“تاني” رحل عنَّا إنسانٌ جميلٌ
إنسانٌ كان يألفُ ويؤلف
كان في وجوده يطيب الجلوس
مهذب معاهو يكون الكلام
أَيُّها المَوتُ الَّذي لَيسَ بتارِكٍ ، فَقَد أَفنَيتَ كُلَّ خَليلٍ أَراكَ مُضِراً بِالَّذينَ أَحبُّهُم كَأَنَّكَ تَنحو نَحوَهُم بدَليلِ
قال الله تعالى:
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ صدق الله العظيم
وقال رسول الله ﷺ:
“إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء …”
رواه البخاري
بمآقٍ تمطر دمعاً هتوناً ، وبقلوب يعتصرها الحزن، ورضاءً بقضاء الله وقدره، أكتب عن رحيل الإنسان والأستاذ والمربّي والمترجم الجليل فخر الدين عبد القادر بابكر، أحد أبرز رموز المعرفة والترجمة في السودان، وعلماً من أعلام الأدب السوداني في ثوبيه العربي والإنجليزي، الذي وافته المنيّة الأسبوع الماضي في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، بعد رحلة طويلة من العطاء والكسب المخلص والخدمة المتفانية في ميادين التعليم والثقافة والترجمة.
وُلِد الفقيد – رحمه الله رحمة واسعة – في منطقة منحنى النيل بقرية الأراك – ريفي مروي – الولاية الشمالية، وترعرع في بيئةٍ مشبعةٍ بالقيم السودانية الأصيلة، حيث غرس فيه النيل وقارَه، وأرضعه الريف سماحته ، وصقل التعليم العام ميسمه ، فتخرّج في كلية الآداب – جامعة الخرطوم، تلك الجامعة التي تشكّلت فيها ملامح مشروعه الفكري والثقافي، وبزغ نجمُه في اللغة والآداب والترجمة.
لقد عرفه كل من خالطه بالهدوء البليغ، والصمت المُذهَّب ، والهيبة العفوية، والتواضع النبيل ، وفرط حسن الخُلق ، فكان وقاره مشعّاً، وصمته فصيحاً، وقلبه رحيماً، وأخلاقه لا تُجارى.
بدأ مسيرته المهنية في التعليم الثانوي العالي بالسودان ، حيث درَّس اللغة الإنجليزية في مدارس سودانية مرموقة من بينها مدرسة خورطقت الثانوية، وأسهم في تأسيس وتكوين أجيال من الطلاب الذين لا يزالون يذكرون فضله حتى اليوم. ثم انتقل إلى العمل في الحقل المهني الدولي، حيث التحق بالخطوط الجوية العربية السعودية مترجماً معتمداً لأكثر من ثلاثين عاماً، ظل خلالها نموذجاً للكفاءة والالتزام والاحتراف ، والمهنية.
تميّز الأستاذ فخر الدين بإحاطة دقيقة وشاملة بالأدب السوداني، شعراً ونثراً، أمثالاً وأقوالاً، وكان يرى في هذا التراث ثروةً تستحق أن تُنقل للعالم بلغة يفهمها ويُقدِّرها ، فلم يصب جهده فحسب ، بل روحه الشفيفة أيضاً في ترجمات رفيعة المستوى ، في المجالات المذكورة أعلاه ، من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية، عكست ذائقته الأدبية، وعمق تكوينه الثقافي، ونبل رسالته ، فلم يكن مجرد ناقلٍ للكلمات، بل كان جسراً حقيقياً بين الثقافات، ينقل جوهر اللغة وروح المعنى ، وكان يتوج عطاءه المضيء هذا ، بترجمته للأحاديث النبوية الشريفة، حيث جمع في ترجمتها بين دقة اللغة، وجمال البيان، وصفاء الروح.
فخر الدين لم يكن مترجماً فحسب، بل كان داعية للإسلام بالحكمة والقدوة الحسنة، محبباً جوهر الدين إلى قلوب غير المسلمين ممن جاوروه وعملوا معه، من خلال سلوكه الحسن وترجماته الدينية العديدة، وقد شهدوا له بالخُلق الرفيع والعلم الرصين، وأحسبُ أن بعضهم قد مال للدين الإسلامي.
وقديماً قيل: “لكل إنسان من اسمه نصيب” ، ولفخر الدين كان نصيب الأسد ، فقد كان حقاً فخراً للدين وللقيم ولأهله، وبرحيله قد خسرنا معلّماً كان يتميز بصمت نبيل، ومربّياً ذا وقار مهيب، ومترجماً بحجم وطنٍ، وإنساناً في زمنٍ قلّ فيه جوهر الإنسانية ، فبكاه من عرفوه من أبناء وطنه، وذرف الدمع عليه من خالطوه من شعوب أخرى، تقديراً لما حمل من علم، وما جسَّد من قيمٍ، وما خلَّف من إرثٍ ناصعٍ.
أتدري يا فخر الدين ، وانت في برزخك ، كيف فُجِع أهلك وأصدقاؤك برحيلك المُر وهم بين تاركٍ لمسكنه ومتغربٍ بسبب الحرب اللعينة؟
إن الألسن بعدك ألجمتها ولازالت تلجمها المصيبة ، فالموت كلمة مكوّنة من ثلاثة أحرفٍ فقط ، سهلة النطق لكنها تهزّ القلوب الحية وتقضّ المضاجع ، فليبكْ جميعكم مع جميعكم
يقول الشاعر (اقتباس بتصرف):
الليلة أبكِن ياعيون … كتِّر وحيحك ياقلب
وينو الزمان يهدي السرور … من غير وداع راح محتجب
***
ليه يا فخر راحل دون وداع … ما قُتْ من دنياك تِعِب
أمْ القدر جبرك تسيب … ناساً ليها ياما كُتْ تحِب
في الحسرة والأسى والهموم … والعبرة والدمع البِكِب
***
غشاشة .. يا دار الزوال … كل النعيم الفيك كِضِب
كل ما تجودي الناس بخير … يلقوه .. شرِّك مِتقلِب
يادنيا ليه بتشيلي فخر … يادنيا حار جرح القلب
ما هسّ كان بيناتنا نور … واليوم دريبو علينا صعب
***
مابيرحم الموت يا اخي زول … دايماً .. مسلَّط للسَّلِب
اتَّام عيال .. خرَّاب ديار … بكاي عيوناً تنتحب
هو القدر .. هو الأجل … هو المسطّر مُتكتِب
رغم العلوم إتقدمتْ … ياموت دواك ما عرفو طِب
***
يا فخر الدين روحت ما خليت غير … ذكرى المحبين للمحِب
ذكراك مقدسة في قلوب … مليتا حنية القلب
ذكراك رسمتها في الخيال … بين النجوم في ليلاً ضِهِب
***
إلهي فخر الدين عندك غريب … أغفرْلُو كل زلة وذنِب
وارسل سحاب الرحمة يوت … فوق قبرو يتزاحم يكِب
وأقبل دعاي قول لي فخر الدين .. في الجنة لا شِقا لا تِعِب
قال الشاعر:
(حَلَفَ الزمانُ أنْ يأتيَ بمِثْلِكَ “يا فَخْرَ الدين”، حَنِثَتْ يَمينُك يا زمانُ فَكَفِّرِ)
نسأل الله تعالى أن يتغمّده بواسع رحمته، وأن يجعل الفردوس الأعلى مستقره ومثواه، وأن يُلهم زوجته الكريمة، وبناته، وأولاده، وأحفاده، وأخوانه وأخواته وكافة أفراد أسرته الممتدة، وأصدقاءه الصبر والسلوان.
وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
يس محمد يس
مونتري – كاليفورنيا
٢٦ أغسطس ٢٠٢٥م