آخر الأخبار

لجان الاستنفار: الدولة الموازية التي تبتلع الحكم المحلي

شارك

محمد أحمد شبشة

في الخرطوم، حيث تتآكل مؤسسات الدولة تحت وطأة الحرب والدمار، اتخذت الحكومة خطوة أثارت الكثير من التساؤلات حين أعلنت تفويض لجان الاستنفار والمقاومة الشعبية لتولي مهام الأمن والخدمات داخل الأحياء، واعتبارها “حكومة مصغرة” موازية للسلطة الرسمية. قد يبدو القرار مجرد إجراء تنظيمي في زمن استثنائي، لكنه في جوهره يعكس تحوّلاً عميقاً في بنية الحكم، بل ويفتح الباب أمام مقارنة مباشرة مع تجارب سلطوية عرفها التاريخ الحديث في أشد فصوله قتامة.
ففي تفاصيل القرار، تُمنح هذه اللجان صلاحيات واسعة: من حفظ الأمن وبسط هيبة الدولة، إلى الإشراف على التوزيع الغذائي عبر التكايا، بل وإصدار شهادات الوفاة وتنظيم الأسواق وصيانة المدارس. أي أنها تتحول عملياً إلى جهاز بديل لمؤسسات الحكم المحلي، لكنها مشبعة بروح عسكرية – أمنية واضحة. هذه الصورة ليست جديدة على التاريخ؛ فهي تذكّر بما فعله هتلر حين أسس منظمات مثل “شبيبة هتلر” لتكون أداة للتعبئة والانضباط، أو بما فعله موسوليني حين جعل اللجان الفاشية فوق مؤسسات الدولة التقليدية. في كلتا التجربتين، أُنشئت أجهزة موازية، تؤدي أدواراً خدمية واجتماعية لكنها في حقيقتها أدوات للسيطرة والولاء.
ما يجعل المشهد السوداني أكثر غرابة أن هذا كله يحدث بينما ما تزال هناك حكومة مركزية وولايات ومحليات ومجالس حكم محلي قائمة، على الأقل شكلياً. هذه البنية الإدارية كان يُفترض أن تدير شؤون المواطنين، لكنها أُزيحت جانباً لصالح هياكل مستحدثة ذات طابع تعبوي. النتيجة هي ازدواجية مراكز القرار، واضطراب في المرجعيات: المواطن لا يعرف هل يلجأ إلى موظف الدولة الرسمي أم إلى رئيس لجنة الاستنفار في الحي. الأخطر أن المؤسسات المدنية القائمة تُضعف من الداخل، إذ تتحول إلى هياكل شكلية بينما يمسك بزمام السلطة الفعلية أشخاص لم يأتوا عبر تفويض قانوني أو انتخاب شعبي بل عبر ولائهم الأمني والعسكري.
في الواقع، يمكن النظر إلى هذه الخطوة على أنها المسمار الأخير في نعش الحكم الشعبي المدني. فالحكم المحلي في السودان كان يفترض أن يكون مساحة للمشاركة الشعبية، أو على الأقل نافذة للتمثيل المجتمعي في إدارة الشأن اليومي. لكن ما يحدث الآن هو عكس ذلك تماماً: تذويب كامل للمدني في العسكري، وشرعنة لعسكرة الحياة اليومية، بحيث لم تعد هناك حدود فاصلة بين الأمن والخدمات ولا بين الحرب والمجتمع. كل شيء صار جزءاً من معركة الكرامة: من التعليم إلى توزيع الخبز. المشاركة الشعبية نفسها لم تعد قائمة على الانتخاب أو التداول، وإنما على التعبئة والاستنفار.
قد يرى البعض أن هذه التدابير اضطرارية فرضتها ظروف الخراب والحرب الدائرة، لكن التجارب التاريخية تقول شيئاً مختلفاً. كلما سمحت الدول لنفسها بخلق هياكل موازية ذات طابع أمني–ميليشياوي، كلما ضعفت مؤسساتها المدنية الرسمية وانكمشت، حتى بات من العسير إعادتها للحياة. هذا ما حدث في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، وهذا ما فعله القذافي حين ابتدع لجانه الثورية في ليبيا. واليوم يبدو أن السودان يسير في الاتجاه ذاته، ولو بصيغة محلية تحمل اسم “لجان الاستنفار”.

الخطر الحقيقي أن هذه اللجان قد تترسخ بمرور الوقت وتصبح قوة قائمة بذاتها، تفرض سطوتها في الأحياء وتتحول إلى سلطة فعلية تفوق سلطة المجالس المحلية والمحافظات. عندها لن يكون الأمر مجرد ازدواجية، بل انقسام كامل بين الدولة الرسمية والدولة الموازية. وما بينهما سيضيع المواطن الذي يبحث عن خدمة أو حق بسيط، فلا يجد سوى لجنة تعبئة تخاطبه بلسان الحرب لا بلسان الدولة المدنية.
إن ما يجري في الخرطوم اليوم لا يمكن قراءته باعتباره مجرد خطوة تنظيمية في ظرف استثنائي. هو في حقيقته علامة على انهيار مظاهر الحكم الشعبي غير العسكري، وانزلاق المجتمع أكثر نحو عسكرة شاملة، حيث لا يُترك للمدني سوى دور المتفرج أو المعبأ، بينما تتولى أجهزة موازية إعادة تشكيل الحياة اليومية بأكملها في صورة معسكر مفتوح. وإذا كان التاريخ يعلمنا شيئاً، فهو أن هذه التحولات لا تنتهي بسهولة، وأن العودة منها إلى مسار مدني ديمقراطي ستكون أكثر صعوبة كلما طال عمرها.

أفق جديد

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا