الزين عثمان
سيدفع السودان الثمن لو نجحت غرف الطوارئ في هزيمة الرئيس الأمريكي “ترامب” الذي قال “حرب غزة هي الحرب الثامنة التي أنهيها، فأنا أجيد حل الحروب وإحلال السلام وهذا شرف عظيم لي”. كان رئيس أكبر دولة في العالم يسعى جاهدًا من أجل الحصول على جائزة نوبل للسلام التي رشحت لها أيضًا غرف الطوارئ بالسودان.
لم تختر لجنة الجائزة ترامب للفوز بها. وهو الأمر ذاته الذي حدث مع غرف الطوارئ السودانية، إذ فازت زعيمة المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو التي تعيش في الخفاء، الجمعة، بجائزة نوبل للسلام 2025 لجهودها “من أجل عملية انتقال عادلة وسلمية من نظام ديكتاتوري إلى آخر ديمقراطي”.
وقال رئيس لجنة نوبل النرويجية يورغن واتنه فليدنس في أوسلو: “قدمت ماريا كوريا ماتشادو مثالا استثنائيًا على الشجاعة في النشاط المدني في أميركا اللاتينية في الفترة الأخيرة “.
لطالما كانت نوبل للسلام مرآة تعكس ما يجري في حلبات السياسة. تثير حنق البعض طورًا وتعلي شأن آخرين تارة ودومًا مثيرة للجدل.. وعلى كل توارت خلف تتويج المعارضة الفنزويلية جهود إنسانية عظيمة في السودان؛ حيث النفير يحيي روح التكافل وتقديم العون لـ”ملايين الغبش التعاني”.. ولئن كان السلام في جوهره هو رفض العنف والعودة إلى جوهرِ الإنسانية، فقد كان هذا الامر هو ما فعلته غرف الطوارئ السودانية طوال سنين الحرب وقبلها.
غرف الطوارئ هي مجموعات مجتمعية وشبكات تبلورت منذ اندلاع القتال في أبريل 2023. وُلدت هذه الغرف من لجان المقاومة التي انتظمت في ثورة ديسمبر المجيدة، وقادت الحركة الاحتجاجية آنذاك، وأسهمت بشكل فعّال في إسقاط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير. من أسقطوا الديكتاتور في الثورة قرروا أن يصبحوا “الترس” الذي يحمي شعبًا كاملًا من السقوط في متاهات الجوع والمرض وغياب الدواء.
نجحت هذه الغرف في توفير الطعام والماء والإسعافات الأولية ونقل الجرحى، والمحافظة على خدمات حيوية مثل ضخ المياه أو تشغيل المولدات للمستشفيات التي لا تزال تقدّم خدماتها للمواطنين في مناطق النزاع. ومن أبرز تلك المبادرات كانت مبادرة مستشفى النو في أمدرمان، التي تمكنت من دعم المستشفى لمواصلة تقديم الخدمات في ظل أوضاع إنسانية وأمنية معقدة، ودفع منسوبوها فواتير ما يقومون به بالتعرض للقتل والاعتقال دون أن يؤثر ذلك على قناعاتهم بما يقومون به.
كان ترشيح غرف الطوارئ السودانية للحصول على جائزة “نوبل” امتدادًا للاعتراف العالمي بما تقوم به وأنها كانت البديل السوداني حين غابت المؤسسات الرسمية، وأنها تمثل شكلًا من أشكال التضامن الأهلي الجدير بالاحتفاء.
وفي وقت سابق منحت مؤسسة “رافتو” النرويجية لحقوق الإنسان جائزتها السنوية للشبكة تقديرًا لـ«عملها الشجاع في الحفاظ على أهم حق إنساني، وهو الحق في الحياة»، مشيدة بآلاف المتطوعين الذين يخاطرون بحياتهم لإنقاذ الآخرين وسط الحرب والدمار.
وسبق أن حصدت غرف الطوارئ السودانية جائزة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان لعام 2025، باعتبارها أحد مظاهر التضامن الشعبي في العالم، واحتفاءً بجهودها في تقديم العون والغذاء والرعاية الصحية لملايين السودانيين رغم المخاطر والاعتقالات والانتهاكات التي طالت بعض أعضائها، وقبل أيام قليلة فازت غرف الطوارئ بجائزة نوبل البديلة من مقرها في ستوكهولم التي منحت تقديراً لجهود 10 آلاف متطوع يقومون بالاستجابة الإنسانية في أوضاع بالغة الخطورة ويعرضون حياتهم للخطر..
خسرت غرف الطوارئ السودانية جائزة “نوبل” غير أن خسارة نوبل لم تقلل من قيمة ما أنجزته هذه المبادرة الشعبية، بل أكدت أن أعظم جوائزها كانت ولا تزال حياةَ من أنقذتهم من السودانيين.
تقول دعاء طارق إحدى المتطوعات في غرف الطوارئ: “في غرف الطوارئ السودانية أول وأعظم مكاسبنا هو حب ناس الحلة، حيث وجدنا الحياة والإنسانية وتعلمنا كيف نتقاسمها ونمنحها لمن هم حولنا، استطعنا تفعيل أدوات تنظيمية شعبية قاعدية اكتسبناها بعمر وجودنا كشعوب مختلفة، متجانسة وغير متجانسة. تحركنا تحت القصف وأثناء الرصاص، ساعات وأيام وسنين الاحتلال بروح المقاومة، إيماننا بحقنا في الحياة وإبداعنا في إيصال رسالتنا والتزامنا بالخط الإنساني” .
وتضيف: “مارسنا العون التضامني رغم أنف غير المؤمنين به، واجهنا البندقية بالكمشة، الطلقة بالطبشيرة، الحماية المفرطة بخلق مساحات آمنة حقيقية، لقينا بعض، نجونا سوياً”.
وفي يناير 2025، ظهرت غرف الطوارئ ضمن قائمة مرشحي معهد أبحاث السلام لنيل جائزة نوبل للسلام وقال هنريك أوردال، مدير المعهد إن “غرف الطوارئ تمثل دليلًا دامغًا على قوة الصمود المحلي والعمل الجماعي في مواجهة الحرب الوحشية”، مضيفاً أن عمل أفرادها يسلط الضوء على الجهود المترابطة اللازمة لتعزيز العدالة والسلام في العالم .
وأوضح المعهد أن “منح جائزة نوبل للسلام لمبادرة إنسانية مثل غرفة الطوارئ السودانية من شأنه أن يبرز الأهمية الحاسمة للوصول إلى المساعدات المنقذة للحياة في أوقات النزاع”.
بالطبع عدم اختيار غرف الطوارئ السودانية للفوز بنوبل للسلام هذه المرة أعاد طرح الأسئلة حول المعايير التي يتم بها الاختيار، خصوصاً وأن أربعة من الفائزين السابقين بجائزة “رافتو” حصلوا لاحقًا على جائزة نوبل للسلام.
وهم يعيدون ترتيب أدوات “المطبخ” في منطقة نائية يحاصرها الجوع والمرض وتنعدم فيها شبكة الاتصالات يأتيهم خبر عدم اختيارهم لجائزة هذا العام فيردد أحدهم: “كنا نأمل أن تكون جهودنا الحثيثة في مواجهة الأزمة والحفاظ على الأرواح محل اعتراف عالمي بجائزة نوبل للسلام، لكننا نُدرك أن هذه الجوائز لا تقيس قيمة العمل الإنساني الحقيقي الذي نقوم به يوميًا في الميدان. ما يهمنا أكثر هو استمرارنا في تقديم الدعم والمساعدة للمتضررين، وأن تصل رسالتنا إلى كل من يحتاج إلى أمل وحماية. هذه اللحظة ليست نهاية، بل دافع لنا للمضي قدمًا بقوة أكبر، ونؤمن أن العدالة الإنسانية والتضامن سيجدان طريقهما في الوقت المناسب، وإن كان حلمنا هو أن يعود السلام إلى بلادنا ولا نضطر إلى أن نكون غرف طوارئ في ظروف غير عادية.. نحنا فزنا وإن لم يتم اختيارنا”
أفق جديد