تأتي تطورات الأزمة الراهنة في السودان ومطاردة سيناريو التقسيم له، لتمثل تجسيداً مأساوياً لالتقاء الفشل البنيوي الداخلي في إدارة التنوع والمكونات مع الأطماع الجيوسياسية الخارجية، حيث تحول هذا البلد الذي يسكنه أكثر من 50 مليون نسمة من دولة واعدة بمواردها إلى ساحة صراع وجودي يهدد وحدتها الترابية.
إشكالية التنوع
إن الوقوف حول الأسباب التي دفعت السودان إلى وضعه الراهن، يجب أن يبدأ من عجز النخب السياسية المتعاقبة عن إدارة التنوع الديمغرافي الهائل الذي يزخر به هذا البلد العربي الأفريقي الشرق أوسطي، يما يتضمن من نسيج اجتماعي شديد التعقيد، يقوم على قبائل عربية تشكل مركز الثقل في الوسط والشمال، ومجموعات إثنية أصيلة ومؤثرة أخرى مثل الفور والزغاوة والمساليت في دارفور، والبجا في الشرق، والنوبة في جنوب كردفان، والنوبيين في أقصى الشمال.
فسيفساء السودان بلا شك فريدة كان من المفترض أن تكون مصدر ثراء ثقافي، إلا أنه تحول بفعل سياسات التهميش الاقتصادي والمركزية القابضة، والطمع في الاستئثار بالثروات إلى شروخ مجتمعية غائرة، تجلت بوضوح في أحداث دارفور الدامية وصدامات الجنينة والفاشر، حيث تم استثمار الانتماء القبلي في النزاعات المسلحة، بدلاً من صهره في إطار هوية وطنية جامعة، مما خلق حالة من الاستقطاب الحاد بين المكونات “العربية” و”الأفريقية” داخل الدولة الواحدة.
في واقع الأمر، فإن السودان نموذج لتداخل مصالح القوى الدولية الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين مع أطراف داخل البلاد، حيث تتصارع على النفوذ والقواعد العسكرية وتأمين الموارد، بينما تلعب أطراف إقليمية أدواراً متباينة عبر دعم أطراف النزاع بالمال والسلاح، مما حول الحرب من صراع محلي على السلطة إلى حرب وكالة دولية تتغذى على دماء السودانيين.
وقد كشفت الأحداث الأخيرة، من خلال تدفق السلاح النوعي العابر للحدود، كيف أن الأجندة الخارجية باتت هي المحرك الأساسي لاستمرار القتال، وفشل مبادرات السلام المتعددة، حيث أصبح القرار السيادي السوداني رهيناً لتوازنات القوى في العواصم البعيدة، على نحو يضع مستقبل البلاد أمام سيناريو “التقسيم الواقعي” الذي يفرضه الميدان، حيث تتشكل ملامح سلطتين منفصلتين جغرافياً وإدارياً بين شرق وشمال يقع تحت سيطرة الجيش، وغرب وجزء من الوسط تحت سيطرة قوات الدعم السريع.
ويرى اللواء محمد عبدالواحد المستشار في الأمن القومي وخبير العلاقات الدولية أن سيناريو التقسيم للسودان “للأسف” هو الأقرب، وفق تعبيره، موضحاً، في اتصال هاتفي لوكالة فرات للأنباء (ANF)، أن الواقع الميداني يؤكد أن هناك تقسيماً فعلياً، كما أن الصراع في البلاد جزء من صراع جيوسياسي دولي بين القوى العظمى، سواء من قبل الولايات المتحدة وحلفائها وضد التواجد الروسي – الإيراني – الصيني من جهة أخرى.
وأضاف أن هذه الأطراف تعزز الصراع بين الأطراف المحلية، وما حدث مؤخراً من عمليات عسكرية وإطالة زمن الحرب يؤكد أن الداعمين الدوليين يدعمون بسخاء أطراف الحرب، مشيراً إلى أن الانتصارات الحقيقية التي حققتها قوات الدعم السريع بالسيطرة على دارفور، تعني سيطرة أيضاً على الموارد وخاصة الذهب، وسيطرة جيوسياسية على المثلث الحدودي ما بين ليبيا وتشاد والسودان، بما تملك من ممرات تهريب، ثم الانتصارات في كردفان والسيطرة على منابع النفط بها، ما يعني أن هناك من يريد إعادة رسم الخريطة السودانية وفق توزيع الموارد وليس الجغرافيا.
تؤكد الآراء السابقة أن استمرار نفس الوضع يعني تمزيق السودان إلى كيانات هشة متصارعة تشبه نموذج “الدول الفاشلة”. وبالتالي فإن تجاوز خطر التقسيم يظل رهيناً بقدرة القوى المدنية والعسكرية على بناء عقد اجتماعي جديد يعترف بحقوق الأطراف المهمشة ويوقف التدخل الخارجي، وبدون ذلك، يظل السودان مرشحاً لأن يكون ضحية لتاريخه الديموغرافي غير المدار وجغرافيته السياسية المطمع
المصدر:
الراكوبة