«التنظيمات الإرهابية تعيش على الفوضى وغياب المؤسسات، وإذا لم تكن هناك فوضى تسعى تلك التنظيمات إلى خلقها وإيجادها».. هذه الحقيقة يدركها جيداً تنظيم «الإخوان» في السودان منذ سيطرته على الحكم عام 1989، فجميع السودانيين يتذكرون تماماً كيف قام هذا التنظيم- الذي كان يقوده حسن الترابي- في تحويل الحرب مع الجنوب إلى حرب طائفية ودينية بهدف حشد الآلاف من المقاتلين في الحرب التي انتهت عام 2011 بفقدان الجنوب وانفصاله عن الشمال، وبعد مرور ما يقرب من 3 سنوات على الحرب الحالية التي اندلعت في 15 إبريل 2023 لم تتغير عقلية التنظيم «الإخواني» في حشد كل المتطرفين والمتشددين داخل السودان وخارجه من أجل تحقيق «نصر عسكري مزعوم» فشل «الإخوان» في تحقيقه على مدار 30 شهراً من القتال.
هذا السعي المحموم لاستقطاب الجماعات الإرهابية للانضمام للحرب بجانب مجموعات البرهان، دفع وزير الخارجية الأمريكي مارك روبيو إلى التحذير من تحول السودان إلى «قاعدة للتنظيمات والجماعات الإرهابية» تهدد الأمن والاستقرار ليس فقط في شرق إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقي، بل تهدد السلام العالمي، خصوصاً أن تصريحات وزير الخارجية الأمريكية جاءت بعد «تقدير موقف» قدمه مكتب المخابرات الوطنية الأمريكية، وقال فيه إن السودان يتحول تدريجياً إلى «بيئة مثالية جاذبه» لكل التنظيمات الإرهابية من إفريقيا وكل دول العالم، وأن الاستمرار في الحرب يزيد من انضمام الجماعات الإرهابية والتكفيرية إلى القتال في السودان الذي بات يستقطب أعداداً كبيرة من المتطرفين من «القاعدة» و«داعش» و«بوكو حرام» وغيرها من التنظيمات الإرهابية النشطة في منطقة الساحل والصحراء ووسط إفريقيا، وسبق لمجلس الأمن الدولي أن حذر في يناير 2025 من خطورة تحول السودان إلى «ملاذ آمن للإرهابيين» إن لم تتوقف الحرب، وأن تنظيمات شديدة التطرف مثل «داعش» و«القاعدة» بدأت تتخذ بالفعل من الأراضي السودانية الشاسعة «قاعدة للتدريب وحشد العناصر الإرهابية الجديدة»، ولهذا توقعت المخابرات الوطنية الأمريكية – التي تعتمد على معلومات من المخابرات المركزية الأمريكية، وعدد آخر من الوكالات المخابراتية الأمريكية – أن يزداد تدفق المقاتلين من «داعش» و«القاعدة» و«بوكو حرام» و«الشباب» الصومالية ومقاتلي ما يسمى ب«الحزب الإسلامي الإريتري» للقتال بجانب كتائب ما تسمى «البراء ابن مالك» و«الزبير بن العوام» السودانية.
وفي سبيل «توظيف التوحش» وبهدف «بث الرعب» في صفوف «قوات الدعم السريع» وحاضنته الشعبية في المناطق التي يسيطر عليها تناقلت وسائل الإعلام الدولية نقلاً عن وسائل التواصل السودانية في فبراير 2024 مقطع فيديو، أظهر مقاتلين ب«ملابس الجيش السوداني»، وهم يلوحون «برؤوس بشرية مفصولة عن الأجساد»، وهو ما يؤكد تطابق هذه السلوكات في التمثيل بجثث الآخرين مع «الأساليب الوحشية» ل«داعش» و«القاعدة» في إفريقيا وأفغانستان والعراق وسوريا، ويتذكر الجميع المشاهد الوحشية التي ارتكبتها المجموعات الإرهابية – التي كانت ترتدي ملابس الجيش السوداني أيضاً، وهم يحملون «أشلاء بشرية مقطوعة» ويلوحون بها بعد سيطرة هذه المجموعات الظلامية على هيئة الإذاعة والتلفزيون في الخرطوم في مارس 2024، فكيف يسهم استمرار الحرب في تدفق الإرهابيين على السودان؟ وهل تتحول السودان إلى «ملاذ جديد» ل«داعش» و«القاعدة» كما كانت أفغانستان والعراق وسوريا في السابق؟ وإلى أي مدى يهدد كل هذا بتحول السودان إلى «قاعدة للإرهاب» بما يهدد الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي؟
هناك قواسم مشتركة بين جميع التنظيمات الإرهابية، فجميع قادة الإرهاب في العالم مروا على «الإخوان» في مرحلة ما من حياتهم، وفق تقييم الدراسة التي صدرت عن مجلس العموم البريطاني عام 2018، وأثبت التاريخ القريب أن كلاً من أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، وأبو مصعب الزرقاوي، وأبو بكر البغدادي مروا جميعاً على «الإخوان»، وجميع هذه التنظيمات تؤمن بأن العنف والقتل و«التمثيل بجثث الآخرين» أسرع طريق «للوصول للسلطة، ولهذا هم لا يؤمنون بتداول السلطة، لذلك فور اندلاع الحرب في 15 إبريل 2023 في السودان سارع قادة التنظيم «الإخواني» بالإفراج عن آلاف الإرهابيين من سجن كوبر وغيره من السجون التي كان فيها الآلاف من الإرهابيين الذين سجنتهم الحكومة المدنية برئاسة عبدالله حمدوك، منهم على سبيل المثال أحمد عباس، الحاكم السابق لولاية سنار، وهو أحد القادة المتشددين، وهو ما أكد أن المحيطين بالبرهان عازمون على إذكاء الصراع، والإصرار على استمراره أملاً في العودة إلى السلطة التي فقدوها عام 2019 حتى لو كان ذلك على حساب آخر سوداني.
وهذا يتسق مع تاريخ طويل من العمليات الإرهابية داخل السودان نفسه منذ وصول الترابي للحكم عام 1989» حين تأسس «المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي» الذي ضم تنظيمات من دول عدة، وكان من بينها المجموعات الإرهابية التي قامت بتفجيرات نيروبي ودار السلام عام 1998، وتفجير المدمرة كول عام 2000، ومحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عام 1995، وشهد السودان نفسه عمليات إرهابية كثيرة أبرزها استهداف مسجد في أم درمان عام 1994، وأحداث الجرافة عام 2000 التي خلفت 25 قتيلاً وأكثر من 20 جريحاً، ثم خلية السلمة في 2007، واغتيال الدبلوماسي الأمريكي جون جرانفيلد في الخرطوم عام 2008، وتفجيرات خلية الدندر، وحي جبرة جنوب الخرطوم في سبتمبر 2021، حيث كان نظام «الإخوان» يعمل على تجنيد شباب الجامعات الذين التحق عدد كبير منهم بتنظيمات إرهابية في الخارج، وفي 28 يونيو 2023 نشرت وكالة رويترز تقريراً كشف عن انضمام الآلاف ممن عملوا في جهاز المخابرات العامة، ولديهم صلات بالتيار «الإخواني» المتطرف إلى جانب جيش البرهان، وأن غالبية هؤلاء انضموا إلى سلاح المدرعات والمشاة، إضافة إلى «قوات الاحتياطي المركزي» في أم درمان، وهي فرقة تابعة لقوات الشرطة فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات لدورها في قمع الاحتجاجات السلمية عامي 2018 و2019.
كل المؤشرات تقول إن السودان أصبح «بؤرة» لاستقطاب الإرهابيين من كل دول العالم، وذلك لوجود كل الأسباب والمبررات التي جعلت من السودان «البيئة المثالية» لنمو التطرف والقتل والإرهاب، وأبرز هذه الأسباب هي:
تنتعش الجماعات الإرهابية في الفراغ السياسي والأمني، وقادت الحرب الحالية في السودان ليس فقط إلى غياب المؤسسات الرسمية الحكومية، بل سمحت بظهور «المؤسسات الموازية» التي أنشأتها وأسستها المجموعات الإرهابية والمتشددة التي باتت تتحكم في مصير السودانيين، ومن يراجع سلوك «الإخوان» في جميع الدول التي مر بها ما يسمى ب«الربيع العربي» يتأكد له أنهم يعشقون الفوضى والتخريب، لأن تلك الحالة توفر لهم «البيئة الكاملة» للنمو واستقطاب العناصر الجديدة، وحشد الأنصار لأهدافهم السياسية والأمنية والعسكرية، وتشير كل التقارير الدولية إلى أن الأجهزة الأمنية في المناطق التي يسيطر عليها جيش البرهان ليست لديها رغبه في منع أو تقليص الأنشطة الإرهابية في ظل انتشار غير مسبوق للسلاح، وانفلات لم يشهده السودان في القتل خارج نطاق القانون، مع الانهيار شبه الكامل لمؤسسات الدولة، وتفكك الأجهزة الأمنية، وغياب سلطة مركزية قادرة على بسط سيطرتها على كامل أراضى البلاد، كل ذلك يوفر الشروط المثالية لظهور الجماعات المتطرفة التي تتغذى على الفوضى السياسية، والفراغ الأمني، وهو تكرار لسيناريوهات شهدتها المنطقة من قبل في ليبيا وسوريا والصومال، الأمر الذي يقول إن السودان بات ساحة لتمدد الجماعات ذات «الطابع التكفيري» بعد أن خلقت الحرب الحالية «فراغاً وضعفاً» شديدين في الدولة أتاح عودة نشاط ما تسمى ب«الحركة الإسلامية السودانية» التي أسقطتها ثورة ديسمبر، وكل هذا مهد الطريق لبناء «معسكرات تدريب وتجنيد الإرهابيين»، ووفق عدد من المصادر الغربية، فإن مراكز تدريب الإرهابيين تتركز بشكل كبير قرب الخرطوم، وقاعدة مروي في الولاية الشمالية وبورتسودان على البحر الأحمر.
يشرعن «الخطاب التعبوي التحريضي المتطرف» العنف عبر خطب دينية تحرض الشباب على الانخراط في أعمال إرهابية، فمنذ الساعات الأولى للحرب الحالية بدأت معها «ماكينة التخوين والتكفير» للآخر من جانب مجموعات البرهان، انتشر الخطاب التحريضي الداعم للإرهاب والتطرف، وظهرت «المجموعات الإرهابية» التي تلاحق المواطنين المدنيين العزل من السلاح، حيث قتل وذبح الآلاف من السودانيين تحت ذريعة تحالفهم مع الدعم السريع، وباتت المجموعات الإرهابية تحظى بدعم كامل من قيادة حكومة بورتسودان، وتحولت المجموعات الإرهابية إلى مجموعات نافذة وتحرك القرار في بورتسودان، بل وبسطت سيطرتها على القواعد العسكرية ومخازن السلاح، وهو ما يؤكد أن هذه الجماعات لا تسعى فقط إلى تجنيد عناصر جديدة، بل تعبد الطريق لتحويل السودان إلى قاعدة لوجستية وساحة صراع أيديولوجي عبر شخصيات متطرفة تسهم في وصف الحرب بمصطلحات أيدلوجية متطرفة عابرة للحدود وفق سرديات تقوم على نفي الآخر والمطالبة بإقصائه وتصفيته، وهو استمرار لنهج حكم «الإخوان» الذي عمل طوال 30 عاماً على التجييش والتعبئة والاستنفار وفتح معسكرات التدريب لما يعرف ب«القوات المساندة» وهي في حقيقتها قوات المتطرفين والمتشددين، وتطور الأمر إلى تأسيس «قوات الدفاع الشعبي» شبه العسكرية، التي تولدت فيها أدبيات التطرف، وثقافة الإنشاد الحماسية لأشعار «الإخوان»، مثل سيد قطب.
السودان حتى بعد انفصال الجنوب ما يزال دولة شاسعة تزيد مساحتها على 1.85 مليون كلم من حدود تشاد غرباً حتى البحر الأحمر شرقاً، ولدى السودان حدود طويلة تبلغ 6500 كلم متر مع 8 دول هي مصر وليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا وأريتريا، وهو ما يجعلها تحتاج إلى نحو مليوني عنصر «حرس حدود» لتأمين كل هذه الحدود الطويلة، وهذا الأمر غير موجود على أرض الواقع، حيث الحدود مفتوحه، والعبور متاح أمام العناصر الإرهابية والإجرامية لدخول السودان، واستغلت قيادات «الإخوان» وحكومة البرهان كل ذلك لاستقدام كل العناصر الإرهابية لدعم خطوط الجبهة التي انهارت في البداية في الخرطوم وولاية الجزيرة، وظلت سيطرة الدعم السريع عليها حتى مايو الماضي، وبعد وصول الآلاف من الإرهابيين في الخارج تحت مزاعم كثيرة منها محاربة «أعداء الدين»، ونجدة إخوانهم من «الإخوان» جاءت معركة الخرطوم وقبلها معركة «ود مدني» في ولاية الجزيرة، لكن بعد الهزيمة التي تعرضت لها هذه المجموعات البرهانية في ولايات دارفور والفاشر تستعد حكومة بورتسودان لجذب المزيد من هؤلاء المتطرفين لمعركة كردفان، بل وتدعي حكومة البرهان أنها قادرة على العودة مرة أخرى إلى دارفور والفاشر من جديد، ونتيجة للحدود الطويلة والتداخل الإثني بين السودان ودول الجوار يستغل قادة «الإخوان» كل ذلك في تزوير أنظمة الهوية والوثائق الرسمية، حيث منح الترابيين نحو 16 ألف متشدد الجنسية السودانية قبل عام 2018 جاء غالبيتهم من العراق وسوريا واليمن، وكان من بينهم شخصيات مطلوبة دولياً.
تنتهج حكومة البرهان وقيادات «الإخوان» سياسة تجعل جميع الأبواب موصدة أمام المواطن السوداني ما عدا الذهاب إلى الجبهة والقتال بجانب كتائب مثل «البراء والبنيان المرصوص» وغيرهما، وذلك بعد غياب الخدمات والبنى الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع الشباب وحتى الأطفال للالتحاق بالمجموعات الإرهابية التي توفر لهم الحد الأدنى من الخدمات والمأكل والمشرب، وهذا يتفق مع خطط «الإخوان» التي تعمل دائماً على تجنيد أبناء المجتمعات المحرومة والمهمشة.
يسهم استمرار الحرب ورفض البرهان «المبادرة الرباعية» في تحول السودان وبسرعة إلى «مركز إقليمي للإرهاب» وهو ما يهدد الأمن الإقليمي والعالمي، الأمر الذي حاولت أن تلفت إليه صحيفة «ذا ناشيونال» يوم الجمعة 18 إبريل الماضي، عندما قالت إن العالم منشغل بالحروب في غزة وأوكرانيا، لكنه ينسى كارثة على أمن القارة الإفريقية والبحر الأحمر وسلاسل الإمداد العالمية، وذلك بسبب عودة التطرف والجماعات الإرهابية إلى السودان الذي تم رفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 2020.
الواضح أن الشعب السوداني الذي خرج بالملايين لطرد حكم «الإخوان» و«الترابيين» عام 2019 وجد نفسه أمام هؤلاء الذين عادوا من جديد ليس من باب صندوق الانتخابات، بل بالرصاص والجماعات الإرهابية.
المصدر:
الراكوبة