يطرح المشهد السوداني، في أعقاب الكارثة الإنسانية في الفاشر، مفارقة مركزية: كيف يمكن للجيش السوداني والجهات المحسوبة على “الإسلام السياسي” (فلول نظام البشير) أن يسلطوا الضوء بكثافة على الانتهاكات المروعة بحق المدنيين، بينما يرفضون في الوقت ذاته وبشكل قاطع، أي مسار تفاوضي جاد لوقف الحرب التي تُنتج هذه الانتهاكات؟.
يقدم هذا التقرير تحليلاً مفصلاً يثبت أن هذا السلوك ليس تناقضاً، بل هو استراتيجية متكاملة. الخلاصة هي أن رفض وقف الحرب ليس على الرغم من الانتهاكات، بل إن هذه الانتهاكات تُستخدم كـأداة تبرير مركزية لاستمرارها.
بالنسبة للقيادة “الرسمية” للجيش، تمثل الحرب صراعاً وجودياً “صفرياً”. الموقف الاستراتيجي، كما توضحه التحليلات، لا يقبل بأقل من “تفكيك” قوات الدعم السريع، انطلاقاً من عقيدة استحالة قيام “دولة بجيشين”. وأي مفاوضات تقبل بـ “الحل الوسط” تُعتبر استسلاماً مؤسسياً.
وبالنسبة للحلفاء الإسلاميين، فإن الأمر يتجاوز الصراع المؤسسي ليصبح مشروعاً أيديولوجياً لاستعادة الدولة التي فقدوها في ثورة 2019. الحرب هي الضمان الوحيد لبقائهم كقوة فاعلة. أما “السلام”، بأي شكل تفاوضي، فهو يمثل تهديداً وجودياً مطلقاً لأنه سيعيد إحياء المسار المدني الديمقراطي الذي يسعى لإقصائهم.
لذلك، فإن الفظائع الموثقة في الفاشر ليست سبباً لوقف الحرب، بل هي الوقود الدعائي الضروري لـ “شيطنة” العدو وتصويره كـ “شر مطلق” لا يمكن التفاوض معه، مما يمنح هذا التحالف “التفويض الأخلاقي” المزعوم لمواصلة ما يسمونه بـ “حرب الكرامة”، حتى لو كان الثمن هو التدمير الممنهج للبنية التحتية والاتجاه نحو التقسيم الفعلي للبلاد.
لم يكن سقوط الفاشر مجرد هزيمة عسكرية للجيش السوداني، بل شكل نقطة تحول استراتيجية في كيفية “توظيف” المعاناة الإنسانية. تم استخدام الكارثة بشكل مزدوج: لتبرير الهزيمة العسكرية من جهة، ولتوفير الغطاء الأخلاقي لرفض أي مسار سلمي من جهة أخرى.
يمثل سقوط الفاشر، العاصمة التاريخية لإقليم دارفور وآخر معاقل الجيش في الإقليم الشاسع، خسارة استراتيجية كبرى. هذا السقوط، الذي جاء بعد حصار خانق استمر أكثر من عام ونصف (مصادر أخرى تشير إلى 18 شهراً) ومحاولات اقتحام فاشلة تجاوزت 260 محاولة، أدى إلى انسحاب الفرقة السادسة مشاة وسيطرة قوات الدعم السريع على كل ولايات دارفور الخمس.
لكن البعد العسكري طغت عليه الفظائع الإنسانية. التقارير الدولية والمحلية، مدعومة بصور الأقمار الصناعية، كشفت عن “فظائع جماعية” و “انتهاكات مروعة”. تحدثت التقارير عن قيام مقاتلي الدعم السريع بـ “ذبح مئات الأشخاص”. وأظهرت صور الأقمار الصناعية بقعاً حمراء واسعة يُرجّح أنها دماء، ورصدت عشرات الجثث بالقرب من منشآت طبية وأحياء سكنية.
شملت الانتهاكات إعدامات ميدانية موثقة، بما في ذلك داخل “المستشفى السعودي بالفاشر”، حيث قُتل أكثر من 460 شخصاً بين مرضى ومرافقين وعاملين صحيين. وأثارت هذه الأفعال، التي وُصفت بأنها “قتل ممنهج للمدنيين”، مخاوف دولية جدية من تكرار “مأساة الجنينة” واحتمالية حدوث “تطهير عرقي”.
أمام هذا الحجم من الأدلة، أقرت قيادات الدعم السريع جزئياً بوقوع “تجاوزات”، حيث أعلن قائدها محمد حمدان دقلو “حميدتي” تشكيل لجان تحقيق، فيما وصف الناطق باسم القوات الفاتح قرشي ما حدث بأنه “انتهاكات من أفراد لا تمثل قوات الدعم السريع”.
استغل التحالف العسكري-الإسلامي هذه الفظائع الموثقة ببراغماتية سياسية لخدمة هدفين متناقضين ظاهرياً:
هنا يكمن جوهر الاستراتيجية: إن بشاعة الانتهاكات هي التي تمنح التحالف العسكري-الإسلامي “التفويض الأخلاقي” الذي يحتاجه لرفض الضغوط الدولية المتزايدة لوقف إطلاق النار. فكلما طالبت جهة دولية بضرورة الهدنة، كان الرد جاهزاً: “كيف يمكن التفاوض مع مرتكبي هذه الفظائع؟”. لذلك، فإن تسليط الضوء على الانتهاكات لا يتم على الرغم من الرغبة في الحرب، بل لأنهم يرغبون في استمرار الحرب.
لفهم رفض الجيش المستمر للمفاوضات، يجب تجاوز الخطابات السياسية الظرفية والغوص في عقيدته المؤسسية. الموقف العسكري “الرسمي” هو موقف “مطلق” (Absolutist) يهدف إلى “تفكيك” العدو وليس مجرد التفاوض معه، مما يجعل استمرار الحرب، من وجهة نظره، المسار الحتمي والوحيد.
يكشف خطاب البرهان بعد سقوط الفاشر عن هذه الرؤية “المطلقة”. فبينما برر الانسحاب بأسباب “إنسانية”، فإنه أتبع ذلك مباشرة بالتعهد بـ “الاقتصاص لما حدث للأهل في الفاشر”، مؤكداً أن “القوات المسلحة ستنتصر” وأن “هذه المعركة ستحسم لصالح الشعب السوداني”.
هذا الخطاب، كما تكرر في تصريحات لاحقة، يرفض الاعتراف بالواقع العسكري الجديد (وهو خسارة إقليم دارفور بالكامل)، ويصر على القدرة على “قلب الطاولة مرة أخرى واستعادة الأراضي التي تسيطر عليها المليشيا”. هذا الموقف لا يترك أي مساحة لحل وسط تفاوضي.
يستند الموقف الاستراتيجي للجيش على المبدأ الأساسي في الفكر السياسي الحديث للدولة (عقيدة ماكس فيبر): وهو ضرورة “احتكار الدولة لأدوات العنف المشروع”. التحليلات الاستراتيجية تؤكد أن الأزمة السودانية تكمن في أن “الدولة التي يوجد فيها أكثر من جيش تتوقف عن أن تكون دولة”.
من هذا المنظور، فإن “الدعم السريع” ليست مؤسسة وطنية يمكن “دمجها” أو “التفاوض” معها، بل هي “ميليشيا خاصة” وجودها “غير متوافق هيكلياً مع بنية الدولة الطبيعية”. لذلك، فإن الهدف الاستراتيجي الوحيد المقبول مؤسسياً للجيش هو “تفكيك المليشيا”. كما لخص أحد التحليلات الموقف: “أحدهما يجب أن يبقى، والآخر يجب أن ينتهي”.
هذا المبدأ “الصفري” هو الذي يفسر رفض الجيش المتكرر للمفاوضات. فالمفاوضات، بطبيعتها، قائمة على “الحل الوسط” (Compromise)، بينما عقيدة الجيش قائمة على “الحل الصفري” (Zero-Sum). أي مسار تفاوضي لا يبدأ بـ “تفكيك” الدعم السريع يُعتبر دعوة للاستسلام المؤسسي وتنازلاً عن جوهر وجود الدولة.
بما أن الجيش خسر السيطرة الميدانية في دارفور وأجزاء من كردفان، فكيف يخطط لتحقيق هدف “التفكيك” و “قلب الطاولة”؟.
تشير التحليلات إلى أن الجيش لا يعتمد على المواجهة المباشرة (التي خسرها في الفاشر)، بل على “حرب استنزاف طويلة” (Prolonged War of Attrition) تستخدم أصولاً استراتيجية لا تزال حكراً عليه:
إن هذا الموقف “المطلق” (“التفكيك” أولاً)، المدعوم باستراتيجية “حرب الاستنزاف” طويلة الأمد، يعني أن قيادة الجيش مستعدة للتضحية بالبلاد في حرب مدمرة لا نهاية لها، بدلاً من القبول بسلام قصير الأمد يهدد وجودها المؤسسي وعقيدتها العسكرية.
إذا كانت عقيدة الجيش “الرسمية” تضع شروطاً مستحيلة للسلام، فإن حلفاءه من قوى “الإسلام السياسي” (فلول نظام البشير) يقدمون المحرك الأيديولوجي والغطاء الشعبي لاستمرار الحرب. بالنسبة لهذه المجموعات، الحرب ليست خياراً استراتيجياً، بل هي “مشروع وجودي”؛ وأي سلام تفاوضي هو بمثابة “انتحار سياسي”.
تتراكم الاتهامات بأن “الحركة الإسلامية” (تنظيم الإخوان المسلمين في السودان) هي التي “أشعلت الحرب” بهدف “العودة إلى السلطة” بعد أن تم إقصاؤها سياسياً وشعبياً إثر ثورة ديسمبر 2019. ومنذ اندلاع الصراع، سارع أنصار نظام البشير، بقيادة علي كرتي، إلى دعم الجيش والانخراط في القتال إلى جانبه عبر ميليشياتهم المسلحة.
أصبحت هذه الميليشيات، وأبرزها “كتيبة البراء بن مالك”، لاعباً محورياً، وتواجه اتهامات مباشرة بـ “السيطرة على قرار الحرب” داخل الجيش.
يكشف تحليل الخطاب الإعلامي لهذه المجموعات عن دافع أيديولوجي-ديني يتجاوز السياسة. في خطاب لأحد قادة “كتائب البراء” بعد مقتل أحد عناصرهم، تم تعريف الحرب بأنها “جهاد” للحفاظ على “السودان واحد موحد” وضد “بلد تتفرد” أو “تتقسم”.
لكن المفارقة الصارخة التي تجيب مباشرة على استعلام المستخدم، تظهر في خطاب القيادي الإسلامي البارز أنس عمر. ففي تسجيل متداول، يظهر عمر وهو يستخف بشكل كامل بالمعاناة المدنية التي يتشدقون بها في الإعلام. يسخر عمر من الاهتمام بقضايا مثل “القمح، الزراعة، الفول، الدخن، اللحم، اللبن، المرض، المستشفيات، التعليم، المدارس، الأمهات، الأطفال”، معتبراً إياها ثانوية أمام الهدف الأسمى، مؤكداً أن “حملتنا مستمرة” حتى “يطلعوا الأوساخ ديل”.
هذا الخطاب يحل المفارقة: يتم إدانة انتهاكات الفاشر ليس من منطلق إنساني، بل من منطلق “أيديولوجي” (لشيطنة العدو). وفي ذات الوقت، يتم “تجاهل” بل والسخرية من المعاناة العامة للشعب طالما أن الحرب مستمرة وتخدم هدفهم الأيديولوجي (النصر).
لماذا هذا الإصرار المرضي على الحرب؟ لأن أي “عملية تفاوض” سياسية جادة (مثل مسارات جدة أو المبادرات الإقليمية) ستؤدي حتماً إلى نتيجة واحدة لا يقبلونها: “إبعاد أنصار نظام البشير” عن أي مشهد سياسي مستقبلي.
الحرب هي الضمان الوحيد لبقائهم. فطالما استمرت الحرب، يظل الإسلاميون “شريكاً ضرورياً” للجيش (كمقاتلين عقائديين). إذا توقفت الحرب، وعاد المسار المدني، يعودون إلى كونهم “حزباً معزولاً” ومطلوباً للعدالة الانتقالية.
الخطوة الأخطر التي تؤكد هذه النية هي إعلان قائد “كتيبة البراء” عن تشكيل “كتائب إسناد مدني”. التحليلات تشير إلى أن هذا الإعلان تم “للمرة الأولى… دون ذكر الجيش”.
ينظر المحللون إلى هذه الخطوة على أنها “تحول كبير في الحرب” ينبئ بتشكيل “دولة داخل دولة” على غرار “نموذج حزب الله وحماس والحشد الشعبي”. هذا الكيان الموازي، المدعوم بإمدادات خارجية (تتردد اتهامات لوجود دعم إيراني)، هو “بوليصة تأمين” إسلامية ضد أي محاولة سلام قد يقدم عليها الجيش.
يشير هذا إلى أن قائد الجيش، البرهان، قد يكون مجرد “وجود ديكوري”. فإذا تعرض البرهان لضغوط كافية ووافق على التفاوض، فإن “كتائب البراء” (كـ “حزب الله”) ستمتلك “قوة تعطيل” (Veto Power) مستقلة. يمكنها رفض أي اتفاق، ومواصلة الحرب بشكل مستقل، مستخدمة “شرعية” الجيش كغطاء. هذا يجعل قرار الحرب مجزأً، ويجعل وقفها شبه مستحيل، لأن القرار لم يعد موحداً حتى داخل معسكر الجيش.
يطرح التحالف العسكري-الإسلامي نفسه كـ “حامي الوحدة الوطنية” في مواجهة “ميليشيا” تسعى للتقسيم. لكن الواقع الميداني والتحليل العميق للدوافع يكشفان مفارقة مدمرة: إن الإصرار على استمرار الحرب هو، في حد ذاته، المسار الأسرع والأكثر ضماناً لتقسيم السودان.
تستند شرعية “كتائب البراء” الأيديولوجية على خطاب “الوحدة”. يؤكد قادتهم أنهم يقاتلون “من ان يبقى هذا السودان واحد موحد” وضد “بلد تتقسم”. يتم تصوير الدعم السريع كقوة “تقسيمية” تهدف إلى فصل دارفور.
على النقيض من هذا الخطاب، فإن النتيجة المباشرة لاستمرار الحرب، وتحديداً بعد سقوط الفاشر، هي “تكريس تقسيم جغرافي للبلاد”. أصبح الواقع الميداني واضحاً: قوات الدعم السريع تسيطر الآن على كل ولايات إقليم دارفور الخمس غرباً، بينما يسيطر الجيش (وحلفاؤه) على أغلب مناطق الشمال والشرق والوسط.
لقد خلق استمرار الحرب واقعاً “تقسيمياً” على الأرض يصعب عكسه، وهو ما حذرت منه تقارير إقليمية ودولية.
كيف يمكن حل هذا التناقض بين خطاب “الوحدة” وواقع “التقسيم”؟ يقدم أحد التحليلات اتهاماً مباشراً وصادماً: “الإسلاميين، يسعون لتقسيم السودان”.
المنطق خلف هذا الاتهام هو أن “استمرار هذه الحرب يوفّر الفرصة المثلى لتحقيق التقسيم”. هدف الإسلاميين الحقيقي ليس “الوحدة” الجغرافية، بل “السلطة” الأيديولوجية. وهم يواجهون ثلاثة سيناريوهات:
في السيناريو الثالث، يحصل الإسلاميون على “جائزة ترضية” ثمينة: حكم “دولة نهرية” (شمال/شرق) صافية أيديولوجياً لهم (عبر سيطرتهم على الجيش)، بينما يحكم الدعم السريع الغرب. هذا “التقسيم” هو نتيجة أفضل بكثير بالنسبة للإسلاميين من “الوحدة” في ظل دولة مدنية ديمقراطية لا مكان لهم فيها.
لذلك، فإن خطاب “الوحدة” ليس إلا غطاء أيديولوجياً للاستمرار في حرب، نتيجتها الحتمية والوحيدة هي “التقسيم”، وهو ما يبدو أنهم يقبلون به كخيار استراتيجي.
إن الإجابة المباشرة على المفارقة المطروحة (إدانة الانتهاكات ورفض وقف الحرب) تكمن في فهم أن قرار الحرب لم يعد قراراً عسكرياً بحتاً، بل هو نتاج “تحالف تكافلي” (Symbiotic Alliance) مدمر بين مؤسسة الجيش والحركة الإسلامية.
إن الفظائع، مثل التي حدثت في الفاشر، هي ضرورية لهذا التحالف. هي “الصمغ” الذي يربط الأهداف المتباينة (مؤسسية وأيديولوجية) في “قضية مشتركة”. يتم استخدام هذه الانتهاكات لتبرير الموقف “المطلق” (لا تفاوض، فقط تفكيك)، ولشيطنة العدو ومنع أي ضغوط دولية للسلام.
السلام التفاوضي يعني هزيمة مزدوجة لهذا التحالف:
لذلك، فإن استمرار الحرب، بكل ما تحمله من دمار ممنهج وانتهاكات مروعة وتقسيم فعلي، هو الخيار الاستراتيجي الوحيد المتبقي لهذا التحالف لضمان بقائه.
المصدر:
الراكوبة