آخر الأخبار

وما الحرب الا ما علمتم وذقتم: انقلاب.. (8/الأخيرة)

شارك

الحل: سفر الخروج من المؤسسة الطقوسية (2)
لا أمل في الخروج من المؤسسة الطقوسية الا في حركة مدنية موحدة. لكن هنالك خطوات عديدة يجب أن تسبق الدعوة للتوافق على ميثاق وطني جامع التي قدمها بتفاصيل وافية بروفسير إبراهيم أحمد البدوي في سلسلة من المقالات. وحقيقي أنني اتفق مع بروفسير البدوي في مجمل ما طرحه في كتابته الرصينة، بل اتفق مع نفس محتوى دعوته التي طرحها العددين بمسميات مختلفة من بينهم الأخ د. الواثق كمير. أخص بالذكر مساهمة الأخوين لأن البدوي كتب بإسهاب عن مشروع متكامل، بينما كمير شاهد على عصرنا وتطور فكرة المؤتمر الدستوري منذ إعلان كوكادام مارس 1986 وكتب كثيرا عن استحقاق المؤتمر الدستوري. في ظني أننا جميعا نتحدث عن شيء واحد، هو المؤسسة الجديدة، كل حسب حقله وتدريبه.
اختلافي معهما أن هناك عمل كبير وحمل عظيم ينتظر جميع أطراف الحركة المدنية إن رغبت حقا في تأسيس مؤسسة حقوقية وفك إسار الوطن من سلاسل المؤسسة الطقوسية قبل التوقيع على هذا الميثاق الوطني او عقد المؤتمر الدستوري. بل لا سبيل لذلك دون هذه الخطوات.
أولا، لابد من الاعتراف والادراك أن المأساة تكمن في السباق نحو السلطة – من قبل العسكريين والمدنيين على حد السواء. أصاب هذا المرض القتّال الذي كمن في أوصال ومفاصل المؤسسة وعلى مستويات متعددة الجميع دون استثناء.
يفسر الرأي الغالب في الكتابة السياسية السودانية أن انشقاقات الأحزاب السودانية التاريخية الكبرى وانقساماتها والانقسامات الأميبية في الحركات المسلحة ببراعة أجهزة السلطة الأمنية، بل ينحو البعض الى تفسيرات أخلاقية تتعلق (بضعفاء النفوس)، بينما التفسير الحقيقي، في تقديري، أن الأمر صار مرض بنيوي يتعلق بعصب ونسيج ولحم المؤسسة السودانية والتقاليد والترتيبات التي انحدرت إليها. كلما لاحت فرصة للتعلق بأستار السلطة او صفقة ما تضمن قطعة، بل أحيانا فتات من تلك كيكة، تجد من يهرع إليها. من “مساعد الحلة” الى حاكم طقوسي لأقليم دارفور، من مناضل على النمط الجيفاري الى مدير أكبر شركة عامة تسيطر على معادن السودان.
ودعني اسألك: إذا رأى الكادر الميداني والقيادات الوسطى في الحركات المسلحة قياداتها العليا بل المؤسسين لحركاتهم يخضعون لتقاليد المؤسسة الطقوسية ويعقدون الصفقات وينعمون بنعيم وبريق السلطة، فماذا تنتظر منهم؟ ماذا تنتظر منهم وهم الذين يقتلون ويجرحون في المعارك غير الانفصال المرير عن عوائلهم والحنين لشهور طويلة، بل سنوات؟ والآن، كيف تفسر لي تبدل المواقف والصورة المقلوبة اليوم لقادة حركات الهامش وموقعهم الآن مع جلادهم السابق وموقع اداة جلادهم السابق الآن وتحالفه (تأسيس) ومنظريه عن قضية الهامش والمهمشين ودولة 56؟ لا أجد تفسير غير منطق المؤسسة الطقوسية وتحول تحالفاتها في خضم السباق المحموم نحو السلطة.
حتى لا نذهب بعيدا ويظن بي التحامل على جهة بمنطق (الحيطة القصيرة)، هذا المرض أصاب الجميع. في صيف 2019 والانتفاضة في قمة وهجها، وعدت جميع أحزاب الحرية والتغيير بأنها لن تشارك في الحكومة الانتقالية وحنث بوعدها. كان المرحوم السيد الصادق المهدي سباقا، وكان أول من أعلن ان حزب الأمة لن يشارك في مناصب الحكومة الانتقالية ولن يتسنم سلطة الا عن طريق الانتخابات. تلي تصريح السيد الصادق المهدي اعلان تجمع المهنيين- عندما كان متوحدا- أنه لن يشارك في أي السلطة. تلى ذلك إعلان بقية الأحزاب – بعضها بعد تردد – في النهاية شاركت جميعها في السلطة وحنثت بوعدها. ولا اريد أن اخوض مع الاخوة الشيوعيين في مغالطات لا طائل منها، فقد كان حزبهم جزء من التحالف الحاكم حتى تاريخ بيان لجنته المركزية في 7 نوفمبر 2020 بالانسحاب من “التحالف الحاكم” وقد قدم نقدا ذاتيا واعتذارا للشعب السوداني لاستمراره في هذا التحالف، ولكن الضرر حصل على أي حال بمنطق الحديث عن المؤسسة. قد يكون هذا النقد جيدا في تقاليد الاعتراف والتسامح المسيحي! ولكن على أحسن الفروض اتسم موقف الحزب بالاضطراب، وحتى الآن يشوب الغموض مسألة ترشيح عضو الحزب الشيوعي المفاوض عن التحالف مع الجانب العسكري الأستاذ عثمان طه اسحق لمجلس السيادة الذي تم رفضه من قبل المهنيين واجبر على سحب ترشيحه.
كل هذا ليس لإدانة طرف، فقط للقول إذا قدر أن تتوحد أحزاب السودان في جبهة واحدة وقدر أن يوقع ميثاق توافق مدني من اللازم أن يكون شرط هذا الميثاق الاول عدم مشاركة أحزاب هذه الوحدة الوطنية في أي سلطة انتقالية وعلى الاحزاب أن تنصرف الى مهمة حراسة هذا الميثاق بجماهيرها ونفوذها الضارب حال توحدها. هذا هو المعول الأول لتحطيم تقاليد المؤسسة الطقوسية، ومفتاح الباب نحو مؤسسة حقوقية.
ثانيا، هذا التشرذم والانقسام الذي ضرب الأحزاب العريقة والأحزاب والحركات الجديدة، ثم انتقل أخيرا الى التحالفات، يجب أن ينتهي على الفور وأن يوضع له حد. عشر تكوينات للحزب الاتحادي؟ الاتحادي الأصل، الاتحادي الموحد، التجمع الاتحادي.. الخ؟ دا كلام شنو دا؟ حزب الأمة القومي، حزب الأمة الإصلاح والتجديد، حزب الأمة برمة ناصر، حزب الأمة محمد عبد الله الدومة، حزب الامة عبد الرحمن الصادق المهدي؟ حزب البعث العربي الاشتراكي (الأصل)، حزب البعث السوداني الفلاني، بعث الحسين، بعث السنهوري؟ وايضا تطفو الى السطح، وموثق في الصحف، التوترات والخلافات في اوساط الحزب الشيوعي وفي مقالات عضويته حتى التي لا تزال ملتزمة به. كيف تدعو لوحدة وجبهة عريضة وكتلة تاريخية وميثاق جامع وانت في حد ذاتك لست بكتلة موحدة؟ حقا، فاقد الشيء لا يعطيه.
نعم، هنالك بعض الانقسامات واضحة من أجل السلطة والثروة، ولكن، في تقديري، هذا التشرذم كله، حتى بين هؤلاء الذين لا تخطر السلطة والثروة على بالهم، لا يعدو ان يكون غير مظهر وتجلي آخر للمؤسسة الطقوسية. الطقوسية لا تقف على حد الركض خلف السلطة والثروة على مستوى الدولة، بل تسيطر على الغالب والمغلوب. توفر الطقوسية للمغلوب (المكانة)وCeremonial adequacy، اساطير الرضاء عن الذات وربما إضفاء هوية وانتماء.
اقترحت حتى الآن خطوتين للخروج من إسار الطقوسية: الزهد التام والمخلص في السلطة الانتقالية من قبل الجبهة العريضة او الكتلة الحرجة التي ينادي بها الجميع. والخطوة الثانية هي عمل الأحزاب على لملمة أطرافها وإنهاء حالة الانقسام التي تعصف بها وتقلل من فعاليتها. وربما يؤدي الزهد في السلطة والمكانة الى حد ما من غلواء الانقسامات. ولكن هذا نصف الطريق.
أعود إلى مفاهيم تناولتها في الحلقة الماضية. الأول هو الشق غير الرسمي للمؤسسة الذي هو القيم والأخلاق والتصورات والعقائد التي يعتنقها الناس، والشق الرسمي وهو تجسد هذه القيم والعقائد في الدستور، والإجراءات الرسمية، والمحاكم، وغيرها. يشبه بعض تلاميذ دراسة المؤسسة الشق غير الرسمي بأنه ال(software) في المؤسسة بينما الدستور والمحاكم والإجراءات هي ال (hardware)لعمليات المؤسسة. وبعض هؤلاء الباحثين يرون بحق ان التركيز ينبغي أن يكون على الشق غير الرسمي (السوفتوير)ويرون إصلاحه لابد منه إذا كان طموحنا ينصب على أي تغيير مؤسسي. أجمل ما يمكن أن ندخله على السوفتوير في ظرفنا الحالي هو إعلان الاحزاب -التي ستوقع على ميثاق اخي البدوي، زهدها تماما في المشاركة في أي سلطة انتقالية كما وعد الإمام من قبل وأن تلزم بذلك. الشرط الثاني أن تجتهد قدر ما يسمح هذا الوعد في لملمة شعثها وتنحو نحو الوحدة ولم الشمل.
الأمل يكمن في المدنيين وقدرتهم على التعلم وإصلاح الخطأ. لا فائدة في العسكريين، نظامين او غير نظاميين، إذ أن المؤسسة السودانية انحدرت نحو الطقوسية تحت أحذيتهم. نعم، تورط المدنيين معهم في مغامراتهم، ولكن على الدوام تم الغدر بالمدنيين، وفي كل الانظمة العسكرية، انتصر غاشم العسكر على غشيم المدنيين.
المفهوم الآخر الذي تحدثت عنه في الحلقة الماضية وأود أن أضيف إليه هو (Constellation) بمعنى الرصة. إن الرصة لا تحدث بسهولة، خاصة في التجربة السودانية، ويسبقها الكثير من العمل. هناك مفهوم يسبق الرصة ويرتبط بها، بل هو ضروري لتحقيقها وهو (Constellation of discourse)، بمعنى (رصة في انتظام ووحدة الخطاب). من الضروري أن تحدث رصة الخطاب فيما يتعلق بالزهد في السلطة خلال الفترة الانتقالية من قبل الأحزاب والتحالفات السودانية. ومع أنني أرى صعوبة ذلك مع الحالة المتردية في انحدار المؤسسة الطقوسية، الا انه لا يزال هناك أمل إذا تنوعت وتعدد الأصوات والمنابع الداعية لذلك.
الأمر الآخر الذي أود أن أضيفه حول مفهوم الرصة يتعلق بتوضيح سبب تشاؤم تلاميذ دراسة المؤسسة في كتاباتهم النظرية والإمبريقية وقطعهم الأمل في أي إمكانية لإنقاذ مؤسسة انحدرت نحو الطقوسية، حيث انهم لا يشيرون فقط لحتمية انهيار أنظمتها الاجتماعية/الاقتصادية، بل حتى البيئة والغطاء النباتي (ونشهد بعض ذلك الآن). يعود هذا التشاؤم إلى ان ال Constellation الذي أدى الى التعاون في تأسيس المؤسسة الأولى والتي تحتاج لتعديل الآن قد أخذ زمنا طويلا الى أن اتجهت نحو الانحدار وقد لا يسع الوقت ل Constellation جديد لإعادة تصميم المؤسسة وقد تحدث الرصة بعد فوات الأوان حيث لا فائدة منها عندئذ. أرد على ذلك بأملي في التجربة السودانية، وان السودانيين في وضع أفضل قليلا من الامثلة الإمبريقية التي تناولها هؤلاء الكتاب في بحوثهم وكتبهم.
في الختام لابد من التحذير من أي محاولة لعزل الإسلاميين – حتى اقسام معتبرة من حزب المؤتمر الوطني – من أي ترتيبات مؤسسية جديدة، وهنا لا اتحدث عن حملة السلاح الذين يودون الجلوس على طاولة المفاوضات واسلحتهم في أيديهم. الإسلاميون تيار عريض من تيارات الفكر السوداني مهما كان رأيك فيهم، وأثبتت التجربة السودانية منذ 1899 انه لا يمكن اقتلاع تيار فكري او روحي من السودان بالقوة والقانون. حاول الاستعمار اقتلاع الأنصار من جذورهم باغتيال حتى الصبية من اسرة الإمام محمد أحمد المهدي في الشكابة وقصف نظام مايو الجزيرة أبا عام 1970، مركزهم الروحي، مما أدى لمقتل قرابة 2000 مواطن ومجزرة ود نوباوي علاوة إغتيال إمامهم السيد الهادي. لا يزال الأنصار وحزبهم هنا ووجدوا ليبقوا. حدثت نفس محاولة الإبادة للفكر الشيوعي الماركسي في السودان بإعدام قادته وقطع الأرزاق وأحكام السجن الطويلة، ولا يزال الحزب الشيوعي موجودا. حدثت محاولة محق الفكر الجمهوري في السودان ولا يزال هنالك جمهورين سودانيين وعرب وأجانب الآن يجدون الخلاص الروحي في فكر الأستاذ الشهيد محمود محمد طه وبعضهم لم يولد بعد لحظة إعدامه. خلاصة القول كل من يرغب بصدق في تأسيس مؤسسة سودانية حقوقية جديدة بشروط جديدة له مقعد مثل الآخرين في طاولة التأسيس.

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا