منذ بداية الحرب في السودان وما تبعها من موجات نزوح، تحوّلت دولة جنوب السودان إلى واحدة من الوجهات المفضّلة للهاربين من ويلات الاقتتال، فأُنشئت مخيمات لإيواء اللاجئين الذين يشكون اليوم من تردّي أوضاعهم وسط نقص المساعدات.
وسط الأزمة الإنسانية غير المسبوقة التي توصَف بأنّها “بلا حدود” والتي تسبّبت فيها الحرب في السودان منذ نحو عامَين ونصف عام، لجأ كثيرون إلى دولة جنوب السودان المجاورة. ويقاسي مئات آلاف اللاجئين السودانيين الأمرَّين في أربعة مخيمات بدولة جنوب السودان وسط ظروف إنسانية بالغة السوء، بعد توقّف تقديم المساعدات العينية لهم من قبل المنظمات الدولية منذ مطلع العام الجاري، الأمر الذي دفع سودانيين من الأطفال والنساء إلى تسوّل طعامهم في المدن والبلدات المجاورة للمخيمات التي تؤويهم.
ويتوزّع اللاجئون السودانيون الهاربون من الحرب، القائمة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف إبريل/ نيسان 2023، في مخيم المابان بولاية أعالي النيل (شمال شرق) ومخيم جامجانق بولاية الوحدة (شمال) ومخيم قودويل بمدينة أويل عاصمة ولاية شمال بحر الغزال (شمال غرب) ومخيم قوروم القريب من العاصمة جوبا، علماً أنّ تلك المخيمات تفتقر إلى الخدمات والمرافق الضرورية من قبيل المدارس والمستشفيات ومحطات المياه.
وعلى خلفيّة سوء الأوضاع المعيشية وغلاء الأسعار، يفكّر لاجئون سودانيون في العودة إلى بلادهم على الرغم من استمرار العمليات العسكرية في مناطقهم، لكنّ نفاد مدّخراتهم والمخاطر التي تتهدّدهم على طرقات العودة تجبرهم على البقاء في مخيمات دولة جنوب السودان، وإن افتقرت إلى أبسط مقوّمات الحياة الكريمة التي تحفظ الحقوق الإنسانية.
تفيد مصادر محلية في دولة جنوب السودان “العربي الجديد” بأنّ عدد اللاجئين السودانيين في البلاد يُقدَّر بـ390 ألفاً و469 لاجئاً، معظمهم من النساء والأطفال، وهم يتوزّعون بين المخيمات والمدن والبلدات الصغيرة. يُذكر أنّ حكومة جوبا سمحت للسودانيين بعبور البلاد إلى دول أخرى، مثل أوغندا، من دون اشتراط توفير أوراق ثبوتية، علماً أنّ اللاجئين السودانيين في دولة جنوب السودان يأتون خصوصاً من إقليم دارفور (غرب) وإقليم كردفان (وسط) اللذَين ما زالا مسرحاً للعمليات العسكرية اليومية.
يقول اللاجئ السوداني الصادق حامد، من مدينة بارا بإقليم كردفان، المقيم في مخيم قوروم اليوم، لـ”العربي الجديد” إنّ “اللاجئين السودانيين في المخيمات هنا يتحدّرون من مناطق تشهد معارك مستمرّة، لذلك لا يستطيعون العودة إليها مهما صعبت الأوضاع المعيشية في مخيمات دولة جنوب السودان”. يضيف أنّ “الوضع في المخيمات هنا لا يُطاق، وسُبل الحياة الكريمة تكاد تكون معدومة، لكن لا خيارات بديلة”. ويؤكد حامد أنّ “الحال هنا سيّئة، لكنّ الواقع في السودان وسط الحرب أسوأ”، مبيّناً أنّه “كلّما جرت معركة بين الطرفَين (الجيش السوداني وقوات الدعم السريع) في كردفان أو دارفور، نستعدّ في مخيمات دولة جنوب السودان لاستقبال لاجئين جدد يهربون من الحرب. بالتالي فإنّ اللجوء لن يتوقّف إلا في حال توقّف العمليات العسكرية”.
ويتحدّث حامد عن “مخاطر كثيرة تتهدّدنا، سواء على الطرقات في دولة جنوب السودان، أو عند الحدود غير الآمنة بين البلدَين، إن قرّرنا العودة إلى المناطق غير الآمنة في السودان. ثمّة مجموعات مسلّحة تعتدي على اللاجئين الراغبين في العودة، والجهات الأممية غير قادرة على توفير المساعدات في المخيمات ولا على ترحيل اللاجئين إلى بلدانهم، بسبب عدم توفّر التمويل”.
وقبل ثلاثة أشهر، توقّفت إمدادات الغذاء القليلة التي كانت تصل إلى اللاجئين السودانين في مخيمات دولة جنوب السودان، الأمر الذي أدّى إلى تفاقم معاناتهم. ويقول اللاجئ السوداني صابر آدم من مخيم قودويل لـ”العربي الجديد”: “كنّا نحصل على وجبتَين في اليوم، تتألفان من أرزّ وعدس، لكنّ ذلك توقّف. ثمّ صرنا نحصل على ثلاث ملوات من الذرة (نحو ستّة كيلوغرامات) وكيلوغرام واحد من العدس، قبل أن تتناقص الكميّة، على قلّتها، إلى ملوة واحدة من الذرة، علماً أنّها لا تكفي لسدّ جوع اللاجئ لخمسة أيام. وبعد ذلك، يبدأ اللاجئ التضوّر جوعاً حتى مطلع شهر جديد”. يضيف أنّ ذلك “حوّل آلاف الأطفال والنساء إلى متسوّلين في المناطق القريبة من المخيمات، في وقت يعاني فيه السكان المحليون في دولة جنوب السودان بأنفسهم من ضائقة مالية كبيرة نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي عموماً في البلاد”.
ويؤكد آدم أنّ “الحال في تدهور يومي ومعاناة اللاجئين تتفاقم باستمرار، لكن ما من سبيل أمامنا سوى مزيد من الصبر. فلا فرص عمل متوفّرة حتى لأهل دولة جنوب السودان، ولا نستطيع العودة إلى السودان، لأنّ مناطقنا ما زالت تُعَدّ خطّ مواجهة عسكرية بين الطرفَين (المتقاتلَين)”. ويتابع آدم: “إذا عدنا سنُقتَل، وإذا استمرّت حالنا على ما هي عليه هنا قد نموت جوعاً أو من الملاريا المتفشية في المخيمات”، لافتاً إلى أنّ “حالياً، مع فصل الخريف، تتزايد الملاريا والأمراض الأخرى، ولا سيّما تلك المرتبطة بالجوع، باستمرار”.
من جهتها، تؤكد اللاجئة السودانية هدى هارون في مخيم المابان لـ”العربي الجديد” أنّ “ما من طعام متوفّر في المخيم، وثمّة أسر بأكملها تتضوّر جوعاً، ما يجعل حالنا تسوء يومياً. فالمنظمات لا تقدّم لنا أيّ مساعدة، وتشير إلى أنّ ميزانياتها نفدت ولم تحصل على تمويل جديد، فيما نحن لا نملك أي مدّخرات؛ بعضنا جاء من السودان سيراً على الأقدام، كذلك استخدمنا الدواب لأنّ وسائل النقل شبه معدومة في السودان”. تضيف هارون: “عانينا حتى وصلنا إلى دولة جنوب السودان، واليوم لا يُوفَّر لنا الطعام ولا الشراب ولا نجد فرص عمل. من جهتهم، أطفالنا انقطعوا عن التعلّم لأن لا مدارس مناسبة في المخيمات. ونحن غير قادرين على العودة إلى السودان، حتى لو فكّرنا في ذلك… العودة تحتاج إلى المال”.
وفي إطار الشكاوى المتزايدة، تقول اللاجئة السودانية إكرام إبراهيم في مخيم جامجانق لـ”العربي الجديد” إنّ “الطعام يكاد يكون معدوماً، وكذلك الخدمات الأخرى مثل مياه الشرب المأمونة والتعليم والصحة”. تضيف إكرام، التي كانت قد نزحت في وقت سابق من الحرب إلى مخيم زمزم بمدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور (جنوب غرب)، أنّ “الدعم الذي كان يُقدَّم للاجئين، على قلّته، توقّف. كنّا نحصل على قليل من الذرة والعدس والزيت والملح، من فترة إلى أخرى، لكنّ كلّ ذلك توقّف بسبب نقص التمويل الدولي المقدّم للاجئين. وفي الوقت الراهن، لم نعد نجد ما نأكله، وثمّة حالات سوء تغذية كثيرة بين النساء والأطفال في المخيمات”.
ووسط الأمطار المتساقطة وما تبعها من نموّ حشائش وأشجار، راح البعوض ينتشر في مناطق واسعة من دولة جنوب السودان، وقد تحوّلت المخيمات إلى مستنقعات، فتزايد البعوض، الأمر الذي فاقم معاناة اللاجئين السودانيين فيها. ويلفت اللاجئ السوداني عبد المجيد أحمد في مخيم قوروم لـ”العربي الجديد” إلى أنّ “اللاجئين يعانون بصمت في المخيمات التي تملأها الحشائش وتحيط بها الغابات وتغرقها مياه الأمطار التي لا تهدأ والتي حوّلتها إلى مستنقعات”.
ويصف أحمد الوضع بـ”المتردّي جداً”، قائلاً إنّ “دولة جنوب السودان تمرّ، في الوقت الراهن، في ظروف اقتصادية متأزمة لأنّها تعتمد كلياً على تصدير النفط الذي توقّف منذ بدء الحرب. وبينما يُعَدّ وضع سكانها المحليين سيّئاً جداً، من المؤكد أن يكون وضعنا نحن اللاجئين أسوأ من أهل البلاد، خصوصاً بعد توقّف الإعانات التي كانت تُوزَّع علينا”. يضيف أحمد أنّ “الإعانات كانت قليلة جداً، وتكاد تكون رمزية، لكنّ توقّفها ضاعف مصاعب حياة اللاجئين. وحالياً، ثمّة أسر لا تستطيع تناول وجبة طعام واحدة في اليوم”، محذّراً من “كوارث تطاول اللاجئين السودانيين في دولة جنوب السودان إذا استمرّ الوضع على حاله”.
ويدفع تردّي الوضع في مخيمات اللاجئين السودانيين بدولة جنوب السودان كثيرين إلى الخروج منها، من بينهم اللاجئة السودانية مهلة طارق التي غادرت مخيم قوروم وتوجّهت إلى العاصمة جوبا. تقول طارق لـ”العربي الجديد” إنّ “النساء أكثر من يعاني في المخيمات، ولا سيّما أنّهنّ يفتقرنَ إلى الخصوصية. كذلك لا تتوفّر في المخيمات احتياجاتهنّ الشخصية، ولا مستشفيات جيّدة ولا طعام ولا مياه مأمونة للشرب”. وتشير إلى أنّ “معاناة النساء تتضاعف، وخصوصاً بين الحوامل، فيما لا يتوفّر حليب للأطفال الصغار، ولا غذاء مناسباً لسواهم بحسب ما تستلزمه أعمارهم، بالإضافة إلى الانقطاع عن المدرسة”.
وتتابع طارق: “لا نعلم لماذا العالم يتجاهلوننا بهذه الطريقة، والكلّ يدرك سوء الأوضاع المعيشية في دولة جنوب السودان التي كانت تعتمد في اقتصادها على النفط، الذي أدّت الحرب إلى توقّف إنتاجه”. وتشدّد قائلة: “نريد توفير بيئة تليق بإنسانيتنا، ونريد أن تُقدَّم لنا مواد غذائية وأن يذهب أطفالنا إلى المدارس لأنّ مستقبلهم على المحكّ. لا يمكن لآلاف الأطفال أن يفقدوا فرصة التعلّم لسنوات، فيما نحن لا نعرف متى تنتهي هذه المأساة”.
وإلى جانب المخيمات الرسمية التي تؤوي اللاجئين السودانيين في دولة جنوب السودان، ما زال عشرات من الهاربين من حرب السودان عالقين في البلدات الحدودية مثل منطقة أبيي في انتظار نقلهم إلى المخيمات. ويقول اللاجئ السوداني جبريل عبد الله، وهو أب لستّة أطفال هرب من النهود في إقليم كردفان، لـ”العربي الجديد”: “كنت أريد الوصول إلى أحد مخيمات اللاجئين حتى أحصل على الخدمات المقدّمة لهم، لكنّ توقّف الدعم جعلني أفضّل البقاء هنا، على أمل أن تتوقّف الحرب قريباً وأعود إلى بيتي”. يضيف عبد الله: “قالوا لنا إنّ المعونات النقدية والغذائية توقّفت في المخيمات، والوضع المعيشي فيها سيّئ لدرجة أنّ اللاجئين لا يجدون ما يأكلونه، في غياب فرص العمل. ولذلك يبدو البقاء في أبيي مناسباً أكثر، على الرغم من أنّ مياه الأمطار تحاصرنا من كلّ جانب ونعاني من البعوض الذي يهدّد بنشر الملاريا”.