حي القيمرية
هو من أكبر أحياء دمشق القديمة، ومازال محافظاً على طرازه العمراني العريق الذي يعود لآلاف السنين ويمتلك قيمة أثرية وثقافية، ذلك الحي الذي تحول إلى أحد المقاصد الرئيسية للسياح، ولمن يريد الاستمتاع بسحر دمشق، والاسترخاء في رحاب بيوتها المشرعة أمام الزوار على مدار اليوم. pic.twitter.com/4abC0bXgYX— سوريا (@Syria_ar_) September 3, 2018
يحمل حي القيمرية في دمشق القديمة اسما يطفح بعبق التاريخ، اسما يتردد في أزقة المدينة كترنيمة خافتة تربط الحاضر بالماضي وتجمع بين خفقة الأمس ونبض اليوم.
كلما مررت بحجارته العتيقة شعرت أنك تعبر نصّا قديما كتب بحبر الزمان، وامتزجت فيه حكايات البشر بنسيم بردى ورائحة الياسمين الدمشقي.
تتناقل الروايات حكايات متعددة عن سر التسمية؛ إحداها تربط الاسم بالأمير الأيوبي ناصر الدين الحسين القيمري، أحد أعلام الحقبة الأيوبية ورجال صلاح الدين، الذي غرس في الحي بذرة العلم حين شيد فيه مدرسة عظيمة تحولت إلى منارة للطلاب والفقهاء، ما زالت أصداؤها تتردد في أزقة المكان.
وهناك من يعيد الاسم إلى شيخ دمشقي عاش في أزمنة الفتح الأولى، رجل طاف أزقة المدينة بحكمته وورعه، حتى غدا اسمه جرسا عتيقا يرن في الذاكرة كلما ذكر الحي، فيوقظ من أعماق الحجر صدى أزمنة لا تزال تنبض بالحياة.
يقع هذا الحي في قلب دمشق القديمة، كعقد من الألماس يزيّن جيد المدينة، يمتد بين الجامع الأموي غربا وباب توما شرقا، رابطا بين قداسة المكان ورونق الحياة؛ تحيط به حارات ضيقة متشابكة كأنها شرايين تتفرع من قلب نابض، تضخ في أزقته حياة متواصلة لا تعرف السكون.
الأزقة المتعرجة هنا ليست ممرات عابرة وإنما مسارب للذاكرة، تفوح منها رائحة الياسمين الذي يتدلّى من الشرفات الحجرية، وتتصاعد من جدرانها أنفاس القرون التي عبرتها؛ حجارة عاشت ألف حكاية، من وقع حوافر الخيل إلى خُطا القوافل، ومن أصوات الأذان إلى تراتيل الموشحات، فتغدو القيمرية لوحة حية يتداخل فيها الحجر بالعطر والزمن بالخلود.
القيمرية ليست حيا عاديا ولكنها فسحة من الزمن تستقر بين جدران تعرّقت بالذاكرة وتشبعت بروائح العصور، ومن يدخلها يشعر أنه يعبر من باب ضيق إلى فضاء رحب تتنفس فيه دمشق بأصواتها وصورها وروائحها، حيث تحتفظ الحجارة القديمة بأثر كل يد مرت فوقها، وكل ظل عبر أزقتها منذ مئات السنين.
في القيمرية كانت القوافل القادمة من الشرق والغرب تتقاطع في مشهد أسطوري لا يعرف الركود: قوافل الحرير من حلب، والتوابل والعطور من الهند واليمن، والذهب القادم من مرافئ الإسكندرية، والخشب الثمين من الأناضول.
كانت القيمرية محطة رئيسة في قلب دمشق التجاري، ومركزا لنبض اقتصاد المدينة الذي تدفق في كل الاتجاهات، ففي أزقتها الضيقة وبيوتها الدمشقية العتيقة نسج الدمشقيون خيوط تجارتهم وحرفهم معا، حتى غدت القيمرية أيقونة للأسواق التقليدية ووجهة للتجار والحرفيين والرحالة الباحثين عن ندرة وجمال.
في القيمرية، تفتحت شهرة الحِرف الدمشقية التي شغلت أسواق الشرق والغرب، فمن هنا خرجت الأقمشة المطرزة بالخيوط الذهبية والفضية التي زُينت بها قصور السلاطين في القاهرة وإسطنبول وقرطبة، ومن هنا عبرت العطور الزهرية الممزوجة بروائح الورد والنارنج إلى بلاطات الملوك، وكانت المحال الصغيرة على جانبي الأزقة تضج بحرفيين بارعين، يبدعون في نقش النحاس، وفي تطعيم الخشب بالعاج، وفي نحت الأحجار الكريمة، حتى صارت منتجات القيمرية تحمل توقيع دمشق في كل ركن من أركان العالم القديم.
ولم يكن الحي مكانا للحرف فقط وإنما كان مسرحا اجتماعيا وثقافيا، مرآة صافية للمدينة وروحها العميقة. في القيمرية، يلتقي الغني والفقير، التاجر الكبير والزبون البسيط، الرحالة العابر والساكن الذي ورث البيت عن أجداده؛ فأزقتها كانت ملتقى للأجناس والثقافات، حيث يمتزج صوت العربي القادم من تدمر بلكنة التاجر الفارسي، وتحية العثماني بابتسامة الدمشقي، في لوحة إنسانية تتجاوز حدود التجارة إلى حدود الحياة ذاتها.
كانت القيمرية مدرسة يومية في التعايش والعمل المشترك، وفي ممراتها العتيقة ارتسمت قيم الثقة والنزاهة، إذ كان الحرفي الدمشقي يعتز بعمله وليس بما يملكه، ويعتبر أن كل قطعة يصنعها امتداد لروحه، فتغدو الحرفة فنا خالصا وليست مجرد مهنة، وكانت البيوت الدمشقية المحيطة بالحي تغرس في أبنائها هذه الروح، فينشأ الصبي يتتلمذ على أيدي آباء يعرفون أن الحرفة هوية، وأن الإتقان سبيل الخلود.
كل زاوية في الحي تحمل أثرا لزمن كان يفيض حياة، أصوات النول وهي تعزف إيقاع الخيوط على أنغام النحاس المطرّق في الورش الصغيرة، رائحة الخشب المبلل بماء الحارات، عبق القهوة الطازجة الذي يتسلل من نوافذ البيوت في الصباح، كلها تفاصيل تجعل القيمرية ليست مجرد حي بل كائنا حيا ينبض بالحياة، يُبصر التاريخ بعيون الحاضر، ويعيد تشكيل روح دمشق في كل لحظة.
ومن يمشي اليوم في أزقتها القديمة يلمس في كل حجر حكاية، وفي كل زقاق أثرا لجيل مضى، وفي كل واجهة متجر إرثا توارثته الأيدي كما توارثت الأسماء والذاكرة.
القيمرية اليوم هي المرآة الأصدق للمدينة، مرآة تعكس عمقها الثقافي، وتكشف عن قدرتها العجيبة على احتضان كل التحولات من دون أن تنفصل عن جوهرها الأصيل.
عاشت القيمرية تحولات التاريخ كما تعيش الشجرة تبدل الفصول؛ كل حقبة مرت بها أضافت طبقة جديدة إلى روحها العتيقة، حتى غدت الحارة مخطوطة من الزمن مكتوبة بأحبار متعددة الألوان.
في العصر الأيوبي، بعد أن استعادت دمشق مكانتها في قلب المشرق، شهدت القيمرية صحوة روحية ومعرفية كبرى، فارتفعت في أزقتها مدارس العلم التي احتضنت حلقات الفقه والحديث والتفسير، وازدانت بزوايا صوفية استقطبت العارفين والسالكين، فصار المكان ملتقى للعقل والروح معا.
كانت الأصوات التي تتعالى من المدارس في الصباح تحمل صدى الدروس، فيما تتردد في المساء أناشيد الذكر وتراتيل المريدين؛ من هنا تخرّج علماء ملؤوا الدنيا فكرا وعلما، وظلت آثارهم محفورة في ذاكرة المكان، كأن الجدران ما زالت تحفظ همس الدروس وصلوات الفجر.
ثم جاء العهد المملوكي ليصبغ القيمرية بلمسة من الثراء العمراني والتجاري؛ فازدهرت الأسواق وتعانقت الحِرف مع البيوت الدمشقية ذات الأفنية الواسعة والبحرات الصافية، حيث انعكست في صفحة الماء أنوار القناديل ليلا وأشعة الشمس نهارا.
ارتفعت الحوانيت متلاصقة كأنها خيوط عقد متين، واشتد حراك الحرفيين الذين جعلوا من أزقة القيمرية ورشة عمل لا تهدأ. في تلك الحقبة، أصبحت الحارة نقطة التقاء للقوافل التجارية، تنقل البضائع الثمينة من حلب والقاهرة وإسطنبول إلى دمشق، وتوزع منها إلى حواضر العالم القديم.
ومع بزوغ العصر العثماني، بلغت القيمرية ذروة حيويتها وزخمها؛ إذ صارت ملتقى التجار والسفراء والأدباء، وحاضرة للحركة الثقافية والاجتماعية في قلب دمشق، في الصباح تتماوج أصوات الباعة في الأزقة الضيقة، مختلطة بوقع حوافر الخيل التي تجر عربات البضائع، بينما تنتشر رائحة التوابل والأقمشة الحريرية في الهواء، وفي المساء تهدأ حركة التجارة لتفسح المجال لصوت المجالس الأدبية، حيث كان الشعراء والأدباء يجتمعون في بيوت الحارة الدمشقية الرحبة، يتبادلون الأحاديث وينسجون أبيات الشعر على ضوء القناديل.
كانت القيمرية في ذلك الزمن مسرحا مصغّرا للمدينة كلها، صورة عن دمشق التي تجمع بين الصنعة الرفيعة والفكر العميق والذوق الرفيع.
ومع كل هذه التحولات، ظلت القيمرية وفيّة لروحها الأولى، روح الحي الدمشقي الذي يحفظ ملامحه مهما تعاقبت العصور؛ حجارتها التي شهدت أعراس المدينة وأحزانها ما زالت تتنفّس عبق القرون، وأزقتها التي ضجت بأصوات القوافل وحفيف ثياب السيدات العائدات من رحلات التسوق ما زالت تحافظ على إيقاعها الخاص؛ إيقاع يعرف كيف يحتضن الجديد من دون أن يمحو القديم، وكيف يتكيف مع الحاضر من دون أن يفرّط في الأصالة.
القيمرية اليوم تحمل في طياتها خلاصة هذه الفصول المتعاقبة، تقف ثابتة كأيقونة زمنية تعكس سرّ دمشق الذي جعلها مدينة لا تعرف الذبول؛ مدينة تتجدد مع كل جيل وتستبقي في روحها ظلال كل الأزمنة التي مرت بها.
اليوم تسير في القيمرية فتشعر أنك تخطو إلى زمنين في آن واحد: زمن يطل من نوافذ البيوت العتيقة، وزمن معاصر يتنفس في إيقاع الحركة اليومية؛ يسبقك عبق القهوة الطازجة المنبعثة من المقاهي الصغيرة التي ما زالت تحافظ على طابعها الدمشقي الأصيل، حيث الأرائك الخشبية البسيطة والأكواب النحاسية اللامعة، وحيث حديث الزبائن يمتد بين السياسة وأخبار الحارات وأطياف الذكريات.
في زوايا الحي يواصل الحرفيون عملهم كما لو أن الزمن لم يمسّهم، وتسمع وقع أدواتهم وهي تحفر الخشب لتصنع أبوابا مزخرفة، وترى أصابعهم وهي تطرز الأقمشة بخيوط ذهبية وحريرية تصنع للزمن معنى آخر، وتلمح صانع النحاس يضرب مطرقته في إيقاع ثابت على صفائح البرونز فتتردد النغمة في الأزقة كما لو كانت موسيقى خفية تؤنس الحجر والشجر والإنسان. هذه المهن التي تناقلتها الأجيال لم تندثر؛ بل أعادت القيمرية بث الروح فيها، فغدت متاحف حية للحِرف التي لا تزال تنبض بين جنبات المكان.
المحال التجارية مصطفّة كأنها عائلة واحدة، تعكس دفء العلاقات الإنسانية في هذا الحي الذي لم ينس أصوله، والباعة يعرفون وجوه روادهم ويحفظون أسماءهم، فيحيون الداخل بابتسامة خالصة وكأنه جار قديم، فيتبدد شعور الغربة سريعا أمام هذه الحميمية الدمشقية التي تُذيب المسافات بين الناس.
الأزقة الضيقة نفسها التي عبرتها قوافل التجار قبل قرون ما زالت تعانق المارة بحنوّ فريد، تدفعهم إلى تبادل التحايا وتبادل النظرات في صمت يعرفه الدمشقيون جيدا؛ صمت الألفة الذي يجمع بين أهل الحارة والغرباء الذين يأتون بحثا عن سحر المكان، والجدران العتيقة التي تحمل وُشوم القرون تنحني برفق لتفتح صدرها للزائرين، وكأنها تهمس في آذانهم بحكايات مَن مرّوا من هنا، من التجار والأدباء، من العشاق والحرفيين، من العابرين والساكنين على السواء.
البيوت الدمشقية القديمة التي كانت قبل عقود موطنا للعائلات العريقة تحولت إلى فنادق وبيوت ضيافة أنيقة، تحافظ على هويتها الأصلية؛ هنا تجد البحرة التي تتلألأ مياهها تحت أشعة الصباح، والليوان الذي يفترش ظلاله بردى من الرخام الدمشقي، والنوافذ الخشبية التي تفتح عيونها على الحوش الداخلي، حيث عبق الياسمين يختلط برائحة القهوة والخبز الطازج، فهذه البيوت بعد أن استعادت ألقها تمنح الزائر تجربة فريدة: أن يعيش في قلب دمشق القديمة دون أن ينفصل عن دفء حياتها اليومية.
القيمرية اليوم عالم صغير يتنفس أصالة دمشق، حيث يتقاطع إيقاع الحياة اليومية مع حركة السياحة النشطة، والزائر الأجنبي الذي يحمل كاميرته ويبحث عن لحظة جمالية يلتقي بالبائع الدمشقي الذي يواصل عمله بطمأنينة العالم الواثق بتاريخ مهنته. والسائح العربي الذي جاء باحثا عن عبق الشام يجلس إلى جوار شاب دمشقي يحتسي قهوته الصباحية ويتبادل معه أطراف الحديث عن تفاصيل الحياة اليومية؛ هنا لا تجد مسافة بين السائح والمقيم، ولا فجوة بين الأمس واليوم، فالحي يحافظ على حضوره العفوي كملتقى مفتوح لكل من يطلب الجمال في تفاصيله.
تتجاور في القيمرية السياحة والحياة كما تتجاور الموجة مع البحر، فلا يغرق المكان في ضوضاء الزحام، ولا ينعزل عن نبض المدينة الحديثة، في النهار تتزاحم خطوات الزائرين بين المحال والمقاهي والورش الحرفية، وفي المساء تهدأ الحركة تدريجيا، فتغدو القيمرية مسرحا للصمت المضيء، حيث تتلألأ أضواء المصابيح على الجدران الحجرية وتنعكس في عيون العابرين، وكأن الحي يستعد لكتابة فصل جديد من حكايته المتجددة.
القيمرية اليوم ليست حارة أثرية جامدة ولكنها نسيج حي يتجدد في كل لحظة، يلتقط من الماضي ما يحفظ هويته، ويستجيب للحاضر بما يعزز بقاءه، ومن يسير فيها اليوم لا يكتفي بمشاهدة حجارتها وأسواقها، بل يلمس في تفاصيلها حضور الروح الدمشقية؛ الروح التي تعيد صياغة المكان في كل جيل، فتجعله شاهدا على أن دمشق لا تعيش في الماضي، بل تجعل من ماضيها جسرا يعبر إلى المستقبل.
تواجه القيمرية اليوم امتحان البقاء في عالم يتغير بإيقاع أسرع من أنفاس الأزقة العتيقة؛ الأزقة الضيقة التي كانت يوما مسرحا لخطوات الحرفيين والتجار باتت تئن تحت وطأة ازدحام الزوار والسياح، حيث تتكدس الحركة في ممراتها الضيقة، ويعلو صخب الكاميرات على همس التاريخ الذي يسكن الجدران.
إن ضغط السياحة المتزايدة على ما تمنحه من حياة اقتصادية جديدة، يسلب الحي أحيانا هدوءه القديم، ويحوّل سكونه المهيب إلى ضجيج يهدد صفاء المكان وروح التوازن التي طالما ميزته.
الحِرف التي شكلت ذاكرة القيمرية وأيقونتها تواجه هي الأخرى تحديات العصر؛ بعض الورش التي كانت تضج بأصوات النول والنحاس والخشب بدأت تغلق أبوابها تحت زحف المنتجات الجاهزة التي تغري الزبائن بأسعارها الزهيدة وسرعة توافرها.
هذا الانحسار التدريجي للحِرف اليدوية لا يعني اختفاء مهنة أو اثنتين فحسب ولكنه يعني خسارة طبقة من الذاكرة الحية التي صاغت شخصية الحي عبر قرون طويلة، ومع كل متجر يغلَق، يتراجع جزء من موسيقى القيمرية القديمة، تلك التي كانت تتناغم فيها مطارق الحرفيين مع خطوات المارة ورائحة القهوة الطازجة.
وفي مواجهة هذا التحدي، تتقدم أصوات الحداثة أكثر فأكثر؛ المباني الجديدة التي تحيط بالمدينة القديمة تضغط على المكان، فيما يحاول صخب الحياة العصرية أن يفرض إيقاعه السريع على حي اعتاد الإيقاع الهادئ المتأني.
هذا الضغط لا يقتصر على البنية المادية للمكان بل يمتد إلى روحه العميقة، فالأزقة التي كانت تحفظ أسرار العابرين وتروي حكاياتهم باتت عرضة للتحوّل إلى واجهات تجارية صامتة، تخلو من حرارة الحكايات اليومية التي صنعت هوية القيمرية.
ومع ذلك، تقف القيمرية بثبات يشبه ثبات حجارتها القديمة، مقاومة هنا، ليست صاخبة ولا متكلفة وإنما تشبه صمت الياسمين في حدائق البيوت الدمشقية! صمت عميق، لكنه مشبع برائحة البقاء.
الحي يستمد من إرثه الممتد عبر العصور قوة تجعله قادرا على التكيف دون أن يتخلى عن ذاته؛ فالحرفيون الذين ما زالوا يطرقون النحاس ويطرّزون الأقمشة لا يعملون من أجل الرزق وحده، بل يعملون لحماية ما تبقّى من الذاكرة الحية، مدركين أن كل قطعة تُصنع اليوم هي شهادة إضافية على أن القيمرية ما زالت حية رغم كل الضغوط.
ويزداد وعي أبناء الحي بأهمية حماية هذا الإرث من الذوبان؛ مبادرات محلية متواضعة بدأت تتشكل للحفاظ على الحِرف اليدوية وتشجيع الأجيال الجديدة على تعلمها، فيما يسعى بعض المثقفين وأصحاب المشاريع الثقافية إلى إبراز القيمرية بوصفها فضاء للحياة الثقافية والفنية، لا مجرد وجهة سياحية عابرة، وهذا الوعي المتنامي يضيف بعدا جديدا للمكان، ويجعل من التحدي فرصة لإعادة اكتشاف القيمرية في ضوء معاصر يحترم جذورها العميقة.
إن القيمرية اليوم تقف عند مفترق طرق: طريق ينجرف بالمكان نحو فقدان هويته تحت وطأة العولمة والتسليع المفرط، وطريق آخر يتشبث بالأصالة ويعيد قراءة التراث بروح تجدد الحاضر من دون أن تمحو الماضي. وبين هذين الطريقين، تمضي القيمرية بثقة كحرف قديم يعيد رسم نفسه كل يوم، ويثبت أن المدينة التي حملت عبق التاريخ قرونا قادرة على أن تحيا في قلب العصر من دون أن تفقد نبضها العتيق.
القيمرية ليست حجارة مرصوصة على جانبي طريق ولا أزقة متعرجة بين بيوت قديمة؛ إنها روح دمشق وهي تعيد صياغة ذاتها في كل عصر، تمشي في حاراتها فتشعر أنك في متحف مفتوح، حيث يلتقي عبق الأمس بأنفاس اليوم، وحيث تصير كل زاوية مسرحا لحكاية؛ حجر يحفظ أثر يد البناء الأول، وشجرة ياسمين تروي بِصمتها قصص البيوت التي ظلت تعطّر المكان.
من يسير في القيمرية لا يراها كما يراها السائح العابر، بل كما يراها العاشق الذي يلمس في تفاصيلها نبض مدينة تعرف أن الأصالة ليست ماضيا يحن إليه الناس وإنما حاضر يزهر في كل صباح جديد.