يواجه متطوعو غرف الطوارئ ولجان المقاومة الثورية في السودان، حرباً رقمية واسعة، من خلال رقابة نشاطهم وتواصلهم عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، بصورة ألقت بظلال سالبة على جهودهم في جمع التبرعات لتوفير الطعام إلى المواطنين المتأثرين بالصراع المسلح في مختلف أنحاء البلاد.
من خلف شاشات الهواتف المحمولة، يدير متطوعو غرف الطوارئ، نشاط واسع النطاق لجمع التبرعات والتنسيق فيما بينهم لإغاثة المدنيين وسط الحرب، لكن الفضاء الإلكتروني الذي يتحركون فيه أصبح مليئاً بالمخاطر، إذ يجري تتبعهم ومراقبتهم، ومن ثم اعتقالهم، كما تم تقييد بعض تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل (واتساب) من قبل الحكومة السودانية بقيادة الجيش، مما عرقل نشاط المتطوعين.
“غرف الطوارئ” وهي شبكة تضم آلاف المتطوعين، نشطت منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023م، في تقديم الطعام من خلال المطابخ المجانية “التكايا” إلى المدنيين المتأثرين بالصراع المسلح عبر جهود تكافلية بسيطة، وظلوا يتعرضون إلى المضايقات والاعتقال والضرب وحتى القتل، من أطراف الصراع.
ونتيجة لجهودهم في حماية حق الحياة للمواطنين السودانيين، فاز متطوعو غرف الطوارئ بأربع جوائز عالمية خلال العام الجاري، وهي جائزة نوبل البديلة، مقدمة من مؤسسة الحق في العيش السويدية، وجائزة رافتو النرويجية، بالإضافة إلى جائزة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان، وجائزة ريتشارد سي، هولبرك للمناصرة الدولية، وتم ترشيحها من قبل معهد أبحاث السلام في أوسلو لجائزة نوبل للسلام، التي تم الإعلان عن الفائز بها في العاصمة النرويجية أوسلو في العاشر من أكتوبر الجاري.
وفي الوقت الذي تواصل فيه غرف الطوارئ حصد جوائز التكريم العالمي اعترافاً بدورها، تستمر السلطات السودانية في التضييق عليها، ليس على الأرض فحسب، بل في العالم الافتراضي على الإنترنت.
وسائل إنقاذ
“المنصات الرقمية وسيلة أساسية لجمع التبرعات من أجل إعداد الطعام وإنقاذ حياة المواطنين، لكنها تحولت إلى مصدر قلق وتهديد كبير للمتطوعين”، يقول متطوع بالخرطوم.
ويقول عضو غرفة طوارئ مدينة الخرطوم، أسامة أزهري لـ(عاين): “يتركز النشاط الرقمي لغرف الطوارئ في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل فيما بينها ودعم الأفراد، بجانب عقد الاجتماعات عبر الإنترنت لتنسيق العمل الطوعي، فمنصات الإنترنت صارت ساحة للعمل والتنظيم وحشد التبرعات، وإيصال الإمدادات الإغاثية، كذلك تحديد أماكن المصابين من المدنيين وإجلائهم إلى المرافق الطبية لتلقي العلاج”.
لكن المنصات الرقمية كوسيلة أساسية تستخدمها غرف الطوارئ لإنقاذ حياة المدنيين في مناطق النزاع المسلح، تحولت إلى مصدر قلق وتحد كبير أمام المتطوعين بحسب أزهري، نظراً للمخاطر التي تنطوي عليها.
وفي 25 يوليو الماضي، فرضت الحكومة التي يقودها الجيش في السودان، حظراً على المكالمات الصوتية عبر تطبيق واتساب، نتيجة ما أسمته بالمهددات الأمنية وحماية الأمن القومي. ولجأ المواطنون السودانيون بمن فيهم المتطوعين إلى استخدام تطبيقات وبرامج كسر الحظر مثل “VPN” وغيرها حتى يتسنى لهم الاستفادة من خدمات التواصل الاجتماعي.
ويشير عضو غرفة طوارئ الخرطوم أسامة أزهري، إلى أن الحظر الجزئي على تطبيق واتساب لم يؤثر في التواصل فحسب، بل شمل قيوداً على إرسال الصور ومقاطع الفيديو الأمر الذي سيعيق عملية توثيق الجرائم والانتهاكات بحق المدنيين، ومشاركتها، فالتوثيق ليس ترفاً إعلامياً، وإنما مطلوب كدليل مهم على الجريمة وأساس للمحاسبة، وهو ذاكرة تحمي من النسيان، وأن تعطيله يدل على رغبة للتعتيم وحجب فظائع الحرب عن العالم، حسب وصفه.
ويضيف “هذا التضييق والرقابة الرقمية، جعلت بيئة العمل الطوعي في السودان أكثر رعباً، رغم لجوء الناشطين لاستخدام تطبيقات الأمان الرقمي وفك الحجب، إلا أن المخاوف لاتزال حاضرة في ظل انعدام جدار الثقة”.
تعامل عفوي مع الوسائل الرقمية
ومع تزايد المخاطر الرقمية على المتطوعين، لم تكن لهم خطط منظمة للحماية، كما لم يتلقوا تدريبات في السلامة الرقمية؛ مما يجعلهم عرضة للوقوع في مصيدة السلطات السودانية، وفق ما يقوله عضو في غرف طوارئ بحري شمالي العاصمة لـ(عاين).
ويضيف المتطوع الذي طلب عدم ذكر اسمه نظراً للمخاطر الأمنية: ” في الواقع ليست لدينا أي إجراءات أمنية رقمية مُنظَّمة. هذا هو الواقع بوضوح.. الإجراءات المطبقة هي في الغالب عفوية، وليست مُقنَّنة أو رسمية أو تنظيمية. أي شخص يمكنه اتخاذ احتياطاته الخاصة بالطريقة التي يراها مناسبة”.
وتابع “يجب أن نعترف بأننا كمجتمع سوداني لدينا قصور في الثقافة التقنية؛ نحن لا نفهم جيداً الإجراءات الأمنية التي يمكننا تطبيقها، لذا فإن أقصى ما نقوم به هو استخدام شبكات الـ VPN وتشفير مكالماتنا، وهذا هو أقصى ما تسمح به معرفتنا وقدراتنا، لكن لا توجد أي إجراءات رسمية أو تنظيمية، بل إن الأمر متروك للاجتهادات الفردية”.
من جهته، يقول الناشط الاجتماعي أحمد عثمان إن “عمل غرف الطوارئ واللجان، وكل العاملين في السودان في ظل الأوضاع الحالية يحتاج إلى كثير من الحرص؛ لأن أي خطأ يمكن أن يؤدي بحياتك أو اعتقالك، أو يتسبب بضرر للمنظومة التي تعمل معها بشكل كامل، مما يتطلب رفع الوعي بالوسائل الرقمية التي يستخدمونها”.
“العمل البطولي لا يتم دون دفع ثمن، نتعرض إلى استهداف ممنهج وتضييق ورقابة، المنصات الرقمية هي وسيلتنا لجمع التبرعات، وعندما تتوقف الهواتف تتعطل الحياة” يقول ناشط اجتماعي.
ويضيف عثمان في حديثه لـ(عاين): “نواجه تحديات لوجستية لا يمكن تصورها، يضاف إليها الاستهداف الممنهج والتضييق والرقابة. إن قطع وتذبذب خدمات الإنترنت والاتصال، ليس مجرد أمر مزعج؛ إنه محاولة لـعزلنا وإخفاء عملنا، حيث تعتمد شبكات الإغاثة على هذه الأدوات في تنسيق إجلاء المصابين، وتحديد المناطق التي تحتاج إلى مساعدات عاجلة، وتأمين مسارات التمويل البسيطة، وعندما يسكت الهاتف، تتوقف آليات الإنقاذ”.
تسييس الإغاثة
يشدد عثمان على أن “هذا التضييق ليس له هدف سوى محاولة لتسيس الإغاثة وإيقاف يد العون التي تصل إلى الناس بصورة حيادية وفعالة، وجعلها تحت سلطة رسمية أو عسكرية”. ويقول “أي محاولة لفرض الرقابة أو الإشراف على عملنا الطوعي الحر هي في جوهرها حكم بالإعدام على آلاف المطابخ الجماعية والعيادات المتنقلة”.
يواجه الناشطون والمتطوعون خطر الاعتقال، والإخفاء القسري، والقتل لمجرد قيامهم بتوصيل كيس طحين أو شريط حبات علاج. هذه الإجراءات تخلق مناخاً من الخوف يهدد بتفكيك شبكاتهم وإضعافها، “لكن إصرار الشباب أقوى من كل سلاح”.
وأثرت الرقابة سلباً على سرعة استجابة المتطوعين وقدرتهم على التوسع، وجعلت كل مهمة لوجستية تبدو وكأنها عملية عسكرية. لكنها في المقابل عززت من مرونة وإبداع المتطوعين، وباتوا يعتمدون على الإشارات الخافتة، والرسائل الشفهية، والجهود الفردية لضمان استمرار تدفق المساعدة، وفق عثمان.
بعيداً عن منطق الأرقام، يوضح عضو في غرفة طوارئ بحري، طلب عدم ذكر اسمه، طريقة قياس تأثير عملهم، والتي تعكس عُمق الارتباط الشعبي، واستنهاض قيم التكافل الاجتماعي لمساعدة المتأثرين بالصراع المسلح، فالمجتمع واع ومدرك لهذا الدور الذي يقوم به المتطوعون، مما يكسبهم شرعية شعبية لا تنتزع بمحاولات التشويه.
لعل الجانب الأكثر خطورة في هذه المعركة الرقمية هو تأثيره المباشر على الحالة النفسية للناشطين. يقول أستاذ علم النفس، الدكتور عبد الله آدم لـ(عاين) إن “التحديات النفسية والأمنية التي تواجه الناشطين اليوم عميقة ومركبة، تبدأ هذه التحديات بالاختراقات الأمنية المحتملة لأجهزتهم، وصولاً إلى المخاوف الحقيقية من الاعتداء، والاعتقال، والسجن. هذه البيئة الأمنية الهشة تشكل ضغطاً كبيراً على الأفراد المتطوعين”.
اضطراب نفسي
وبحسب عبد الله، يتفاقم هذا الوضع بسبب ممارسات المراقبة الحديثة؛ من المراقبة التقنية الشاملة، إلى رصد مواقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك ومكالمات وتطبيقات مثل واتساب في السودان . كل هذا يخلق واقعاً نفسياً قاسياً، يرتكز على الشعور الدائم بـالتهديد، والخوف من الخطف أو الاعتقال، وفق تقديره.
ويقول: “هذه الممارسات تسبب اضطراباً نفسياً يظهر في صورة أعراض واضحة: الخوف، والتوتر، والقلق الشديد. قد يعيش الفرد في حالة من اليقظة المفرطة والوسواس النفسي، حيث يسيطر عليه هاجس المراقبة المستمرة، سواء لهاتفه أو لوسائل تواصله. هذا الترهيب والخوف المستمر يقود إلى حالة من التحسس المفرط قد تتطور إلى وسواس قهري، وهو من أبرز التداعيات النفسية المترتبة على التحديات الأمنية المتعلقة بـالمراقبة، والترهيب، والإخفاء القسري”.
ويضيف “نتيجة هذا القلق الأمني، يواجه الناشطون تحدي الإرهاق الرقمي الذي يولد إرهاقاً ذهنياً وعاطفياً. منصات التواصل الاجتماعي مصممة لتفعيل هرمون الدوبامين المرتبط بالمزاج والتحفيز العاطفي. هذا الاستهلاك الرقمي الهائل يستنزف التوازن العاطفي لدينا، مسبباً إرهاقاً عاطفياً؛ فالصور والفيديوهات والمحتوى الذي نراه يفرض علينا استدراراً عاطفياً كبيراً يؤثر بشكل عميق على صحتنا النفسية”.
يعمل الناشطون السودانيون تحت نيران الخطر المادي والنفسي، محولين أدوات التواصل إلى خنادق للإغاثة. إن صمودهم الرقمي هو بقدر صمودهم على الأرض، وهشاشة أمنهم التقني هي مؤشر على حجم التضحية التي يقدمونها لتبقى جذوة الحياة مشتعلة وسط سودان مضطرب.
ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء هذه المادة من إعداد (شبكة عاين)، لتسليط الضوء على الحرب الرقمية التي تواجه متطوعي (غرف الطوارئ) في السودان، وما يتعرضون له من مراقبة أمنية وتضييق واعتقال وحتى القتل، فقط بسبب نشاطهم الإغاثي عبر الإنترنت، في الوقت الذي يكرمون فيه من قبل المؤسسات الدولية.ويبيّن كيف تحولت المنصات الرقمية من وسيلة لإنقاذ الأرواح إلى مصدر خطر وتهديد، في ظل غياب الحماية الرقمية.