تحقيق: أحمد خليل
في 2016، ومع تفاقم أزمة انقطاع الكهرباء التي أغرقت مدن السودان في الظلام، علّقت البلاد آمالها على مشروعين استراتيجيين لتوليد الطاقة: محطة قري 3 شمال العاصمة الخرطوم بقدرة تصميمية تبلغ 450 ميغاواط، ومحطة كلانايب في ولاية البحر الأحمر غرب بورتسودان، المخصصة لإنتاج 500 ميغاواط من الكهرباء و80 مترًا مكعبًا من المياه النقية في الساعة.
جاء المشروعان ضمن الخطة القومية لوزارة الطاقة 2015، التي استهدفت رفع القدرة الإنتاجية للطاقة في السودان إلى 5500 ميغاواط بحلول 2030، بهدف وضع حد لأزمة الكهرباء المزمنة.
لكن بعد أقل من ثلاث سنوات، تحولت الوعود إلى سراب. تقارير المراجعة، التي حصلنا عليها، تكشف:” استنزف المشروعان مئات الملايين من الدولارات دون أن يضيئا مصباحًا واحدًا، وسط اتهامات بالفساد وسوء الإدارة وغياب التخطيط”.
يقول الصحفي المتخصص في شؤون الكهرباء إبراهيم شقلاوي إن وزارة الكهرباء وقّعت في ديسمبر 2016 عقدًا مع سيمنز لإنشاء المحطتين بطاقة إجمالية 950 ميغاواط، مع خطة لزيادتها إلى 1,270 ميغاواط بنظام الدورة المركبة. اختير موقع قري لقربه من المصفاة والمنطقة الصناعية، فيما وقع الاختيار على كلانايب لقربها من الميناء الرئيسي. ويضيف شقلاوي أن قري 3 كان يفترض أن تُضم لمنظومة قري 1 و2، بينما يُحدث مشروع كلانايب أثرًا مزدوجًا على أمن الطاقة والمياه في شرق السودان بتكلفة 200 مليون دولار.
في الأثناء، يشير عضو لجنة إزالة التمكين في قطاع الكهرباء، وليد الريح، إلى أن الصفقات الخاصة بإنشاء المحطتين كشفت عن نمط ممنهج من التجاوزات وغياب أبسط معايير الشفافية.
هذا ما تؤكده تقارير المراجعة، إذ كشف تقرير لجنة إزالة التمكين، التي راجعت مشروعات الطاقة بعد سقوط نظام البشير في 2019، عن عقود بمئات الملايين أُبرمت من دون مناقصات أو دراسات جدوى أو حتى إشراف فني: عقد مع CHINA JIANGSUبقيمة 401 مليون جنيه لأعمال قري 3 من دون تصاميم، ثم عقد لمحطة كلانايب بـ101 مليون جنيه بلا تصديق من المالية، وعقد ثالث للشركة نفسها في 2018 بقيمة 1.5 مليار جنيه من دون جدول كميات. أما سيمنز، فنالت عقودًا تجاوزت 176 مليون يورو لتوريد مولدات قديمة ثم تعديلها بعد تغيير الوقود بقرار شفوي من الوزير، فيما حصلت شركة SEMIالتركية على عقد 395 مليون درهم بغطاء ضمان غير معتمدمن شركة سور.
يقول مراجع قومي شارك في مراجعة التعاقدات – فضّل حجب اسمه – إن مراجعة عقود محطتي قري وبورتسودان أثبت وجود “فساد كبير”، مشيرًا إلى أنه تم فصل عدد من المهندسين المتورطين، ورفع تقرير مفصّل بالنتائج إلى لجنة إزالة التمكين ووزارة العدل.
في المقابل، يشير المهندس إسماعيل عقاب، الذي سبق له العمل في قطاع الكهرباء، إلى أن محطة قري 3 كانت على وشك الدخول في الخدمة، إذ كانت شركة SEMI التركية تنفذ التشطيبات النهائية. غير أن لجنة إزالة التمكين في قطاع الكهرباء أوقفت العمل وشرعت في تحقيقات حول شبهات فساد، ما أدى إلى توقف المشروع بالكامل، خاصة مع تزامن ذلك مع انتشار وباء كورونا.
أثبتت المراجعات أن مولدات سيمنز لم تُصمم لظروف السودان، ما فرض تعديلات مكلفة وأبطأ التنفيذ. فشلت اختبارات التشغيل، ورفض مهندس من الشركة استلام الأعمال لوجود عيوب. لم يُنجز سوى خزانين من أصل 27، وكلاهما متسرب، ولم يُنفذ نظام الحريق أو محطة التحويل الكهربائية، ما جعل ربط قري بالشبكة مستحيلاً.
كما تبين أن المحطة تحتاج 3,000 طن ديزل يوميًا، أي معظم الإنتاج القومي البالغ 3,500 طن، فيما تتطلب كلانايب 2,000 طن يوميًا تُستورد غالبًا من الخارج. وحتى لو شغلت، فالشبكة القومية المتهالكة لا تستوعب إنتاجها.
كما كشف تقرير لجنة إزالة التمكين عن غياب دراسات الجدوى قبل التنفيذ، واعتماد تغييرات عشوائية في خطط المشروع، ما أدى إلى ارتفاع التكاليف وتأخير الإنجاز. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل صُرفت دفعات مالية كبيرة خلال فترة تعطل نظام متابعة المشروع (Aconex) دون مراجعة فنية، في خرق واضح لقواعد اعتماد الدفعيات.
ويؤكد وليد الريح أنه لم يُنفذ سوى 50% إلى 60% فقط من أعمال محطة قري، التي تشكل 60% من قيمة المشروع، رغم صرف نحو 67% من قيمة التعاقد، ما يعني إنفاق مئات الملايين من الدولارات دون إنجاز موازٍ. أما محطة كلانايب، التي تمثل 40% من المشروع، فلم تُنجز فيها أعمال كهربائية تُذكر، واضطرت مدينة بورتسودان إلى الاعتماد على بارجة كهرباء مؤقتة، تبيّن لاحقًا أنها مملوكة للشركة نفسها التي أخفقت في تنفيذ المشروع الأصلي.
ويورد تقرير المراجعة جملة من المخالفات القانونية التي شابت تنفيذ المشروعين، حيث أُبرمت العقود دون طرح أي مناقصات أو عطاءات علنية، في تجاوز صريح لمبدأ المنافسة والشفافية. كما تم توقيع هذه العقود من قبل جهات لا تملك الصلاحية القانونية، مثل شركة الكهرباء القابضة، في مخالفة لاختصاصات التعاقد المقررة. ويشير التقرير إلى أن الضمان المالي كان عبارة عن شيك غير معتمد، وهو ما يخالف لوائح الشراء والتعاقد. ورغم أن المرحلة الأولى من الأعمال لم تُنجز، فقد استلمت الشركة المنفذة SEMI ما يعادل 67% من قيمة العقد، إضافة إلى صرف 75% من قيمة أجزاء أخرى من المشروع بناءً على وثائق شحن وُصفت بأنها مزورة أو مضللة. كما رصد التقرير تضاربًا واضحًا في المصالح، إذ تبين أن البارجة الكهربائية المؤقتة التي عملت في بورتسودان مملوكة للشركة نفسها التي أخفقت في تنفيذ المشروع الأصلي.
وأوضح التقرير أن الدولة دفعت ما يعادل 75% من قيمة أجزاء في المحطة استنادًا إلى وثائق شحن صادرة من موانئ تركية، لكن المعدات لم تصل مطلقًا، ليتبين لاحقًا أن أذونات الشحن كانت مضللة ومصطنعة. كما لم يُبرم أي عقد لتصميم أو تنفيذ محطة التحويل الكهربائية، وهو ما جعل ربط المحطة بالشبكة القومية أمرًا شبه مستحيل.
تشير التحقيقات إلى تورط وزراء ومسؤولين كبار، بينهم وزير الكهرباء معتز موسى ووزير المالية بدر الدين محمود، إضافة إلى أكثر من مائة موظف في شركات الكهرباء. ورغم فتح بلاغات رسمية، أُفرج عن معظم الموقوفين خلال 24 ساعة، فيما اتضح لاحقًا أن شركة الكهرباء القابضة التي وقّعت العقود لا تملك أصلًا صلاحية التوقيع. كما أظهر تقرير صادر عن جهاز المخابرات الوطنية أن شركة SEMI التركية، المسؤولة عن أعمال التركيب، مملوكة لرجل الأعمال التركي أوكتاي شعبان، وهو ما يضع المشروع ضمن ملفات ازالة تمكين النظام السابق بواجهة فنية.
يقول مقرر لجنة إزالة التمكين، وجدي صالح، إن مشروع “قري 3” نُفذ “من دون دراسة جدوى” مكتملة، موضحًا أن شركة سيمنس لم تكن على دراية مباشرة بكافة التفاصيل، بل جرت العملية عبر “سماسرة في الإمارات”. وأكد صالح وجود “فساد كبير جدًا” في الأعمال المدنية، مشيرًا إلى أن المشروع – الذي تجاوزت تكلفته 600 مليون دولار وفق تقرير المراجعة الذي أعدته لجنة إزالة التمكين في قطاع الكهرباء – تم تزويده بماكينات تعمل بالديزل، وهو خيار غير عملي لاحتياجات السودان.
مؤخرًا، أعلنت الشركة السودانية للكهرباء استئناف العمل بمحطة كلانايب بعد توقف دام خمس سنوات، بهدف إعادة تأهيلها لتعزيز استقرار الإمداد في شرق السودان. وأكد رئيس الوزراء الانتقالي كامل إدريس أهمية المشروع، فيما أوضح المدير العام لشركة الكهرباء عبد الله أحمد محمد علي أن 90% من المعينات الفنية واللوجستية قد توفرت بالفعل.
ورغم محاولاتنا المتكررة للتواصل مع إدارة الإعلام في قطاع الكهرباء، لم نتلقَّ أي رد من المسؤولين. وحتى بعد أن وجّهنا مسؤول الإعلام بوزارة النفط للتواصل مع إعلام الكهرباء، واستمر تواصلنا معه، ظلّ مسؤول إعلام الكهرباء متجاهلًا استفساراتنا ولم يرد على أي من رسائلنا.
رغم فساد العقود، والمعدات المفقودة، والبنية الضعيفة، يعود المشروعان للواجهة، مع إعلان استئناف العمل في محطة كلانايب بعد توقف دام خمس سنوات.
غير أن عودة المشروع لا تمحو أثر الطريق الذي سلكه. فالعقبات التي أوقفت عجلة التنفيذ في المرة الأولى ما زالت قائمة. استئناف العمل، في ظل هذه البيئة نفسها، ومن دون خطة تعالج جوهر الإخفاقات، ينذر بإعادة إنتاج الحلقة ذاتها من الهدر والخيبة. وبينما تراقب المدن السودانية عودة المشروع بقلق وشيء من الأمل، يظل السؤال معلقًا: هل سيكون هذا الاستئناف بداية لنهاية الظلام، أم مجرد استراحة قصيرة قبل أن يبتلع الفشل الحلم مرة أخرى؟.
دبنقا