تحول ساحات لعب الأطفال إلى ميادين قتال ومعارك بالأسلحة المصنوعة يدويًا
(1)
مع محاولات السودانيين للعودة إلى حياتهم الطبيعية وتناسي كابوس الحرب الذي أطبق على حيواتهم فوق العامين، ومع مكابدة مشاق الأسر في محاولة ترميم خرائب منازلهم وتعويض ما انتهبته عصابات الحرب، ومحاولة التأقلم مع واقع يفتقر لأبسط أساسيات الحياة وما يلقيه ذلك على العواتق لتوفير سبل ولقمة العيش الكريم، عادت آلاف الأسر لتنضم لمن لم يرحلوا جهدًا في خلق واقع بعيد مفقود تركوه زمنًا مع كامل اليقين من تسربه بلا عودة، فإن أعادوا للديار جدرانها التي هدمت فلن يجدوا بين الركام ما خلفوه من الذكريات وشلالات الحنين التي ضاعت للأبد، ومن بين تلك الوجوه الباحثة عن ماضيها عملت آلاف الأيادي الصغيرة للأطفال العائدين تنقب عن ألعابها التي تركتها على الأرفف وفي ساحات اللعب، فلم تجد أقلام الرسم والدفاتر وعجت ساحات اللعب بالقبور وبقايا الرصاص ومخلفات معارك المعتوهين الذين قاتلوا لأجل لا شيء ولم يحصدوا أي شيء، بل أن الأطفال لم يجدوا مدارسهم ورياضهم التي تحول بعضها لدور إيواء أو ثكنة عسكرية أو منصة قناص، واقتات من عشب نجائلها من أضناه الجوع حين زمن الحرب والمسغبة، ولم تنج أشجار المدارس وكنبات الدرس من جشع لصوص الحرب الذين قطعوها لحزم من الأخشاب تباع في الأسواق لمن يطلب نار المواقد، وحيال كل ذلك خرج آلاف الأطفال نحو ساحات اللعب وفي مخزون ذاكرتهم معارك الحرب التي شهدتها براءة أعينهم واختزنتها ذاكرتهم وعادوا لتشكيل ميادين اللعب على ضوء ذلك، فبعد عودة الحياة والنازحين لشوارع الخرطوم اللافت للأنظار ولكنه غارق في اللامبالاة هو منظر الأطفال الذين يصطفون في الطرقات ويلعبون لعبة الحرب بأسلحة هي عبارة عن بنادق خشبية ومدافع ودبابات صنعوها بأيديهم أو قاموا بشرائها من بعض ورش النجارين والحدادين، الذين وجدوا فيها تجارة لدر بعض الدراهم دون أن يعوا أو تعي أسر هؤلاء الأطفال عن أثر هذا التحول وما سيخلفه لاحقًا على سلوك ونفسية هذا الجيل مستقبلًا من تنمية مظاهر العنف والسلوك العدواني، ما يشكل خطرًا على أسرهم والمجتمع بأسره لما تحدثه ألعاب الطفولة من آثار بليغة مستقبًلا وفق مفاهيم ودراسات علم النفس الحديثة على أن اللعب هو وسيلة مهمة وفعالة لإعداد الكائن الحي وتهيئته للعمل الجاد الذي سيقوم به مستقبلا ويجعله فاعلا في المجتمع.
(2)
هؤلاء الأطفال العائدون من هول التجربة المريرة التي قاسوها بسبب الحرب لم يسلموا من الآثار النفسية التي تخلفها الحرب على الأطفال كالخوف والقلق وإضطراب النوم وفقدان الإحساس بالأمان وغيرها، لذلك فهم وعامة العائدون في حاجة ماسة لدعم نفسي لتجاوز آثار الحرب لكن يبقى الأطفال الفئة الأكثر حاجة، ذلك لضعف قدرتهم على الاحتمال وشدة تاثير التجربة، لذلك تزيد الحاجة لبذل اهتمام أكبر بالأطفال بعد تجربة الحرب خاصة في تهيئة بيئة تمحو عن أخيلتهم أجواء الحرب والعنف حيث يمكن أن تؤدي ألعاب الأسلحة التي انخرطوا فيها وفق الدراسات النفسية في تجارب الدول التي خاضت تجربة الحرب مثل سوريا واليمن وليبيا وغيرها لزيادة وتنامي السلوك العدواني والعنيف، وتقلل من تفاعلهم الاجتماعي والقدرة على الانسجام مع المجتمع بالميل نحو العزلة، وسابقًا أشار الاختصاصيون في وقت السلم لخطورة ألعاب الفيديو التي تقدم محتوى عنيفًا على سلوك الأطفال، وضرورة مراقبة الأسر لأطفالهم وتجنبيهم هذه النوعية من الألعاب والتركيز لجذب انتباههم نحو الألعاب التي تنمي السلوك والمهارات الإبداعية، حيث أن رغبة الطفل وميوله نحو تلك الألعاب تعد مؤشرًا على وجود طاقة زائدة لدى الطفل يكون في حاجة للتعبير عنها ويكون دور الأسرة والمؤسسات التربوية مراقبة وتوجيه تلك الطاقات ليتم التعبير عنها بشكل إيجابي لا يسبب مشاكل للطفولة ويزيد من تنمية مهارات الطفل، وفي تقرير ميداني قصير نشرته قناة الجزيرة عن ألعاب أسلحة الأطفال التي انتشرت في السودان بعد الحرب، عرض التقرير إضافة لنماذج من الورش التي قامت مؤخرًا لصنع هذه الإلعاب عددًا من أولياء الأمور الذين يقبلون على هذه المحال صحبة أطفالهم لشراء بعض الأسلحة الخشبية والمعدنية دون وعي منهم بخطورة الفعل الذي يقومون به وما يمكن أن يخلفه مستقبلًا على سلوك أطفالهم.
(3)
أوضحت دراسة من جامعة (سوينبرن) للتكنلوجيا في أستراليا عام 2010 أن الألعاب ذات المحتوي العنيف تحدث تأثيرًا من العنف والغضب والعصبية على سلوك الاطفال مستقبلًا، كما أجرى عالم علم النفس الاجتماعي البريطاني تشارلز تيرنر الخبير في الوقاية على سلوكيات الأطفال، تجربة بين عينة أطفال تم تزويدها بألعاب الأسلحة وأخرى بالعاب مختلفة في محاولة الربط بين العنف وألعاب الأسلحة، وكانت النتيجة هي اقتران السلوك المعادي للمجتمع بألعاب الأسلحة بشكل أكبر من أقترانه بألعاب الأطفال الأخرى، كما نشر موقع ( فيري ويل فاميلي) تقريرًا مستندًا على عدة دراسات توصلت لارتباط السلوك العدواني للأطفال بممارستهم المتكررة للألعاب الحربية والعنيفة، ويبذل المختصون في علم النفس والتربية لدى جهات الاختصاص في الدول العربية التي تعرضت للحرب في ليبيا واليمن جهدًا لمواجهة السلوك العدواني الذي طرأ على الأطفال جراء تجربة الحرب، حيث لاحظوا تأثيرات تلك الألعاب في الشوارع تقليدًا لتجربة الحرب باستخدام وجمع الأطفال بقايا الأسلحة من الشوارع وصناعة الأسلحة، وتخيل معارك وهمية تحاكي ما شاهدوه على الواقع أثناء اندلاع الحروب، وتقليد العسكر والثوار في القتل وإطلاق الرصاص وقبض الأسرى وما أدت إليه من تغييرات سلوكية تمثلت في ظهور بوادر العنف والتنمر ومشاعر الكراهية بشكل مغاير لمفاهيم التربية المفترضة، وأرجعوا ذلك لمشاهدات الأطفال للحرب على أرض الواقع ومن خلال نشرات التغطية في أجهزة الإعلام ووسائل التواصل، وليس بعيدًا عن الأذهان كم كانت الحرب السودانية بمشاهدها المروعة من قتل وذبح وأسر ومعارك دامية مبذولة على الميديا وفي متناول الجميع بما فيهم الأطفال، التي تحدث أثرًا نفسيًا موازيًا لمشاهدة تلك المعارك على أرض الواقع، والأطفال بما يملكونه من قدرات هائلة على حفظ ؤتخزين الصور المشاهدة ومدى تأثرهم بها فهم الأقرب لترجمة هذه الخيالات على أرض الواقع بذات الفداحة التي تضمنتها المشاهد المأساوية والعبثية التي شهدتها حرب السودان.
(4)
إن عاتق الإعمار وإعادة الوطن السوداني لا تكمن في بناء البيوت والبنى التحتية وحدها، بل يظل على العواتق عتق أطفالنا عن كل المظاهر غير الإنسانية وغسل أخيلتهم عن كل ما هو غير أخلاقي وإعادة ترسيم مسارح طفولتهم بالأناشيد بدلًا عن الرصاص، وليت واقع الحرب المهولة يصبح تجربة مستفادة للأسر السودانية ليس على الصعيد السياسي وأنظمة الحكم بل على المستوى الاجتماعي، سيما تنشئة الأبناء التي تقوم في مفهوم غالبية الأسر فقط على علف الأطفال وتوفير وجبات الطعام وانعدام الاهتمام بمظاهر السلوك والقيم، حيث أظهرت تجربة نزوح الأسر السودانية خاصة خارج الوطن خللًا كبيرًا وفارقًا في المظاهر السلوكية للطفل السوداني وافتقاده لمظاهر الثقة وحاجته لتنمية منظومة قيمية قادرة على التكيف مع اختلافات الواقع، وسيكون من المستحيل انتشال الطفولة السودانية من براثن العنف والفوضى طالما ظلت سماوات الوطن ترزح تحت غيمة العسكرة والعنف، ويصعب في ظل واقع كهذا حتى على الأسر والمدارس ومنظمات المجتمع المدني أن تساهم في تغيير واقع الطفولة والحد من الظواهر السلبية المتوقعة مستقبلًا، في ظل العنف الذي تصنعه خفافيش الخراب التي تمسك بزمام الوطن، وسيطول أمد العلو للبندقية على أقلام الرصاص وتنعدم مساحات اللعب وميادين الأطفال التي تحولات لمقابر جماعية وسط أحياء السكن.
أفق جديد