء في تحديد المقومات التي يريدها أن تكون داعمة لأسعار الصرف أكان من ناحية الناتج المحلي الإجمالي.
الخبير الاقتصادي كومان يشير إلى أن المهمة ليست سهلة لإيجاد سياسات مالية ونقدية متوازنة تحد من التضخم وتضبط الأسعار وتحافظ على النمو في الاقتصاد وإعادة عجلة الإنتاج في الاقتصاد وإعادة الإعمار، وتكامل هذه الأمور هو ما سيدفع بتعافي الليرة السورية.
وأوضح أنه يجب تحديد هدف تأهيل العملة السورية، "فهل نريد إعادتها لمستويات ما قبل 2011؟ أم سيكون هناك هدف جديد اعتمادا على النموذج الاقتصادي ومدى الالتزام بالسياسات التي سيتم وضعها"، منوها إلى أن سعر الصرف أمام العملات الأجنبية "ليس هو المهم بقدر الاستقرار في هذه الأسعار ووجود مقومات حقيقية في الاقتصاد تدعم هذا الأمر".
وكلفت السلطات السورية النائب الأول لحاكم المصرف المركزي ميساء صابرين "بتيسير أعمال" المصرف، أواخر ديسمبر.
وصابرين هي خبيرة مصرفية سورية، شغلت منصب النائب الأول لحاكم مصرف سورية المركزي منذ العام 2018. وتوّلت كذلك عضوية مجلس إدارة سوق دمشق للأوراق المالية، ومجلس المحاسبة والتدقيق ومجلس إدارة هيئة الإشراف على التمويل العقاري ومجلس النقد والتسليف، كما لجنة إدارة مصرف سورية المركزي.
وذكر شعبو أن الإدارة الجديدة عليها فتح باب الاستيراد وإزالة القيود والعوائق المرتبطة بالتجارة، ومنع طباعة المزيد من النقد ووضع سقوف له، وعدم اتباع سياسات بزيادة الرواتب والأجور بطريقة اعتباطية، من دون تحقيق زيادات في الإنتاج الاقتصادي، والبدء بتعزيز الاحتياطات الأجنبية، واتباع سياسات لسحب الفائض من السيولة النقدية من الأسواق والذي قد يكون من خلال رفع أسعار الفائدة.
وقال كومان إن هذا لا يعني ترك الأسر السورية في مواجهة حلقة جديدة من التضخم، إذ يجب أن تترافق هذه السياسات مع برامج دعم اجتماعي لمساعدة الفئات المحتاجة خاصة وأن التقارير الدولية تشير إلى ارتفاع كبير في الفقر بين الأسر، إضافة إلى اتباع سياسات تتعلق بدعم الطاقة للقطاع الصناعي، وفرض رقابة صارمة على الأسواق.
ودمر النزاع في سوريا اقتصاد البلاد وقد أوقع أكثر من 500 ألف قتيل وشرد الملايين منذ اندلاعه في العام 2011.
من جراء النزاع بات أكثر من 90 في المئة من السوريين "تحت خط الفقر"، وفق أرقام الأمم المتحدة، مع تراجع حاد في قيمة الليرة السورية.
وقال خبراء صندوق النقد إن الحرب "أعادت البلاد عقودا إلى الوراء من حيث التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية"، وهو ما تسبب بفقدان نصف الناتج المحلي الإجمالي عما كان عليه قبل بدء الحرب.
ويرى كومان أن الليرة السورية في المرحلة الحالية تحتاج إلى اتباع سياسة "التعويم" خاصة بسبب عدم توفر نقد أجنبي في المصرف المركزي، والافتقار لوجود قاعدة إنتاجية، وعدم توفر قدرات لضبط الأسواق، ما يعني ترك أسعار الصرف لقوى السوق والقطاع الخاص.
أما في على المدى المتوسط والبعيد قد يكون اتباع سياسات "هجينة" و"التعويم المرن" لأسعار الصرف، إذ يحدد المصرف المركزي أدوات نقدية يمكنه التدخل بها إذ كان هناك هبوط حاد في أسعار العملة بضخ عملة أجنبية، أو تخفيض أسعار الفائدة أو أي أدوات يمكنها دعم أسعار العملة.
وأدى التضخم وانهيار العملة الوطنية إلى ارتفاع حاد في الأسعار.
وتقول الأمم المتحدة إن 17 مليون سوري، بينهم 5.5 ملايين نازح داخل البلاد، يحتاجون إلى مساعدات إنسانية هذا العام، في مقابل 15.3 مليونا احتاجوا لهذه المساعدات في العام 2023.
ولا يرى الأكاديمي الاقتصادي، شعبو أن فكرة التعويم بالمطلق قد تكون ناجحة في حالة الاقتصاد السوري، ولكن قد يكون "التعويم المدار" هو الأفضل، إذ يوجد حرية في العرض والطلب، ولكن يبقى للمصرف المركزي دورا هاما في ضبط السوق النقدية.
وقال إن الاقتصاد السوري لا يزال هشا، وفي حال السماح بالتعويم المطلق، يمكن لأفراد أو جهات التلاعب في أسعار الصرف بسهولة من خلال ضخ العملة أو سحبها من السوق.
وعند بدء الفصائل المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام هجومها على مناطق سيطرة النظام في شمال سوريا مطلع ديسمبر الماضي، سارع تجار وأصحاب رؤوس الأموال إلى شراء الدولار والذهب، ما أدى لانخفاض سعر الليرة إلى مستويات قياسية.
ونتجت الأزمة الاقتصادية في سوريا عن الصراع، الذي استمر سنوات، والعقوبات الغربية وشح العملة لأسباب من بينها الانهيار المالي في لبنان المجاور وخسارة الحكومة السورية للأراضي المنتجة للنفط في شمال شرق البلاد.
وتعرضت صناعة النفط والصناعات التحويلية والسياحة وغيرها من القطاعات الرئيسية في سوريا إلى ضغوط كبيرة، وتعمل شرائح كثيرة من السكان في القطاع العام المتهالك ويبلغ متوسط الأجور الشهرية حوالي 300 ألف ليرة.
وتقول الحكومة السورية الجديدة إنها سترفع الأجور وتعطي أولوية لتحسين الخدمات.
الخبراء الاقتصاديون السوريون أكدوا لموقع "الحرة" أن تحسن الليرة السورية يرتبط بموضوع رفع العقوبات عن البلاد، إذ لا يمكن للمصرف المركزي أن يعمل ويحاول تعزيز الاحتياطيات من العملات الأجنبية من دون التعامل مع المجتمع الدولي، والمجتمع الدولي لا يزال خائفا من التعامل مع سوريا بسبب العقوبات.
وذكر مجلس الذهب العالمي أن احتياطيات سوريا من الذهب بلغت 25.8 طن في يونيو 2011، مشيرا إلى مصرف سوريا المركزي كمصدر لبياناته. وأظهرت حسابات رويترز أن تلك الكمية تساوي 2.2 مليار دولار بأسعار السوق الحالية.
ونقلت الوكالة عن مصادر أن خزائن مصرف سوريا المركزي بها نحو 26 طنا من الذهب، وهي الكمية نفسها التي كانت موجودة بها عند اندلاع الحرب الأهلية في 2011.
وقال أحد المصادر لرويترز إن احتياطيات النقد الأجنبي في المصرف تصل إلى نحو 200 مليون دولار نقدا فقط، بينما قال آخر إن احتياطيات الدولار تبلغ "مئات الملايين".
وعلى الرغم من عدم الاحتفاظ بكل الاحتياطيات نقدا، فإن الهبوط ضخم مقارنة بفترة ما قبل الحرب. وقال صندوق النقد الدولي إن مصرف سوريا المركزي أفاد في أواخر 2011 بأنه يملك احتياطيات أجنبية تبلغ 14 مليار دولار. وأشارت تقديرات الصندوق في 2010 إلى أن الاحتياطيات في سوريا سجلت 18.5 مليار دولار.
وقال مسؤولون سوريون حاليون وسابقون لرويترز إن احتياطيات الدولار مستنفدة تقريبا لأن نظام الأسد استخدمها في الإنفاق على الأغذية والوقود وتمويل جهود الحرب.
ولا تزال الحكومة السورية الجديدة، بقيادة المعارضة السابقة، تجري جردا لأصول البلاد بعد فرار الأسد إلى روسيا.
كرم شعار، اقتصادي وباحث السوري يقدم المشورة للحكومات الغربية بشأن اقتصاد الحرب في سوريا قال إن دور الإدارة الجديدة الحالية الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، وإلغاء العوائق أمام النشاط التجاري في البلاد.
وأضاف لموقع "الحرة" أن أولى الخطوات لتعزيز العملة، وقف التعامل بعملات غير السورية في الأسواق، خاصة العملة التركية التي أصبحت متداولة في شمال غرب سوريا، وتجنب طباعة المزيد من النقد، ومحاولة ضبط أسعار الصرف في المرحلة الحالية.
منذ منتصف يونيو من 2021، بدأت السلطات المحلية في مناطق واسعة في شمال وشمال غرب سوريا، تحظى فيها أنقرة بنفوذ أو تواجد عسكري، اعتماد الليرة التركية في التداول اليومي كبديل عن الليرة السورية التي كانت قد شهدت تدهورا غير مسبوق في قيمتها آنذاك.
وأكد شعار على الدور الهام للمنح والمساعدات من الدول العربية والغربية لسوريا في الوقت الحالي، مشيرا إلى ضرورة رفع العقوبات الاقتصادية لتمكين الدول من إرسال هذه المساعدات.
وحدد مصرف سوريا المركزي سعر صرف العملة في الـ 17 من ديسمبر عند 15075 ليرة مقابل الدولار في التعاملات الرسمية وفي أي عمليات بالبنوك أو شركات الصرافة، ليخفض بذلك قيمة العملة في ثاني نشرة أسعار يصدرها رسميا منذ الإطاحة بنظام الأسد.
وحدد المصرف سعر صرف الليرة في الـ 16 من ديسمبر عند 12562 ليرة مقابل الدولار، لتكون هذه أول مرة يحدد فيها سعر الصرف منذ الإطاحة بالأسد.
واستخدمت عدة أسعار صرف رسمية خلال حكم الأسد في المعاملات الحكومية مثل حسابات الميزانية وشركات الصرافة وبالنسبة للتحويلات المالية من الخارج ولوكالات الأمم المتحدة، وكانت هناك أسعار أخرى في السوق السوداء.
وآخر مرة حدد فيها المصرف المركزي سعر الصرف في عهد الأسد كانت في الخامس من ديسمبر حين كان لا يزال هناك أسعار صرف منفصلة بواقع 13668 مقابل الدولار للبنوك والمؤسسات المالية و12562 أمام العملة الأميركية لاستخدامها في موازنة الدولة.
وانخفضت التدفقات الجديدة من العملات الأجنبية بسبب فقد سوريا مصدرها الرئيسي للدخل بالعملة الأجنبية، وهو النفط الخام، عندما استولى مقاتلون أكراد وجماعات مسلحة أخرى على الحقول في شرق البلاد خلال الحرب.
كما استهدفت العقوبات الغربية الصارمة سوريا، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على المصرف المركزي نفسه وأدرجت بعض حكامه في القائمة السوداء.
وطالبت الإدارة السورية الجديدة برفع العقوبات الدولية لإنعاش الاقتصاد وإعادة إعمار البلاد بعد سنوات من الحرب وتشجيع ملايين اللاجئين السوريين على العودة.
لكن مسؤولين أميركيين وأوروبيين قالوا إنهم سيضطرون إلى الانتظار لرؤية نوعية الإدارة التي سيعينها الحكام الإسلاميون الجدد في البلاد.