في الأول من سبتمبر/أيلول 1969 أطاح انقلاب عسكري بقيادة معمر القذافي بالنظام الملكي في ليبيا بينما كان الملك محمد إدريس السنوسي يتلقى العلاج في تركيا، فمن هو محمد إدريس السنوسي؟
تقول دائرة المعارف البريطانية إن محمد إدريس السنوسي أو إدريس الأول وُلد في 13 مارس/آذار من عام 1890 في جغبوب في برقة بليبيا، وتوفي في 25 مايو/أيار من عام 1983 في العاصمة المصرية القاهرة، وكان أول ملك لليبيا عندما نالت استقلالها عام 1951.
ترعرع محمد إدريس المهدي السنوسي في جغبوب، المعقل الروحي للطريقة السنوسية، وهو الابن الأكبر لمحمد المهدي السنوسي وحفيد مؤسس الطريقة الإمام محمد بن علي السنوسي.
ويقول الكاتب علي عبد اللطيف حميدة في كتاب "المجتمع والدولة والاستعمار في ليبيا" إن السنوسي نشأ في بيئة دينية متأثرة بالتصوف والإصلاح الإسلامي، حيث كان للسنوسية دور كبير في نشر الدعوة والتعليم الديني في الصحراء الكبرى وربط القبائل الليبية بروابط دينية واجتماعية وثيقة.
ومنذ صغره، تشرّب إدريس قيم الزهد والالتزام الديني والانضباط التي ميّزت رجال الدعوة السنوسية، وهو ما هيأه لاحقاً لقيادة الحركة في مرحلة دقيقة من تاريخ ليبيا.
في عام 1902، توفي الأب لكن الابن لم يتولَّ الزعامة مباشرة لأنه كان صغيراً، وانتقلت زعامة الطريقة أولاً إلى ابن عمه، أحمد الشريف.
وبعد أن تولى إدريس القيادة بمفرده بعد عام 1916، كانت أول مشكلة واجهها هي التعامل مع الإيطاليين، الذين غزوا ليبيا عام 1911 في محاولة لإنشاء إمبراطورية شمال أفريقية، لكنهم لم يتمكنوا من بسط سلطتهم إلى ما وراء الساحل.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه بعد احتلال الإيطاليين لليبيا عام 1911 واجهوا مقاومة طويلة الأمد من قبل السنوسيين في برقة، وهي المقاومة التي حرمتهم من السيطرة التامة على البلاد حتى عام 1931، عندما أسروا وأعدموا قائد المقاومة السنوسية المسلحة لأكثر من 20 عاماً - عمر المختار.
وقد شهدت ليبيا عقب الاحتلال الإيطالي عدداً من المعارك الكبيرة بين المقاومة بقيادة المختار والقوات الإيطالية، منها معركة درنة فى مايو/أيار عام 1913 التي دامت يومين، وانتهت بمقتل 70 جندياً إيطالياً وإصابة نحو 400 آخرين، ومعركة بوشمال عند عين ماره فى أكتوبر/تشرين الأول عام 1913، فضلاً عن معارك أم شخنب وشلظيمة والزويتينة في فبراير/شباط عام، 1914 والتي كان يتنقل خلالها المختار بين جبهات القتال ويقود المعارك.
وكان إدريس السنوسي رغم صغر سنه في عام 1911، مرجعية معنوية للمجاهدين، غير أن موقعه كزعيم ديني جعله أكثر ميلاً للتفاوض أحياناً من خوض المعارك المباشرة، وهو ما ظهر في اتفاقياته مع الإيطاليين لاحقاً.
وبموجب صلح عكرمة في عام 1917 ضمن إدريس وقف إطلاق النار، وبالتالي تأكيد سلطته في برقة الداخلية، وأُبرمت اتفاقية أخرى عام 1919، وأُنشئ بموجبها برلمان برقة، وحصل إدريس وأتباعه على منحة مالية.
وخلال سنوات الحرب العالمية الأولى، تحولت السنوسية إلى قوة إقليمية بعد أن دخلت في تحالف مع الدولة العثمانية وألمانيا ضد بريطانيا وإيطاليا، ولعب إدريس السنوسي دوراً سياسياً مهماً في إدارة هذا الوضع، خاصة وأن السنوسيين دخلوا في مواجهة مع القوات البريطانية في مصر والسودان.
لكن مع نهاية الحرب، أدرك إدريس أن موازين القوى العالمية قد تغيرت وأن الاستعمار الأوروبي أصبح واقعاً لا يمكن هزيمته بسهولة، وهو ما دفعه لاحقاً إلى انتهاج سياسة أكثر براغماتية مع إيطاليا وبريطانيا.
وفي عام 1920، وقّع إدريس معاهدات مع الإيطاليين اعترفت به أميراً على برقة، وهو ما أثار جدلاً واسعاً بين الوطنيين الليبيين، فالبعض اعتبر ذلك تنازلاً، فيما رأى آخرون أنها خطوة ذكية لحماية برقة والحفاظ على نوع من الحكم الذاتي.
وبالفعل، استطاع إدريس أن يؤسس نظاماً إدارياً منظماً في برقة، مستنداً إلى المؤسسات السنوسية والتقاليد القبلية، مما جعل برقة تتمتع بشيء من الاستقرار مقارنة ببقية ليبيا التي كانت ترزح تحت الاحتلال المباشر. وذلك بحسب الكاتب محمد الطيب الأشهب في كتابه "السنوسية وحركة التحرر في ليبيا".
لم يدُمْ هذا التوازن طويلاً، فمع صعود الفاشية في إيطاليا بقيادة موسوليني وإحكام قبضته على الحكم في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1922 انهارت التفاهمات السابقة، وشنّ الإيطاليون حرباً شرسة على المقاومة الليبية، خاصة في برقة بقيادة عمر المختار.
وفي هذه المرحلة، غادر إدريس السنوسي إلى مصر عام 1923، ليعيش في المنفى لسنوات طويلة، ولكنه ظل يمثل القيادة السياسية، فيما تولى عمر المختار قيادة الكفاح المسلح، وهكذا توزعت أدوار القيادة بين المنفى والميدان لكن الهدف ظل واحداً وهو مقاومة الاستعمار.
وعلى الأرض في ليبيا، أرادت إيطاليا أن تمنع طريق الإمداد للمقاومة فاحتلت واحة جغبوب، لكن ذلك لم يحُلْ دون تصاعد عمليات المقاومة، مما دفع موسولينى لتعيين بادوليو حاكماً عسكرياً لليبيا في يناير/كانون الثاني عام 1929.
وقد أعرب بادوليو عن رغبته في التفاوض مع المختار الذي استجاب لذلك وتم إبرام هدنة مدتها شهران.
وفي كتابه "عمر المختار شهيد الإسلام وأسد الصحراء" يقول محمد محمود إسماعيل، إن المختار نشر رسالة إلى الليبيين في ذلك الوقت قال فيها، إنه وافق على تلك الهدنة مقابل عودة الأمير محمد إدريس السنوسي، وانسحاب الإيطاليين من جغبوب، والعفو العام عن كل المعتقلين السياسيين وإطلاق سراحهم.
ولم ينفذ الإيطاليون بنود الهدنة، وقبل نهايتها طالبوا بتمديدها بحجة سفر بادوليو لروما، فمُددت لعشرة أيام وعشرين يوماً.
وهكذا، عندما اكتشف عمر المختار أن الإيطاليين يريدون كسب الوقت صعّد من عمليات المقاومة، فعيَّن موسولينى الجنرال غراتسيانى محل بادوليو، وفى 1931 سقطت منطقة الكفرة بأيدي الإيطاليين الذين شددوا ضغوطهم على المختار.
وفي 11 سبتمبر/أيلول 1931 نجح الإيطاليون في أسر عمر المختار بعد معركة قتل فيها جواده وتحطمت نظارته.
وبعدها بثلاثة أيام في 14 سبتمبر /أيلول، وصل القائد الإيطالي غراتسياني إلى بنغازي، وأعلن على عجل انعقاد المحكمة الخاصة في 15 سبتمبر/أيلول 1931، وفي الساعة الخامسة من مساء اليوم المحدد لمحاكمة عمر المختار صدر الحكم عليه بالإعدام شنقاً.
أما في مصر، فقد أقام إدريس شبكة علاقات سياسية ودبلوماسية مهمة، إذ استطاع بصفته أمير برقة وزعيماً للسنوسية أن يكسب ود الحكومة المصرية والبريطانيين.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، عاد إلى الواجهة من جديد، حيث تحالف مع بريطانيا ضد إيطاليا وألمانيا، وقد شكّلت القوات السنوسية المعروفة بـ "الجيش السنوسي" جزءاً من قوات الحلفاء في شمال أفريقيا، ولعبت دوراً في المعارك ضد قوات المحور.
وقد عزز هذا التحالف مع بريطانيا موقع إدريس السياسي، ومهّد الطريق لاعتراف دولي به كزعيم ليبي بعد الحرب.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت ليبيا تحت إدارة بريطانية وفرنسية مؤقتة، وكانت قضية استقلالها مطروحة على طاولة الأمم المتحدة.
وقد برز آنذاك إدريس السنوسي باعتباره الشخصية الأقدر على جمع شتات الليبيين والتحدث باسمهم.
وبالفعل، استطاع أن يقود المسار التفاوضي في الأمم المتحدة، حيث صدر القرار التاريخي بمنح ليبيا استقلالها في 21 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1949، لتصبح أول دولة في أفريقيا تنال استقلالها عبر الأمم المتحدة، وقد كان هذا الإنجاز ثمرة سنوات طويلة من العمل السياسي والدبلوماسي الذي قاده إدريس بحنكة وهدوء، وذلك بحسب ما ورد في كتاب "ليبيا بين الماضي والحاضر" لمحمد يوسف المقريف.
وفي 24 ديسمبر/كانون الأول من عام 1951، أُعلن استقلال ليبيا رسمياً تحت اسم "المملكة الليبية المتحدة"، ونُصّب محمد إدريس السنوسي ملكاً عليها.
وبذلك، أصبح أول ملك لليبيا الحديثة، جامعاً بين ولاياتها الثلاث وهي برقة وطرابلس وفزان، وقد تميز حكمه منذ البداية بالسعي لتحقيق التوازن بين الأقاليم الثلاثة التي كانت مختلفة في تركيبتها السياسية والاجتماعية.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه في عهد إدريس، كان للعرش نفوذٌ مُهيمنٌ على البرلمان وسيطرةٌ مُطلقةٌ على الجيش، وكانت الحكومة من سكان المدن الأثرياء وزعماء القبائل الأقوياء الذين تقاسموا المناصب الإدارية المهمة فيما بينهم ودعموا الملك.
وهذا الوضع، إلى جانب الدعم الخارجي من القوى الغربية والدعم العسكري الداخلي من رجال القبائل الموالين له، مكّن إدريس من السيطرة على شؤون الحكومة المركزية.
وخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، واجه الملك إدريس تحديات صعبة، أبرزها ضعف البنية الاقتصادية وندرة الموارد قبل اكتشاف النفط، فقد كانت ليبيا من أفقر دول العالم آنذاك، وتعتمد على المساعدات الدولية، خصوصاً البريطانية والأمريكية.
وقد سمح إدريس بإنشاء قواعد عسكرية أمريكية وبريطانية على الأراضي الليبية مقابل الدعم المالي، ورغم الانتقادات التي وُجّهت لهذه السياسة، إلا أنها ساعدت على استقرار المملكة حتى اكتشاف النفط في أواخر الخمسينيات.
ومع اكتشاف النفط، شهدت ليبيا تحولاً جذرياً، حيث تدفقت الثروات وبدأت مشاريع تنمية واسعة، غير أن ضعف المؤسسات، وانتشار الفساد في بعض الدوائر، إضافة إلى تمسك الملك بالأسلوب المحافظ في الحكم، جعلت الإصلاحات محدودة، كما أن تراجع صحة الملك وتقدمه في السن جعلاه أكثر اعتماداً على الدائرة الضيقة من مستشاريه، وهو ما خلق فجوة بين السلطة والشباب المتطلع إلى التغيير.
وفي السياسة الخارجية، تبنى الملك إدريس خطاً معتدلاً، معتمداً على التحالف مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، لكنه في الوقت نفسه لم يعارض التعاون مع العالم العربي، إذ انضمت ليبيا إلى جامعة الدول العربية وشاركت في بعض المواقف القومية، وإن كانت بحذر شديد. وقد جعل هذا الموقف المتوازن ليبيا في منأى عن الصراعات الإقليمية الكبرى، لكنه عرّضها أيضاً لانتقادات التيار القومي العربي الذي كان يرى في إدريس ملكاً محافظاً قريباً من الغرب أكثر من اللازم.
ومع هزيمة الجيوش العربية في حرب يونيو/حزيران من عام 1967، تصاعدت الضغوط الداخلية على النظام الملكي في ليبيا، فقد خرجت المظاهرات في طرابلس وبنغازي مطالبة بإغلاق القواعد الأجنبية، وهو ما استجاب له الملك إدريس، إذ أعلن إلغاء القواعد البريطانية والأمريكية بحلول 1970، غير أن هذه الخطوة لم تكن كافية لاحتواء الغضب الشعبي، خاصة وأن المد القومي الناصري كان في أوجِه.
وفي سبتمبر/أيلول 1969، بينما كان إدريس يتلقى العلاج في منتجع تركي، انقلب الجيش بقيادة معمر القذافي على الحكومة، فسافر إدريس أولاً إلى اليونان، ثم مُنح اللجوء السياسي في مصر.
وفي عام 1974، حوكم غيابياً بتهم فساد، وأُدين، وظل في المنفى في القاهرة حتى وفاته في 25 مايو/أيار من عام 1983.
لقد رحل الملك إدريس السنوسي تاركاً إرثاً متناقضاً، فقد كان بطل الاستقلال ورمز توحيد ليبيا، لكنه في الوقت نفسه عُرف بحكم محافظ لم يحقق إصلاحات سياسية كبرى.
إن إرث إدريس يعكس التناقضات التي عاشتها ليبيا في القرن العشرين بين الدين والسياسة، وبين القبيلة والدولة، وبين الشرق والغرب، وبين المحافظة والتجديد؛ فقد جاء من بيئة سنوسية صوفية محافظة، لكنه تعامل ببراغماتية مع القوى الكبرى، وحكم في زمن يهيمن عليه الخطاب القومي الثوري، في حين أنه ظل متمسكاً بالاعتدال والتحالف مع الغرب.
وهكذا، بعد أكثر من نصف قرن على سقوط حكمه، ما زال اسم إدريس السنوسي يعود إلى النقاش كلما طرحت مسألة الشرعية والهوية الوطنية في ليبيا، فالبعض يستحضر ذكراه بوصفه رمزاً للاستقرار والوحدة، في مقابل عقود من الاضطرابات التي عاشتها ليبيا بعده، والبعض الآخر يعتبر أن عهده كان بداية ضياع فرصة بناء دولة حديثة قوية.
وبين هذا وذاك، تبقى سيرته شاهداً على مرحلة تأسيسية في تاريخ ليبيا، حين خرج بلد فقير ممزق من سيطرة الاستعمار ليولد كدولة مستقلة.
ولعل كل ذلك ما يجعل صورته معقدة، فهو ليس بطلاً ثورياً على شاكلة عبد الناصر، لكنه أيضاً لم يكن مجرد دمية بيد الاستعمار، بل رجل توازنات حاول أن يحمي بلاده بأدوات السياسة الواقعية.