آخر الأخبار

مرتضى الزبيدي و"تاج العروس".. عبقري الحضارة الإسلامية الذي نبغ بالقاهرة وضيعته السياسة

شارك

مثلما غادر عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406م) تونس، وجاء إلى مصر، وكتب وألف وأدار وتولى منصب قضاء المالكية فيها ومات في القاهرة، كان ذلك أيضا حال مرتضى الزبيدي (1732-1791م) الذي ترك مسقط رأسه في الهند ورحل إلى اليمن ، ثم استقر في مصر 40 عاما مخلصا للعلم، مخاصما للسياسة والمناصب. لكن مثلما أهمل ابن خلدون معاصروه ولم يقدروه حق قدره في زمانه، كذلك كان الحال مع الزبيدي، العالم الموسوعي الذي ملأ الدنيا علما وشغل الناس بكتاباته التي سافرت إلى كل قارات العالم، وكان سيد علماء عصره، ومع ذلك ظلت قيمته العلمية مجهولة.

حين مات الزبيدي عام 1791م، بلغت مجموعة أعماله ما يزيد على 225 مؤلفا، بعضها يتألف من عدة أجزاء، مثل معجم "تاج العروس" الذي بلغ 43 جزءا، وبلغ عدد صفحاته بعد طبعه أكثر من 23 ألف صفحة. وبلغت كتبه الأخرى عدة أجزاء، وبعضها كان صغيرا لا يتجاوز عدة صفحات. وأما إنتاجه من الشعر فكان شيئا كثيرا. وصدرت عنه أكثر من 30 إجازة في كتب مرجعية وفي مجموعات المخطوطات العربية داخل وخارج العالم الإسلامي. وهناك المزيد من مجموعات المخطوطات العامة والخاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودول إسلامية أخرى لم يتم تحقيقها ونشرها بعد.

ومخطوطات الزبيدي موجودة بمعظمها في القاهرة والمدينة المنورة ولايدن وبرينستون ومكتبات برلين وإسطنبول وأنقرة والرباط ودمشق ولكناو. وتضم دار الكتب المصرية بالقاهرة المجموعة الأضخم لأعمال الزبيدي المخطوطة، وبعضها موقع بخط يده، بما في ذلك مخطوطة "المعجم المختص" التي عرفت طريقها إلى مكتبة شيخ الإسلام أحمد عارف حكمت (توفي 1854م) في المدينة المنورة. وفي "مكتبة جامعة المدينة"، توجد مجموعة أخرى من مخطوطات الزبيدي الموقعة بخط يده.

وهذا الإنتاج الغزير، الذي لا تقدر عليه ولا تستطيعه المؤسسات الحديثة، استطاع الزبيدي أن يسجله خلال عمره الذي بلغ 59 عاما فقط، وكل هذا تم في عصر لم تكن فيه المطبعة قد عرفت طريقها إلى الشرق بعد.

مصدر الصورة "تاج العروس" هو المصنف الذي أعطى للزبيدي نجاحه الأكبر كمؤلف وأسس شهرته في العديد من المناطق الإسلامية (الجزيرة)

من الهند إلى مصر

عاش الزبيدي فترة في الهند، مسقط رأسه، وتعلم فيها بعض العلوم قبل أن يرحل إلى شبه الجزيرة العربية واليمن، ثم يرحل للعيش والاستقرار في القاهرة، وفيها أنتج وكتب معاجمه وكتبه ورسائله.

إعلان

ولم يكن مرتضى الزبيدي مؤلفا وكفى، بل كان محللا مستنبطا ومستحدثا، تستطيع أن تضعه مع ابن خلدون في قدرة عقلية واحدة. وإن فاق ابن خلدون في عدد المؤلفات، فقد استنبط الزبيدي علوما جديدة، وكتب في فقه اللغة والعقيدة وفي الفلك والعلوم الطبيعية الحديثة، وبلغت علاقاته الآفاق من الهند إلى شبه الجزيرة العربية إلى القاهرة والمغرب وقلب أفريقيا وجنوب شرق آسيا وعموم العالم الإسلامي.

وكان الزبيدي سيد علماء عصره، وترك من ورائه عددا كبيرا من التلاميذ، أشهرهم المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي، وهو الذي وجهه إلى الكتابة التاريخية. وكان الزبيدي صديقا للشيخ حسن الجبرتي، والد عبد الرحمن الجبرتي، الذي كان عالما كبيرا في هذا الوقت.

لفترة طويلة من الزمان، تذكر الباحثون مرتضى الزبيدي بشكل رئيسي بسبب معجمه العربي "تاج العروس من جواهر القاموس"، البالغ 43 مجلدا في حوالي 23 ألف صفحة كما في طبعة دولة الكويت. و"تاج العروس" هو المعجم الذي اختاره المستشرق إدوارد وليم لين كأفضل المعاجم، واعتمد عليه في كتابة قاموسه العربي-الإنجليزي الذي بدأ العمل فيه سنة 1842م، وتم نشر المجلد الأول منه في سنة 1863م.

وخلال القرن الـ20، عادت أهمية الزبيدي إلى الواجهة من جديد بالنسبة لدراسة علم الحديث، على يد العالم المغربي محمد بن عبد الحي الكتاني (توفي 1962م)، الذي قدم الزبيدي باعتباره العالم المسؤول إلى حد كبير عن بقاء علم رواية الحديث النبوي في شكله الأصيل.

ومع زيادة الاهتمام العام بالحديث النبوي في أواخر القرن الـ20، فإن العديد من كتابات الزبيدي في علم الحديث تم تحقيقها ونشرها للمرة الأولى على امتداد الدول العربية. والجزء الأكبر من تلك المؤلفات التي تم تحقيقها يتمثل في تخريج الكثير من الأحاديث التي وردت في كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي، حيث قام باحث سعودي بجمعها وتحقيقها في 7 مجلدات.

أما بعض مؤلفات الزبيدي ذات المحتوى التاريخي الفريد، التي خصصها لفروع الأسرة الأيوبية وتاريخ علم الخط، فقد تم تحقيقها بقدر من العناية، مع مقدمات قيمة للغاية من قبل علماء عرب بارزين مثل صلاح الدين المنجد وعبد السلام هارون. أما كتابه الثاني، وهو شرحه على "إحياء علوم الدين" للغزالي، فقد طبع أيضا في أواخر القرن الـ19، إلا أن تأثيره على الثقافة الإسلامية كان محدودا بشكل كبير.

مصدر الصورة تم تجاهل الزبيدي رغم عبقريته لخدمة أهداف إمبريالية فرنسية واستبدادية سياسية أرادها الوالي محمد علي ليقطع أي صلة بمصر في القرن الـ18 وما قبله (مكتبة الإسكندرية)

في كهف التجاهل

كتاب "عالم مرتضى الزبيدي-حياته وشبكة علاقاته ومؤلفاته"، الصادر عن المركز القومي للترجمة في مصر في 600 صفحة، هو من تأليف العالم الألماني ستيفان رايشموت، أستاذ الدراسات الشرقية والإسلامية بجامعة بوخوم الألمانية، وترجمة الدكتور محمد صبري الدالي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان المصرية.

ولكن، ما هو السبب في أن يبقى الزبيدي مجهولا للعامة وكثير من المثقفين، ولا يعرفه إلا العلماء المتخصصون؟ طرحت "الجزيرة نت" هذا السؤال على مترجم الكتاب، المؤرخ محمد صبري الدالي، فقال: "توفي مرتضى الزبيدي قبل 7 سنوات فقط من مجيء حملة نابليون لغزو مصر وبلاد الشام. كانت الحالة في مصر سياسيا غير مستقرة، وكانت القاهرة تموج بحالة حراك لا يمكن إنكارها، حتى إنها فرضت على السلطان العثماني تغيير الوالي. وصاحب هذا الحراك يقظة فكرية وثقافية لا يمكن تجاهلها. وفي هذا المناخ، كان يوجد مؤرخون أمثال عبد الرحمن الجبرتي، وكان الزبيدي هو سيد العلماء في العالم الإسلامي بما له من مؤلفات ومخطوطات منتشرة ومعروفة في العالم الإسلامي كله".

إعلان

ويزيدنا الدكتور صبري الدالي تفسيرا فيقول: "منذ أن اقتحم نابليون مصر ثم مجيء محمد علي باشا واليا وحاكما، انتهج نهجا واحدا في غاية الخطورة، وهو أن مصر كانت في سبات وخمول قبله، وأنه هو صانع مصر الحديثة. وقبله لم تكن مصر شيئا على الإطلاق. استطاع محمد علي أن يكرس هذا الفكر من خلال الترسانة الإعلامية التي قادها طوال سنوات حكمه، ومن خلال رجاله الذين أرسلهم في بعثات إلى فرنسا ، وكان منهم رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وغيرهم. ولكي يكتمل هذا الاتجاه، كان لا بد من أن يتم تجاهل كل رجال عصر ما قبل محمد علي، وكان أولهم الزبيدي".

ويضيف الدالي: "بقي الزبيدي مغمورا مجهولا لسنوات طويلة، حتى جاء الغربيون فأزاحوا عنه غبار السنين. وعن طريق اهتمام الألمان بالشرق حضارة ودينا، ثم الاهتمام المتنامي بالحركات الإسلامية التي ظهرت في أواخر القرن الـ18، أدى هذا الاهتمام إلى إعادة اكتشاف الزبيدي من خلال صلاته المباشرة أو غير المباشرة مع مؤسسي تلك الحركات".

بالإضافة إلى ذلك، برز الزبيدي باعتباره شخصية مهمة في النقاش الذي تطور بشكل أساسي في ألمانيا حول "عصر التنوير الإسلامي"، باعتباره علامة مهمة على الاتجاهات الإصلاحية الإسلامية في القرن الـ18. وبرغم هذا الإدراك المتأخر، فإنه يمكن رؤية كل تلك المناقشات كجزء من محاولات البرهنة على وجود "حداثة مبكرة" لحضارة أخرى غير أوروبية، ولعل هذا ما دفع المترجم لترجمة الكتاب، ليكشف عن عبقرية عالم موسوعي تم تجاهله بقصد أو بغير قصد، لخدمة أهداف إمبريالية فرنسية واستبدادية سياسية أرادها الوالي محمد علي ليقطع أي صلة بمصر في القرن الـ18 وما قبله.

مصدر الصورة من أهم أعمال الزبيدي كتاب "إتحاف السادة المتقين" والذي يظهر إبداعه الأدبي حيث وسع فيه تراث الغزالي ليشمل أمورا دقيقة في تخصصات مختلفة (الجزيرة)

علاقات عابرة للحدود

وعن بداية اهتمام المؤلف الألماني ستيفان رايشموت بالزبيدي، يقول إن ذلك كان في أوائل تسعينيات القرن الـ20، عندما بدأ بحثه من منظور إقليمي، حيث تعرف على الزبيدي كمصدر مهم لدراسة نفوذ العلماء المسلمين وأنشطتهم في غرب أفريقيا، وطبيعة التفاعل بين التطورات المحلية والعلاقات العابرة للحدود في العالم الإسلامي من خلال علاقات الزبيدي الممتدة من الهند إلى وسط وغرب أفريقيا.

يحاول الكتاب تقديم نظرة شاملة عن حياة الزبيدي ومؤلفاته في سياق عصره، والتعامل مع الحجم الهائل من أعماله، وكذلك مع الكم الهائل من مواد التراجم والسير. ورغم أن الكثير من مؤلفاته لم ينشر بعد، فإن ما هو متاح منها، ومن كتابات معاصريه، يتوزع في مجموعات مخطوطة تمتد من الهند شرقا إلى المغرب غربا.

ولأن دراسة واحدة يصعب عليها الإلمام بكل أعمال الزبيدي، فقد كانت الأفضلية في هذا الكتاب لدراسة "معجمه المختص" وكتابيه الكبيرين "تاج العروس" و"إتحاف السادة المتقين" بشكل دقيق، مع العودة إلى نصوص أخرى كثيرة كتبها.

قصة حياة فريدة

يتكون كتاب "عالم مرتضى الزبيدي" من 5 فصول. يعرض الفصل الأول لحياته المهنية التي قادته من الهند إلى اليمن والحجاز، ثم إلى القاهرة، مع التركيز على عائلته ورحلاته وأساتذته. وقد استطاع الزبيدي خلال المرحلة الأخيرة من حياته أن يتسنم مكانة الزعامة بين علماء العالم الإسلامي.

ويتناول الفصل الثاني أنشطة الزبيدي وأسلوبه كمؤلف ومقتن للكتب. وكان الزبيدي جامعا نشيطا للمخطوطات النادرة وموزعا لها، مما يقدم لنا رؤية ثاقبة بخصوص شبكة نشر الكتب العربية في الفترة التي سبقت إدخال الطباعة.

ويهتم الفصل الثالث بمعجم الزبيدي، الذي جمع مجموعة كبيرة من التراجم لأساتذته وطلابه وأصدقائه ومعارفه. أما شبكة علاقاته الاجتماعية، فتعطينا معلومات ثرية عن تفاعله مع أشخاص من مناطق جغرافية وأصول اجتماعية مختلفة.

إعلان

وانصب اهتمام الفصلين الرابع والخامس على أكبر مؤلفين للزبيدي: معجمه "تاج العروس"، وشرحه لكتاب "إحياء علوم الدين"، وهو "إتحاف السادة المتقين". والكتابان يعكسان عالم العلوم الإسلامية التي قام الزبيدي بغربلتها وتوضيحها لمعاصريه.

مصدر الصورة مؤلفات الزبيدي تعيد إلى الأذهان الاهتمامات والتوجهات العلمية الإنسانية المهمة في بدايات أوروبا الحديثة (مولدة بالذكاء الاصطناعي -الجزيرة)

رؤية عريضة للثقافة الإسلامية

"تاج العروس" هو المصنف الذي أعطى للزبيدي نجاحه الأكبر كمؤلف، وأسس شهرته في العديد من المناطق الإسلامية. وقد وسع فيه اهتمامات "القاموس المحيط" للفيروزآبادي نحو مجالات أخرى، خاصة في التراجم والتاريخ والجغرافيا والطب والعلوم. وتعكس إضافاته الغنية رؤية المؤلف العريضة للثقافة الإسلامية. وهكذا، أبدع الزبيدي معجما هجينا، استجاب للاهتمامات المتنوعة لمعاصريه، مبرزا نهجه اللغوي شديد التدقيق، ومستحضرا ثقافة إسلامية عالمية قائمة على الإمكانات العلمية الكامنة في اللغة العربية .

ويظهر إبداعه الأدبي أيضا في شرحه الضخم على كتاب "إحياء علوم الدين"، والذي وسع فيه تراث الغزالي ليشمل أمورا دقيقة في تخصصات مختلفة، بما في ذلك الحديث والفقه والكلام والتصوف والطب والفلك وعلوم طبيعية أخرى، مؤكدا على وجود توافق أساسي بين المناهج المختلفة ظاهريا.

ويؤكد المؤلف على اعتبار الزبيدي عالما إنسانيا إسلاميا من منظور مقارن، حيث تعيد مؤلفاته إلى الأذهان الاهتمامات والتوجهات العلمية الإنسانية المهمة في بدايات أوروبا الحديثة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار