تشكّل سيطرة قوات الدعم السريع على حقل هجليج النفطي في جنوب كردفان واحداً من أبرز التحولات الاستراتيجية في مسار الحرب السودانية منذ اندلاعها في أبريل 2023.
وبعد أشهر من التمدد السريع للدعم السريع في دارفور ثم في أجزاء من كردفان، تأتي السيطرة على أكبر الحقول النفطية في البلاد لتكسب هذا التوسع بعداً نوعياً يغيّر توازنات القوة ويضعف قدرة الجيش السوداني على الصمود في المناطق الحيوية التي تمثل عماد موارده المالية والعسكرية.
وفي المقابل، يعزز هذا التطور نفوذ قوات الدعم السريع، ويوسع قدرتها على فرض شروطها في أي مسار سياسي أو تفاوضي قد يلوح في الأفق.
ومنذ إعلان قوات الدعم السريع سيطرتها على كامل إقليم دارفور في أكتوبر الماضي، بدا أنها تعيد ترتيب أولوياتها باتجاه الجنوب، وتحديداً نحو مناطق النفط والبنى التحتية الحيوية للدولة.
وجاءت العملية في هجليج لتؤكد أن الدعم السريع لا تسعى فقط إلى التمدد الجغرافي، بل إلى الإمساك بمفاصل القوة الاقتصادية التي تشكل العمود الفقري للدولة السودانية. فالحقل الذي يقع في جنوب كردفان، وعلى مقربة من الحدود مع جنوب السودان، كان منذ عام 2011 نقطة توتر أساسية بين الخرطوم وجوبا. وهو اليوم يدخل معادلة الحرب الداخلية بصورة غير مسبوقة.
وتعتبر هجليج آخر وأهم الحقول النفطية الكبرى التي بقيت تحت سيطرة الخرطوم بعد انفصال جنوب السودان، الذي استحوذ على الغالبية الساحقة من الاحتياطات النفطية.
وكانت عوائد هذا الحقل تمثل مورداً ثابتاً تحتاجه الحكومة السودانية بشدة في ظل الانهيار الاقتصادي وتعدد جبهات القتال.
و لذلك، فإن وقوعه في يد قوات الدعم السريع يفتح الباب أمام آثار سياسية واقتصادية عميقة، قد تنعكس على قدرة الجيش في تمويل عملياته، وعلى مسار الحرب بأكمله.
وفي مشهد يعكس حجم الانهيار العسكري في صفوف الجيش، أعلن جيش جنوب السودان يوم الثلاثاء أن جنوداً سودانيين فرّوا من مواقعهم في هجليج نحو الأراضي الجنوبية، حيث قاموا بتسليم أسلحتهم وعتادهم العسكري لقيادة جيش جوبا.
ولم يُحدد الجيش الجنوبي عدد الجنود الفارين، لكن مصادر إعلامية ذكرت أنهم بالمئات.
ويشكل هذا الفرار الجماعي نقطة ضعف خطيرة في أداء الجيش السوداني، ويكشف عن اهتزاز مواضع السيطرة في كردفان، التي تُعد تاريخياً منطقة عازلة بين المركز في الخرطوم والجنوب.
جنود سودانيون فرّوا من مواقعهم في أكبر حقل نفطي في البلاد بعد استيلاء قوات الدعم السريع عليه، إلى جنوب السودان حيث سلّموا أسلحتهم، وفق ما أعلن جيش جوبا.
ويعزّز هذا التطور رواية قوات الدعم السريع التي قالت في بيانها إنها انتزعت السيطرة على مناطق واسعة في كردفان بعد “فرار الجيش”، معتبرة ذلك “نقطة تحول لتحرير البلاد بأكملها نظراً لأهميتها الاقتصادية”.
وحتى وإن حملت هذه اللغة طابعاً دعائياً، إلا أن سقوط هجليج بالفعل يشكل تحوّلاً حاسماً في معادلة القوة، لأن السيطرة على الموارد النفطية تمنح الدعم السريع قدرة أكبر على تثبيت نفوذها العسكري، وتمويل عملياتها اللوجستية، والحصول على وقود ومعدات حيوية كانت سابقاً حكراً على الدولة.
كما اتهمت قوات الدعم السريع الجيش السوداني بشن هجوم بواسطة الطائرات المسيّرة على منشآت الحقل بعد سقوطه، ما أدى ـ وفق روايتها ـ إلى مقتل عشرات من العاملين والمهندسين، بالإضافة إلى عناصر من جيش جنوب السودان وقوات الدعم السريع.
ولم يتسنَّ التحقق من هذه المعلومات، إلا أن ورودها يشير إلى احتمال توسّع نطاق الصراع ليشمل بعض أطراف دولة الجنوب، وهو سيناريو يحمل مخاطر جسيمة على الاستقرار الإقليمي.
وتمس التطورات في هجليج مباشرة جنوب السودان، الذي يعتمد اقتصاده بشكل شبه كامل على تصدير النفط عبر الأراضي السودانية.
وبينما تملك جوبا حقولها الخاصة، إلا أن مرور النفط عبر السودان يمثل شريانها الاقتصادي الأول.
وبالتالي، فإن أي اضطراب في مناطق الحقول أو خطوط الأنابيب ينذر بقطع الشريان المالي الوحيد للدولة الفتية، التي تعاني أصلاً من هشاشة سياسية واقتصادية شديدة.
وقد عبّر وزير الطاقة السوداني السابق جادين علي عبيد عن قلقه من أن خسارة هجليج تشكل “كارثة” على السودان و”ضربة قاسية” أيضاً لجنوب السودان.
ولا يقتصر تأثير هذا التطور على الجانب الاقتصادي وحده، بل يتجاوز إلى البعد العسكري والسياسي. ففرار الجنود السودانيين نحو الجنوب يضع جوبا في مأزق دبلوماسي، فهي لا ترغب في التورط في الحرب السودانية، لكنها تجد نفسها أمام واقع جديد قد يُستغل سياسياً من قبل أحد الطرفين لإظهار دعم ضمني من الدولة الجارة.
كما أن احتجاز هؤلاء الجنود ووضعهم “في عهدة” جيش جنوب السودان، كما قال اللفتنانت جنرال جونسون أولوني، قد يؤدي إلى توتر في العلاقات بين البلدين في حال طال أمد بقائهم دون اتفاق واضح حول إعادتهم.
وفي الداخل السوداني، تعيد هذه التطورات تشكيل خريطة السيطرة. فالجيش يحاول التشبث بمواقعه في الشمال والوسط والشرق، بينما توسع الدعم السريع نفوذها في الغرب ومعظم مناطق الجنوب.
ويعكس هذا التوزيع الجغرافي انقساماً حاداً داخل البلاد قد يتكرس بمرور الوقت، خصوصاً إذا استمرت قوات الدعم السريع في السيطرة على مواقع ذات قيمة اقتصادية. فتثبيت السيطرة على هجليج، إذا تواصل لأسابيع أو أشهر، سيكون بمثابة كسر للعمود الفقري الاقتصادي للدولة، وهو ما قد يؤدي إلى انتقال القسم الأكبر من القوة والموارد إلى يد قوات الدعم السريع.
ويأتي هذا التحول في ظل أزمة إنسانية وُصفت بأنها الأسوأ في العالم حالياً، حيث تسبب الصراع في مقتل عشرات الآلاف وتشريد ما يقارب 12 مليون شخص داخل السودان وخارجه.
ويهدد سقوط هجليج بزيادة هذا العبء، إذ أن أي توقف في الإنتاج أو عرقلة في إمدادات الوقود ستؤدي إلى تفاقم أزمة الغذاء والنقل والخدمات الأساسية، التي تعاني أصلاً من انهيار شبه كامل.
ولا يمكن فصل هذه التطورات عن السياق التاريخي للنزاع السوداني–الجنوبي. فقد شكّل حقل هجليج محور مواجهة بين الدولتين عام 2012 عندما اندلعت اشتباكات بين جيشي البلدين للسيطرة عليه.
ورغم التوصل إلى اتفاقات لاحقة بشأن الحدود والنفط، إلا أن المنطقة بقيت موضع توتر قابل للاشتعال في أي لحظة.
واليوم، تعود هجليج إلى قلب النزاع، لكن هذه المرة ضمن الحرب الداخلية السودانية، ما يجعل تداعياتها أكثر تعقيداً، لأنها تمسّ طرفاً ثالثاً (جنوب السودان) يملك مصلحة مباشرة في استقرار المنطقة.
ومن منظور استراتيجي، تعكس سيطرة الدعم السريع على هجليج مستوى متقدماً من التنظيم العسكري والقدرة على تنفيذ عمليات واسعة في مناطق حساسة ومعزولة.
كما تشير إلى أن الدعم السريع باتت تملك القدرة على اختراق دفاعات الجيش في مناطق كانت تُعد سابقاً خطوطاً حمراء. فجنوب كردفان لطالما شكلت منطقة استراتيجية بالنسبة للجيش السوداني، ليس فقط لأنها تضم مواقع نفطية، بل لأنها تمثل عمقاً جغرافياً يحمي وسط البلاد.
وبالتالي، فإن سقوط دفاعات الجيش في هذه المنطقة يعني أن دعم السريع لم تعد قوة متمردة في الأطراف، بل أصبحت لاعباً يقترب من السيطرة على مفاصل الدولة الأساسية.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الحرب السودانية تدخل مرحلة جديدة مختلفة كلياً عن الشهور الأولى لاندلاعها. فبينما كان الجيش يراهن على الحفاظ على مراكز القوة الاقتصادية، جاءت سيطرة الدعم السريع على هجليج لتسحب أهم مصادر التمويل من تحت أقدام القيادة العسكرية في الخرطوم.
ومع هذا التحول، قد يتغير ميزان القوة السياسي أيضاً، لأن الطرف الذي يسيطر على الموارد الأساسية يصبح في النهاية الأكثر قدرة على فرض شروطه.
قد تشهد الفترة المقبلة عدة سيناريوهات: الأول، أن يحاول الجيش شن هجوم معاكس لاستعادة هجليج، وهو خيار صعب نظراً لتراجع قدراته واستنزاف موارده.
وأما الثاني، أن تسعى قوات الدعم السريع لتوسيع مكاسبها والزحف نحو المزيد من المنشآت النفطية أو المراكز الإدارية في جنوب كردفان، بهدف ترسيخ سيطرتها في الإقليم.
وثالثا أن تتدخل قوى إقليمية أو دولية للضغط على الطرفين لتأمين مناطق النفط، لما تمثله من أهمية استراتيجية للمنطقة ككل.
وأما السيناريو الرابع، أن يؤدي هذا التحول إلى تكريس واقع التقسيم الفعلي في السودان، بحيث يصبح كل طرف مسيطراً على مناطق واسعة بمواردها وسكانها.
وفي ضوء كل ذلك، يمكن الجزم بأن سيطرة الدعم السريع على هجليج ليست مجرد مكسب ميداني، بل نقطة تحول تُعيد صياغة المشهد السوداني برمّته. فهي تعزز نفوذ الدعم السريع، وتكشف انهيار دفاعات الجيش في منطقة حيوية، وتدفع السودان نحو معادلة جديدة من القوة قد ترسم مستقبل الدولة لسنوات طويلة مقبلة.
وفي بلد يعيش أسوأ أزماته، يبدو أن معركة هجليج ستكون من اللحظات التي تُذكر بوصفها تغيّر مجرى الأحداث، وتفتح الباب أمام فصل جديد من الصراع لا تزال ملامحه تتشكل.
العرب
المصدر:
الراكوبة