1
تعرّضنا في المقال السابق من هذه السلسلة من المقالات إلى تصاعد النقاش، في منتصف أربعينيات القرن الماضي، داخل أروقة الحكم الثنائي، حول مستقبل العلاقات بين شمال وجنوب السودان بعد مغادرة حكامه السودان. ذكرنا أنه رغم أن السلطات البريطانية قرّرت أن يظلَّ السودانُ موحّداً، إلا أنها قامت بالدعوة لمؤتمر جوبا الذي انعقد في شهر يونيو عام 1947، وحضره ممثلون للشمال والجنوب. شرحنا الجدل في تفسير قرارات المؤتمر بين الشماليين الذين قرأوها كاتفاقٍ على الوحدة، بنما فسر أبناء الجنوب ما أثاره بعض السلاطين في المؤتمر من تبايناتٍ وخلافاتٍ في العادات والتقاليد والدين والعرق والثقافة بأنه كان دعوةً لقيام نظامٍ فيدرالي. ناقشنا أيضاً إثارة مطلب الفيدرالية في الجمعية التشريعية وفي لحنة الدستور. كما أشرنا إلى التغيّرات التي تمّت في القاهرة بعد استيلاء الضباط الأحرار على السلطة في 23 يوليو 1952، ومراسم توقيع اتفاقية تقرير المصير في 12 فبراير عام 1953. كما أشرنا إلى صدور قانون الحكم الذاتي في 21 مارس 1954 كأول دستورٍ للسودان، بغرض وضع الأسس لإدارة السودان خلال الفترة الانتقالية والتي ستقود إلى تقرير المصير.
2
كما ذكرنا في المقال السابق، فقد خلى قانون الحكم الذاتي لعام 1953 من أيّ نصوصٍ تعطي جنوب السودان أي وضعٍ خاص، دعك من نظام الحكم الفيدرالي الذي ظلّ يطالب به منذ عام 1947. كما أن المادة 100 من مشروع القانون، والتي كانت قد منحت الحاكم العام صلاحيات خاصة تتعلّق بجنوب السودان، تم حذفها. وقد حلّت محل هذه المادة فقرةٌ فضفاضةٌ تعطي الحاكم العام مسئولية خاصة لضمان المعاملة المنصفة لكل مديريات السودان. وقد كان كل ما اشتمل عليه قانون الحكم الذاتي فيما يخصُّ جنوب السودان هو منحهم مقعدين في مجلس الوزراء. غير أن هذا النصَّ نفسه لم يتم الالتزام به من الساسة الشماليين، كما سنناقش لاحقاً.
3
تضمّن قانون الحكم الذاتي إجراء انتخاباتٍ برلمانية لمجلسي النواب والشيوخ في كل أنحاء السودان. كما تضمّن تشكيل حكومةٍ وطنيةٍ تدير السودان خلال فترة الحكم الذاتي، مع بقاء بعض الصلاحيات الدستورية والإدارية في يد الحاكم العام الذي كان سيظل بريطانياً خلال فترة الحكم الذاتي. بدأت الاستعدادات لانتخابات مجلسي النواب والشيوخ في شهر أبريل عام 1953، وبدأ الاقتراع في شهر نوفمبر من العام ذاته إثر انتهاء فترة الخريف في معظم أنحاء السودان، وتمّ إعلان النتائج في بداية شهر ديسمبر. أشرفت على الانتخابات لجنة دولية ترأسها القاضي سكومارسن من الهند. تكوّن مجلس النواب من 97 مقعداً، خُصِّصتْ منها خمسة مقاعد للخريجين، و92 دائرة جغرافية، شملت 22 دائرة لمديريات الجنوب الثلاثة، منها سبع دوائر لمديرية بحر الغزال، وسبع دوائر أخرى للمديرية الإستوائية، وثماني دوائر لمديرية أعالي النيل.
فاز الحزب الوطني الاتحادي بواحدٍ وخمسين مقعداً، بما فيها ستة مقاعد في الجنوب، من المقاعد الكلية لمجلس النواب البالغة 97 مقعداً، وشكّل الحكومة لوحده في يناير عام 1954، وأصبح السيد إسماعيل الأزهري رئيساً للوزراء. استعان حزب الأمة الذي أحرز 21 مقعداً فقط بالسيد محمد أحمد محجوب، والذي فاز كمستقلٍ في إحدى دوائر الخريجين الخمسة، ليكون زعيماً للمعارضة.
4
جرت الانتخابات في جنوب السودان في ال 22 دائرة المخصّصة للجنوب. شرع السيد بوث ديو، الذي فاز في الانتخابات في احدى دوائر المديرية الإستوائية، في جمع الجنوبيين الذين فازوا في الانتخابات تحت مظلّة حزب الجنوب الذي أنشأه عام 1951. وقد ارتكز برنامج هذا الحزب على إقامة نظامٍ فيدراليٍ بين الشمال والجنوب، وهو ما كان يطالب به السيد بوث ديو في الجمعية التشريعية عام 1948، ولجنة الدستور عام 1951.
وكان الحزب قد نجح في إحراز عشرة مقاعد في الدوائر التي خُصّصت للجنوب والبالغ عددها 22 دائرة في انتخابات الجمعية التشريعية، كما ذكرنا أعلاه. وفاز حزبٌ جنوبيٌ آخر سمّى نفسه بتحالف الجنوب السياسي بمقعدين وأعلن أربعةٌ من الفائزين أنهم مستقلون، وحاز الحزب الوطني الاتحادي على المقاعد الستة الباقية في جنوب السودان.
5
وقد أعاد قادة حزب الجنوب تنظيم أنفسهم وهم في الباخرة في طريقهم إلى الخرطوم بعد انتهاء الانتخابات، وسمّوا الحزب الجديد “حزب الجنوب الليبرالي” والذي عُرف اختصاراً باسم الحزب الليبرالي (وقد تمّت ترجمة الاسم إلى حزب الأحرار). وقد انضم النواب المستقلون ونواب حزب تحالف الجنوب السياسي إلى الحزب الليبرالي ليرتفع عدد نوابه في البرلمان إلى ستة عشر نائباً. وأكّد الحزب أن برنامجه يرتكز على النظام الفيدرالي لجنوب السودان.
6
أشارت المادة 14 من قانون الحكم الذاتي إلى تشكيل مجلس الوزراء من عشرة إلى خمسة عشر وزيراً، على أن يكون اثنان منهم على الأقل من جنوب السودان. قام السيد إسماعيل الأزهري بتعيين ثلاثة من نواب الجنوب الذين فازوا في الانتخابات، وهم السادة سانتينو دينق، وبولين ألير، وداك داي، كوزراء دولة بلا أعباء، وليس كوزراء، أو حتى كوزراء دولة لأيةٍ من الوزارات الخمسة عشر التي تمّ إنشاؤها. وكان ثلاثتهم قد انضموا للحزب الوطني الاتحادي وخاضوا الانتخابات وفازوا فيها تحت مظلّة وتمويل الحزب، ضمن نواب الحزب الستة الذين فازوا في الجنوب.
وهكذا نجح السيد إسماعيل الأزهري في استبعاد الحزب الليبرالي بنوابه الستة عشر من الحكومة لأنه كان ينادي بالفيدرالية. وعيّن السيد الأزهري ثلاث شخصيات جنوبية ارتبطت بالحزب الوطني الاتحادي، ولا علاقة لها بالأحزاب الجنوبية، أو بمطلب الفيدرالية، بعد أن نجح في استمالتهم بأموال الانتخابات ووعود الوزارة. ويبدو أن السيد الأزهري وقادة حزبه قد قرروا اتباع نظرية “فرّقْ تسُدْ” بين أبناء الجنوب. ولكن كما برهنت الأيام كانت تلك سياسةً قصيرة النظر، ساهمت كثيراً في نمو وتزايد الاحتقان السياسي بين جنوب وشمال السودان، كما سنوضّح لاحقاً.
7
أبدى الحزب الليبرالي، والذي أصبح الحزب الجنوبي الوحيد في الساحة السياسية السودانية، استياءه وإحباطه من تلك التعيينات، وأعلن أنها لا تُمثّل جنوب السودان ولا تلبّي مطالب وطموحات شعبه. واعتبر الحزب التعيينات استخفافاً كبيراً بالحزب الليبرالي الذي لم يجد السيد الأزهري من بين أعضائه الستة عشر الذين فازوا في الانتخابات من يعينه في مجلس وزرائه، وتقليلاً من قدر أبناء الجنوب الذين يمثلهم الحزب. وقد سخر أعضاء الحزب الليبرالي من وظيفة “وزير دولة بلا أعباء”، وأشار الحزب إلى أن السيد الأزهري لم يجد من بين جميع أبناء الجنوب من يمكن تعيينه وزيراً كاملاً، أو حتى وزير دولة لإحدى الوزارات القائمة، وابتدع وظيفة وزير دولة بلا أعباء التي لايملك حاملها أيّة سلطاتٍ تنفيذية، ولم يسمع بها أحد من قبل. رغم هذه الاحتجاجات فقد أشار السيد الأزهري أنه بهذه التعيينات قد زاد على ما تتطلّبه المادة 14 من قانون الحكم الذاتي فيما يختصّ بتعيينات أبناء الجنوب من وزيرين إلى ثلاثة وزراء. وكان السيد الأزهري قد رفض مقترح إنشاء وزارة تنمية الجنوب التي كان حزب الجنوب، ومن بعده الحزب الليبرالي، قد اقترحاها وطالبا بها. تجدر الإشارة هنا إلى أن السيد الأزهري كان قد عيّن السيد ميرغني حمزة، أكبر منافسيه لقيادة الحزب الوطني الاتحادي، وزيراً لثلاث وزارات: الزراعة والري والمعارف (التربية والتعليم لاحقاً).
8
من المؤكّد أن مثل هذا الاستخفاف لم يكن لينتج عنه إلّا مزيدٌ من الغبن والاحتقان في العلاقات بين الجنوب والشمال. كما أن خلق الشقاق بين ساسة الجنوب، وشراء الذمم بواسطة الأحزاب الشمالية، ساهم في السنوات التي سبقت وتلت الاستقلال في مزيدٍ من الغضب والاحباط بين القيادات الجنوبية، وفي زرع بذور الانفصال في بعض قيادات الحزب الليبرالي، مكان الفيدرالية التي كانت وظلّت المطلب الرئيسي للساسة الجنوبيين خلال تلك السنوات.
9
وكأن استخفاف السيد الأزهري وحزبه بأبناء الجنوب لم يكن كافياً، فقد فرغت لجنة ملء الوظائف الحكومية التي أصبحت، أو كانت ستصبح، شاغرةً بمغادرة الإنجليز والمصريين الذين كانوا يشغلونها إثر قرب بزوغ فجر الاستقلال (والتي سُمّيت بلجنة السودنة) من أعمالها في شهر يوليو عام 1954. عيّنت اللجنةُ ستةً فقط من أبناء الجنوب في ما بين أكثر من 800 وظيفة تمّ استيعاب الشماليين فيها. وكانت أربعٌ من الوظائف الستّ تلك لمساعدي مفتش مركز، بينما كانت الاثنتان الباقيتان هما وظيفتي مأمور. كان واضحاً أيضا أن تلك الوظائف الستّ نفسها كانت قليلة الأعباء والمسئوليات. أثار ذلك القرار غضباً شديداً في أوساط الجنوبيين الذين وعدهم السيد محمد صالح الشنقيطي في مؤتمر جوبا في يونيو عام 1947، قبل حوالي السبعة أعوام، بالمساواة مع إخوانهم في شمال السودان في كل شيء، بما في ذلك الوظائف والمرتبات. وها هم يرون وعود السيد الشنقيطي تذهب أدراج الرياح حتى قبل أن يجفَّ الحبرُ الذي كُتبتْ به.
10
فقد تمّت معاقبة الحزب الذي يمثل شعب الجنوب بستة عشر مقعداً بإبعاده كليةً من الوزارة لأنه ينادي بالفيدرالية. وتمّ تعيين ثلاثة جنوبيين لا يمثلون الجنوب وطموحاته في شيء، في مناصب بلا مسئوليات أو معنى. وبعد هذا كله جاءت نتائج السودنة التي أعطت أبناء الجنوب أقل من 1% من الوظائف مخيّبةً لآمالهم وتوقّعاتهم ولتصبّ الماء المالح على جرح نقض الوعود، وتعمّق الإحساس بالظلم والغبن، وتروي وتغذّي بذور التباعد بين أبناء شطري القطر. وقد أثارت هذه التطوّرات المحبطة التساؤلات وسط بعض النواب الجنوبيين الذين ينادون بالفيدرالية بجدوى المطالبة بالفيدرالية.
11
بعد أسابيع قلائل من ظهور نتائج السودنة قرّر الحزب الليبرالي عقد مؤتمره العام في جوبا، وقام بدعوة كل أعضائه من سياسيين وموظفي دولة وزعماء قبليين للمؤتمر. لكن السيد إسماعيل الأزهري رئيس الوزراء رفض طلب الحزب بالسماح لموظفي الدولة من أبناء الجنوب بحضور المؤتمر بدعوى أن هذا مؤتمر سياسي ولا يحقّ للموظفين العمل بالسياسة. كان غريباً أن يصدر مثل ذلك الرفض من السيد الأزهري الذي قضى جزءاً كبيراً من عمره في العمل السياسي ضد الإنجليز، خاصةً عندما كان موظفاً حكومياً تحت النظام الإنجليزي نفسه. وقد حاول السيد الأزهري التقليل من أهمية المؤتمر واستباق نتائجه بإصداره مجموعةً من القرارات تعلّقت باستنكار التفرقة بين أبناء الشمال والجنوب، وقرّرت المساواة في الأجور بين الموظفين الجنوبيين والشماليين، وتحسين أجور الجنوبيين الذين كانوا يعملون في مشاريع الجنوب، والتي شملت مشروعي انزارا والزاندي. غير أن قرارات السيد رئيس الوزراء لم تتعرّض لمسألة الفيدرالية، أو لمسألة قيام وزارة لتنمية الجنوب، أو حتى البدء في تمويل مشاريع تنمية في جنوب السودان، وكانت هذه إحدى الانتقادات الرئيسية لقرارات حكومة الأزهري تلك من منظمي المؤتمر.
12
تجاهل الحزب الليبرالي رفض السيد الأزهري للموظفين الجنوبيين بحضور اللقاء، وواصل تحضيره للمؤتمر الذي تمّ عقده في جوبا في الفترة من 18 أكتوبر حتى 21 أكتوبر عام 1954. وقد حضر المؤتمر أعضاء الحزب بمن فيهم موظفو الدولة، كما حضره أيضاً الجنوبيون الأعضاء بالحزب الوطني الاتحادي. انتخب الحاضرون السيد بنجامين لوكي رئيساً للمؤتمر، كما انتخبوا نائباً للرئيس وسكرتارية للمؤتمر. ناقش الحضور مسألة تقرير المصير للسودان بين خياري الاستقلال والوحدة مع مصر، وصوّتوا بالإجماع لصالح الاستقلال.
13
انتقل الحضور بعد ذلك إلى نقاش المستقبل السياسي لجنوب السودان وتطرّقوا إلى فشل الخرطوم في تطبيق ما تمّ الاتفاق عليه في مؤتمر جوبا عام 1947 من مساواةٍ في التوظيف والأجر. وأشاروا إلى أن التنصّل من تلك الالتزامات ونقض تلك الوعود كما حدث في سودنة الوظائف، هو الذي استوجب، مع عوامل أخرى، عقد مؤتمرهم ذاك. وأوضحوا أن كل ما حدث في الجنوب نتيجة السودنة هو استبدال الموظفين الإنجليز بموظفين شماليين، في تجاهلٍ تامٍ لاتفاق مؤتمر جوبا باستيعاب أبناء الجنوب الأكفاء في أيٍ من الوظائف التي شغرت.
14
دار بعد ذلك نقاشٌ مطوّل حول النظام الفيدرالي، ماذا يعني، وكيفية تطبيقه، والعلاقة بين الشمال والجنوب بموجب ذلك النظام، وهل الجنوب مستعدٌ للفيدرالية؟ وهل لديه الموارد البشرية والمالية لتطبيقها؟ تلى ذلك النقاش الذي امتدّ على مدى اليومين التصويت على مقترح النظام الفيدرالي الذي فاز بـ 227 من الأصوات، ولم يصوّت ضده أحد، في حين امتنع عن التصويت سبعةٌ من المشاركين ينتمون إلى الحزب الوطني الاتحادي. لا بد من ملاحظة الامتناع عن التصويت، وليس التصويت ضد مقترح الفيدرالية، من هؤلاء الأشخاص. كما لابدّ من ملاحظة ان تصويت أبناء وبنات الجنوب لصالح الانفصال عام 2011 جاء شبيهاً في نتيجته بالتصويت لصالح الفيدرالية عام 1954. من الواضح أن التاريخ فعلاً يعيد نفسه لمن لم يودّوا الاستماع إليه بدايةً!. وهكذا أكّد وأطّر الحزب الليبرالي مطلبه لقيام حكمٍ فيدرالي بين شمال وجنوب السودان، وبما يشبه الإجماع بين المندوبين الذين حضروا المؤتمر في شهر أكتوبر عام 1954.
15
قامت سكرتارية المؤتمر بتسليم رسالةٍ بقرارات المؤتمر الخاصة بالاحتجاج على نتائج السودنة ومطلب النظام الفيدرالي إلى السيد رئيس الوزراء وأعضاء حكومته، وإخطارهم بأنه إذا لم تتم الاستجابة لمطلب النظام الفيدرالي فإن ممثلي الجنوب سيقومون بعرض مطلبهم على الهيئات الدولية. وقام السيد بنجامين لوكي رئيس المؤتمر بتسليم صورٍ من تلك الرسالة إلى الحاكم العام، وإلى وزير الخارجية البريطاني ووزير الخارجية المصري أيضاً. ورغم أن قرارات المؤتمر تمّ تسليمها للسيد رئيس الوزراء وأعضاء حكومته، فقد تجاهلوا المذكرة ومحتوياتها تجاهلاً تاماً، ولم تتم مناقشتها أو الرد عليها. وانتهى أمر المذكرة كما انتهى أمر المطالب السابقة لأبناء الجنوب.
16
تسارعت الخطى في شمال السودان في بداية عام 1955 نحو الاستقلال. وبمنتصف العام كانت كل لجان الحزب الوطني الاتحادي الحاكم قد استيقظت واقتنعت بالواقع السياسي الجديد في السودان، فصوّتت لصالح الاستقلال. تلاشت بذاك الوقت أطروحة وحدة وادي النيل التي كان الحزب الوطني الاتحادي قد تبنّاها لبعض الوقت، وحلّ مكانها إحساسٌ قوي بالوطنية السودانية. لكن ذلك الشعور كان منغلقاً على ما يجري في الشمال. كان واضحاً أن الساسة الشماليين ظلوا مشغولين بهذه التطورات، بالإضافة إلى الخلافات داخل الحكومة نفسها والتنافس على الوزارات، لم يُعِرْ هؤلاء الساسة أيَّ اهتمامٍ للغبن المتزايد في جنوب البلاد جراء السياسات الاستعلائية والإقصائية التي كانت تنتهجها الحكومة في الخرطوم تجاه الجنوب، والاستخفاف بمطالبهم، خاصةً مطلب الفيدرالية الذي تزامن مع مطلب حق تقرير المصير في العلاقات مع مصر.
17
وتوالت وتسارعت الأحداث في الجنوب نفسه نتيجة كل تلك التراكمات، وأدّت في 18 أغسطس عام 1955 إلى تمرّد أفراد فرقة الإستوائية في توريت إثر قرار نقلهم إلى شمال السودان. نتج عن أحداث توريت فصلٌ سياسيٌ دمويٌّ جديدٌ مؤسفٌ ومؤلمٌ في تاريخ السودان، وعلاقة الشمال والجنوب. وصف سياسيو شمال السودان ما حدث ب “تمرّد توريت” وأصبح ذلك الوصف هو الاسم الرسمي والشعبي له. أما في الجنوب فقد تمّت تسمية ما حدث بواسطة عددٍ من الجنوبيين ب “ثورة الأحراش” و “انطلاقة ثورة التحرّر الوطني في جنوب السودان”، كما سنناقش في المقال القادم من هذه السلسلة من المقالات. * محاضر سابق بكلية القانون بجامعة الخرطوم، والرئيس الحالي لمجلس جامعة الخرطوم.
المصدر:
الراكوبة