في قلب القرن الإفريقي، حيث تتشابك مصالح الأنظمة العسكرية مع شبكات المال الفاسد، وتتحول عواصم اللجوء إلى مصائد للموت، برزت قضية الناشط السوداني هشام علي محمد علي، المعروف بلقب “ود قلبا”، كواحدة من أخطر ملفات الاستهداف السياسي في عام 2024. هذا التقرير الاستقصائي، الذي يمتد عبر آلاف الكلمات، لا يكتفي بسرد وقائع محاولة الاختطاف والاغتيال التي جرت فصولها في أديس أبابا في يوليو 2024، بل يغوص عميقاً في جذور الصراع بين “الكلمة الحرة” و”البندقية المأجورة”. نحن هنا بصدد تفكيك “بنية الاستبداد العابر للحدود”، حيث تكشف الوثائق والشهادات والتحليلات أن ما جرى لـ”ود قلبا” لم يكن حادثاً عرضياً، بل حلقة في سلسلة طويلة من العمليات القذرة التي تديرها “مافيا” تزاوجت فيها السلطة العسكرية بالفساد المالي، لتدير حرباً خفية ضد كل من يجرؤ على كشف المستور.
يستند هذا التقرير إلى تحليل دقيق للوقائع الميدانية، والوثائق المسربة التي عُرفت بـ”سلسلة الشيطان”، والسجل التاريخي الأسود لملاحقة النشطاء السودانيين في المنافي، من جدة إلى أديس أبابا. سنكشف كيف تحول “ود قلبا” من محاسب مغترب إلى “العدو رقم واحد” لشبكات نفوذ يقودها رجال أعمال واجهة لجنرالات كبار في الجيش السوداني، وكيف تُستخدم أجهزة الدولة الدبلوماسية والأمنية لتصفية الحسابات الشخصية والسياسية، في انتهاك صارخ للسيادة الوطنية للدول المضيفة وللقوانين الدولية لحقوق الإنسان.
كانت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بمناخها الماطر في يوليو، تبدو ملاذاً بارداً وآمناً لآلاف السودانيين الفارين من جحيم الحرب المستعرة في بلادهم. في هذا المشهد المكتظ باللاجئين والنشطاء والسياسيين، كان هشام علي “ود قلبا” يتحرك بحذر اعتيادي، غير مدرك أن العيون التي راقبته لسنوات في الخرطوم والرياض قد لحقت به إلى هنا. في ظهيرة يوم الأحد، الثامن والعشرين من يوليو، وبينما كان يتسوق برفقة ابنه في أحد الأسواق المحلية المزدحمة، تحول الروتين اليومي إلى كابوس أمني. 1
لم يكن الهجوم عشوائياً. تشير التفاصيل الدقيقة إلى عملية رصد ومتابعة استمرت لأيام، وربما أسابيع. اعترضت طريقه مجموعة مكونة من أربعة أشخاص، في مشهد أعاد للأذهان عمليات الاختطاف التي نفذتها أجهزة مخابراتية في حقب مظلمة. التكوين البشري للمجموعة المهاجمة كان بحد ذاته رسالة سياسية وأمنية:
في العرف الاستخباراتي، اللجوء إلى إخفاء الهوية في عملية توقيف “رسمية” مفترضة يحمل دلالة واحدة: العملية ليست قانونية بالكامل، وهناك نية لإخفاء هوية المنفذين الحقيقيين عن الضحية وعن الشهود. وجود سودانيين ملثمين يرافقون الشرطة الإثيوبية يقطع الشك باليقين بأن المحرك الأساسي للعملية هو “جهاز أمني سوداني” يعمل تحت غطاء، أو بتواطؤ، مع عناصر محلية.3 تشير الترجيحات القوية إلى أن هذين الشخصين يتبعان لجهاز الأمن الخاص بالسفارة السودانية في أديس أبابا، أو لخلية استخباراتية عسكرية (MI) تم نشرها لاصطياد النشطاء المؤثرين.4
تم اقتياد هشام، وسط صدمة ابنه وذهول المارة، إلى قسم شرطة “ليديتا” في أديس أبابا. 2 الرحلة لم تكن مجرد نقل لمحتجز، بل كانت عملية ضغط نفسي وترهيب. وجود الملثمين السودانيين داخل سيارة الشرطة، ونظراتهم، كانت تهدف لكسر إرادة الناشط وإيصال رسالة مفادها: “لا مكان آمن لك، نحن نملك القدرة على الوصول إليك أينما كنت”.
داخل قسم الشرطة، بدأت تتكشف طبيعة “الفخ”. لم توجه له تهم تتعلق بالإقامة أو مخالفات قانونية إثيوبية. التهمة كانت جاهزة ومفصلة: “بلاغات جنائية” مقدمة من شخصية سودانية نافذة. هنا، تحولت القضية من إجراء شرطي إثيوبي إلى ساحة لتصفية حسابات سودانية-سودانية. 1 التحقيقات الأولية كشفت أن الشاكي هو “محمد عثمان محمد محمود”، الاسم الذي سيصبح مفتاحاً لفهم كل ما جرى. 2
اللافت في هذه الحادثة هو السرعة التي تحركت بها الآلة الأمنية الإثيوبية بناءً على بلاغ من شخص أجنبي ضد لاجئ سياسي. هذا يطرح تساؤلات عميقة حول مدى استقلالية القرار الأمني الإثيوبي في مواجهة النفوذ المالي والاستخباراتي السوداني.
رغم التخطيط المحكم، فشلت العملية في تحقيق هدفها النهائي (سواء كان التغييب القسري أو الترحيل). في اليوم التالي، الاثنين 29 يوليو، مثُل هشام أمام القضاء. والمفاجأة كانت غياب الشاكي (محمد عثمان) ومحاميه عن الجلسة. 2 هذا الغياب ليس عبثياً؛ فهو يشير إلى أحد احتمالين:
أمام هذا الغياب، وبفضل الضغط الإعلامي والحقوقي المكثف الذي انطلق فور انتشار خبر الاختفاء، اضطرت السلطات الإثيوبية للإفراج عنه بالضمان الشخصي. 1 لكن الحادثة تركت جرحاً غائراً، ورسخت قناعة بأن “الأمان” في المنافي هو وهم كبير.
لفهم “لماذا” تم استهداف ود قلبا بهذه الشراسة، يجب الغوص في المحتوى الذي كان ينشره في الأسابيع السابقة لمحاولة الاغتيال. لقد تجاوز هشام الخطوط الحمراء التقليدية؛ لم ينتقد الأداء السياسي فحسب، بل ضرب “العصب المالي” للمؤسسة العسكرية.
أطلق هشام علي سلسلة تدوينات وتسريبات صوتية تحت عنوان “سلسلة الشيطان”، استهدفت بشكل مباشر تفكيك إمبراطورية الفساد التي تدير اقتصاد الحرب في السودان. المحتوى كان صادماً ودقيقاً، مما يشير إلى اختراق عميق لمصادر المعلومات داخل الدائرة الضيقة لصنع القرار. 2
جدول تفصيلي للاتهامات الواردة في السلسلة:
المتهم الرئيسيالمنصب/الصفةطبيعة الاتهامات (وفق التسريبات)الجهات المتورطة معهمحمد عثمان رجل أعمال/واجهة مالية غسيل أموال، تمويل صفقات سلاح مشبوهة، تلاعب بالعملة، تصدير ذهب غير قانوني. الفريق كباشي، اللواء صبير (الاستخبارات)الفريق شمس الدين كباشي نائب القائد العام للجيش التنسيق مع “الإسلاميين” لإفشال الاتفاق الإطاري، تلقي أموال عبر شركات محمد عثمان، التآمر السياسي. الحركة الإسلامية، محمد عثماناللواء محمد علي صبير مدير الاستخبارات العسكرية توفير الغطاء الأمني لشركات الفساد، استخدام نفوذ الاستخبارات لتصفية الخصوم التجاريين والسياسيين. جهاز الاستخبارات، شبكات الأمن الشعبيالذروة في هذه السلسلة كانت نشر تسجيلات صوتية زعم “ود قلبا” أنها توثق مكالمات هاتفية بين “الشيطان” (محمد عثمان) وعدد من المسؤولين. 1 هذه التسريبات لم تكن مجرد ثرثرة؛ بل كانت أدلة جناية محتملة:
نشر هذه المعلومات في توقيت حساس، حيث يعاني الجيش من ضغوط ميدانية ودولية، شكل ضربة موجعة لـ”شرعية” القيادة العسكرية. لقد هدمت السردية التي يحاول الجيش ترويجها (حرب الكرامة)، وأظهرت الوجه الآخر للمعركة: صراع على الموارد والنفوذ المالي. هذا “التعرية” الكاملة هي التي وقعت قرار التصفية أو الاعتقال بحق هشام علي؛ فالمسألة لم تعد “رأي ورأي آخر”، بل أصبحت “حياة أو موت” لمصالح بمليارات الدولارات.
لا يمكن فصل اليد التي حاولت اختطاف هشام في أديس أبابا عن العقل المدبر في الخرطوم (أو بورتسودان). تشير أصابع الاتهام، مدعومة بالأدلة والقرائن، إلى تحالف ثلاثي الأبعاد:
رغم أنه ليس وجهاً إعلامياً مألوفاً، إلا أن محمد عثمان محمد محمود يمثل “الصندوق الأسود” للنظام الحالي.
كباشي ليس مجرد جنرال؛ إنه لاعب سياسي محنك وطموح. ارتباط اسمه بفساد “محمد عثمان” يضرب مستقبله السياسي في مقتل.
المنفذ الفعلي للعملية في الميدان (أديس أبابا) هو جهاز الاستخبارات العسكرية (بقيادة اللواء صبير) وعناصر جهاز المخابرات العامة (GIS) العاملين في السفارات. 1
لفهم شراسة الهجمة الحالية، يجب أن نعود بالزمن لندرك أن هشام علي “ود قلبا” هو “الناجي العائد من الموت”. قصته مع الاعتقال والتعذيب والترحيل القسري تشكل وصمة عار في جبين حقوق الإنسان، وتكشف عن نمطية (Pattern) منهجية في سلوك النظام السوداني.
في 18 نوفمبر 2017، بدأت فصول المأساة الأولى. قوات الأمن السعودية، بطلب مباشر من جهاز الأمن السوداني (الذي كان يقوده آنذاك صلاح قوش)، اقتحمت شقة هشام في جدة. 6
رغم المناشدات الدولية الصارخة من “منظمة العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش”، التي أكدت أن ترحيله يعني تعريض حياته للخطر (مخالفة مبدأ Non-refoulement)، قامت السلطات السعودية بتسليمه للخرطوم في 29 مايو 2018.6
هذا الترحيل كان بمثابة “حكم بالإعدام المؤجل”. وصل مطار الخرطوم مقيداً، ليستقبله ضباط جهاز الأمن بعبارات الشماتة والوعيد.
في الخرطوم، اختفى هشام قسرياً. المعلومات التي تسربت لاحقاً أكدت تعرضه لتعذيب وحشي أدى لتدهور حالته الصحية، مما استدعى نقله لمستشفى “الأمل” التابع للجهاز، وهو مكان يُعرف بأنه واجهة للعلاج وباطن للتحقيق القاسي.10
واجه تهماً تصل عقوبتها للإعدام (تقويض النظام الدستوري، التخابر). صمد هشام في الزنازين الانفرادية لما يقارب العام، ولم يخرج إلا بفضل دماء شهداء ثورة ديسمبر التي أسقطت البشير وفتحت أبواب السجون في أبريل 2019.11
مقارنة بين حادثتي 2017 (السعودية) و 2024 (إثيوبيا):
وجه المقارنةحادثة السعودية (2017)حادثة إثيوبيا (2024)التحليلالجهة الطالبة جهاز الأمن والمخابرات (نظام البشير) تحالف محمد عثمان/الاستخبارات (سلطة الأمر الواقع) استمرار نفس العقلية الأمنية رغم تغير الوجوه.الغطاء القانوني أمن الدولة/مكافحة الإرهاب بلاغ جنائي (تشهير/فساد) تطور التكتيك من “الأمني البحت” إلى “تلفيق الجرائم الجنائية”.التنفيذ قوات سعودية رسمية شرطة إثيوبية + عناصر سودانية ملثمة تزايد الجرأة والتدخل المباشر للعناصر السودانية في الخارج.النتيجة
ترحيل قسري وسجن طويل إفراج سريع بعد ضغط إعلامي ضعف النظام الحالي وهشاشته أمام الضغط مقارنة بنظام البشير القوي آنذاك.لماذا يخشون هذا الرجل تحديداً؟ الإجابة تكمن في مسيرته التي تحولت من العمل المهني إلى النضال الشرس.
هشام علي، المحاسب الذي استقر في السعودية منذ 2010، لم يكن يطمح لزعامة سياسية. 8 نقطة التحول كانت مجزرة سبتمبر 2013. مشاهد القتل في شوارع الخرطوم حولته من مراقب إلى فاعل. استغل خبرته كمحاسب في “تتبع مسار المال”. لم يكن يكتب شعارات فضفاضة، بل كان ينشر أرقاماً ووثائق تكشف أين تذهب أموال البترول والذهب، وكيف يثرى المسؤولون بينما يجوع الشعب.
في 2016، كان ود قلبا أحد العقول المدبرة لحملة العصيان المدني الناجحة. 12 صفحته على فيسبوك تحولت لغرفة عمليات بديلة للإعلام الرسمي. قدرته على الحشد والتأثير على الرأي العام جعلته خطراً استراتيجياً يفوق خطر الأحزاب التقليدية المترهلة.
بعد سقوط البشير، لم يركن هشام للراحة. أدرك مبكراً أن “اللجنة الأمنية” للنظام السابق لا تزال تمسك بمفاصل الدولة. استمر في فضح محاولات الالتفاف على الثورة، وكشف خبايا فض اعتصام القيادة العامة، والآن يكشف خفايا اقتصاد الحرب. هذا “النفس الطويل” وعدم القابلية للشراء هو ما يجعله هدفاً دائماً للتصفية.
تلقي حادثة ود قلبا الضوء على الوضع الأمني المعقد في إثيوبيا، التي تستضيف عشرات الآلاف من اللاجئين السودانيين.
تاريخياً، كانت العلاقة بين المخابرات السودانية والإثيوبية تتسم بالمد والجزر. في ظل الحرب الحالية، يبدو أن المخابرات السودانية نجحت في إعادة بناء شبكاتها في أديس أبابا.
يعاني اللاجئون السودانيون في إثيوبيا من ظروف أمنية كارثية. مخيمات مثل “أولالا” و”كومر” تتعرض لهجمات مستمرة من مليشيات “الفانو” وعصابات “الشفتا”، وسط غياب للحماية الحكومية. 13 حادثة ود قلبا في قلب العاصمة تضيف بعداً جديداً للمخاطر: “الخطر السياسي”. لم يعد اللاجئ آمناً من عصابات النهب فحسب، بل أصبح هدفاً للملاحقة السياسية في وضح النهار.
استخدام الأراضي الإثيوبية لتصفية الحسابات السودانية يضع حكومة آبي أحمد في مأزق. الصمت على هذه الانتهاكات قد يُفسر كضوء أخضر، مما يضرب مصداقية إثيوبيا كوسيط محايد في الأزمة السودانية. في المقابل، قد يؤدي التصدي لهذه الأنشطة إلى توتر العلاقات الدبلوماسية مع حكومة بورتسودان (الجيش)، وهو توازن دقيق تحاول أديس أبابا الحفاظ عليه.
قضية ود قلبا ليست حالة فردية، بل هي دراسة حالة (Case Study) تشرح كيف تطورت أساليب القمع السوداني لتواكب شتات المعارضة.
بعد اندلاع حرب أبريل 2023، تبنت الاستخبارات السودانية استراتيجية “نقل المعركة إلى الخارج”. الفكرة تقوم على أن “الإعلام المعادي” في الخارج هو الذي يغذي استمرار الدعم السريع ويفضح انتهاكات الجيش. لذلك، تم وضع قوائم سوداء تضم نشطاء مؤثرين (Influencers) وصحفيين استقصائيين.
ما يميز الموجة الحالية هو دخول “رجال الأعمال” (مثل محمد عثمان) كلاعبين أساسيين في القمع. هم يمولون هذه العمليات من حر مالهم “الفاسد” دفاعاً عن مصالحهم، مما يوفر للدولة “إنكاراً معقولاً” (Plausible Deniability). الدولة تقول: “هذا نزاع شخصي بين مواطنين”، بينما في الحقيقة هي عملية أمنية منظمة وممولة. 4
إن نجاة هشام علي “ود قلبا” من فخ أديس أبابا في يوليو 2024 لا تعني نهاية القصة. بل هي بداية لفصل جديد وأكثر دموية في الصراع بين قوى الثورة السودانية وقوى الردة المتحالفة مع اقتصاد الحرب.
أولاً: أثبتت الحادثة أن “سلسلة الشيطان” أصابت مقتلاً في بنية الفساد العسكري، وأن المعلومات التي بحوزة “ود قلبا” تشكل تهديداً وجودياً لجنرالات الحرب. هذا يعني أن محاولات إسكاته ستستمر، وربما تتخذ أشكالاً أكثر عنفاً في المستقبل.
ثانياً: كشفت الواقعة عن هشاشة وضع النشطاء السودانيين في دول الجوار، خاصة إثيوبيا ومصر، وضرورة تحرك المجتمع الدولي (UNHCR) لتوفير حماية خاصة للمدافعين عن حقوق الإنسان المعرضين لخطر الاستهداف العابر للحدود.
ثالثاً: والأهم، أكدت قضية ود قلبا أن المعركة في السودان ليست عسكرية فقط؛ هي معركة ضد “دولة عميقة” راسخة، تستخدم المال الفاسد والسلطة الدبلوماسية والأجهزة الأمنية كأذرع أخطبوطية لخنق أي صوت ينادي بالشفافية والمحاسبة.
يبقى “ود قلبا” رمزاً حياً للمقاومة، وشاهداً على أن الكلمة، حينما تكون مدعومة بالوثيقة والحقيقة، تكون أحدّ من الرصاص، وأقوى من سجون الطغاة، حتى وإن لاحقتها ظلال الموت عبر الحدود.
تحليل استقصائي شامل يستند إلى وقائع وشهادات وتقارير حقوقية موثقة..1
المصدر:
الراكوبة