آخر الأخبار

قرارات البرهان

شارك

أصدر القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، خلال اليومين الماضيين، سلسلة قرارات أعادت ترتيب بعض ملامح المشهد العسكري في السودان. شملت هذه القرارات تعديلات محدودة في هيئة القيادة، إلى جانب إحالة خمسة ضباط من رتبة الفريق، وثلاثة وعشرين من رتبة اللواء، وثمانية وخمسين من رتبة العميد إلى التقاعد. كما أصدر البرهان قراراً موازياً يقضي بإخضاع ما أسماه “القوات المساندة” لقانون القوات المسلحة.

هذه القرارات، في ظاهرها، يمكن أن تُقرأ كخطوة إصلاحية تهدف إلى تعزيز الانضباط داخل المؤسسة العسكرية، خاصة في ظل اشتداد المعارك في عدد من الولايات. لكنها في العمق أثارت جدلاً واسعاً، ليس فقط لأنها تزامنت مع لقاء البرهان في جنيف بمستشار الرئيس الأمريكي لشؤون أفريقيا، مسعد بوليس، يوم الاثنين الماضي، وإنما أيضاً بسبب طبيعة الأسماء الواردة في كشوفات الإحالة، وما ارتبط بها من سجالات تاريخية وسياسية.

فالعديد من الأسماء التي شملتها الإحالات لم تكن تخفي انتماءها للحركة الإسلامية، رغم أن قانون القوات المسلحة يحظر أي نشاط سياسي أو انتماء حزبي على الضباط. إلى جانب ذلك، ضمت القائمة ضباطاً ارتبطت أسماؤهم بملفات بالغة الحساسية، مثل مجزرة الثالث من يونيو 2019 أمام بوابات القيادة العامة للقوات المسلحة، التي مثّلت واحدة من أكثر اللحظات مأساوية في ذاكرة الثورة السودانية. كما ضمت أسماءً متهمة بالتورط في إشعال الحرب الراهنة، ومن بينهم اللواء عباس الداروتي.

لهذا السبب جاءت ردود الفعل متباينة. هناك قطاعات واسعة من السودانيين رأت في القرارات نوعاً من الاستجابة لمطلب إصلاح الجيش وتطهيره من العناصر المسيسة، أو المتورطة في جرائم، وهو ما منحها قدراً من الارتياح. لكن في الوقت نفسه ساد شعور بالحذر والريبة، إذ يدرك كثيرون أن إصلاح المؤسسة العسكرية لا يمكن أن يتحقق بمجرد قرارات إحالة وترقيات. فالجيش السوداني، الذي تراكمت داخله التشوهات لعقود بفعل التسييس والانقلابات والحروب، يحتاج إلى مشروع متكامل طويل الأمد يعالج بنيته وعقيدته وطرق إدارته وعلاقته بالمجتمع والدولة.

الأمر الأكثر حساسية يتصل بما وصفه البرهان بـ”القوات المساندة”. هذه التشكيلات لا تشكل جسماً واحداً يمكن إخضاعه بقرار، وإنما هي منظومة متشعبة ومتشابكة المصالح والولاءات. فهناك كتائب الحركة الإسلامية مثل “البراء” وأخواتها، وهي تشكيلات عقائدية بالأساس، تدين بالولاء لقيادات تنظيمية، وليست مؤسسات دولة. قوتها تكمن في أنها شبكة ممتدة، تضم ضباطاً في الجيش والشرطة والمخابرات، وقد جرى تصميمها منذ البداية لتكون فوق القانون. ومن ثم فإن إخضاعها لقانون القوات المسلحة يبدو نظرياً أكثر من كونه واقعياً، إذ إن التجربة السودانية أثبتت أن مثل هذه التشكيلات لا تعود إلى بيت الطاعة إلا بحلها وتجريم الانتماء إليها.

وفي جانب آخر، تبرز قوات مثل “القوات المشتركة” و”درع السودان”، وهما أيضاً تعبير عن واقع أكثر تعقيداً، حيث تتسم تركيبتهما بالفوضى التنظيمية والرتب العشوائية. مثل هذه القوات تكشف عمق المشكلة، إذ لم يعد التحدي مقتصراً على الأجسام العقائدية، بل امتد ليشمل قوى مسلحة ظهرت خارج السياق العسكري التقليدي، الأمر الذي يضاعف من تعقيدات الإصلاح ويجعل أول خطوة فيه هي إعادة تعريف الانضباط العسكري ذاته.

في ظل هذا المشهد، تبدو قرارات البرهان خطوة ذات مغزى، لكنها غير كافية لإحداث تحول حقيقي. فالجيش السوداني، وقد أنهكته الحروب والانقسامات والتسييس، يحتاج إلى أكثر من مجرد كشوفات إحالة. الإصلاح الحقيقي يتطلب إعادة بناء العقيدة القتالية على أسس وطنية جامعة، وإعادة تعريف العلاقة بين الجيش والدولة بحيث يكون الجيش حامياً للدستور والسيادة لا طرفاً في الصراع السياسي. كما يتطلب الأمر شجاعة سياسية لتجريم وجود المليشيات العقائدية والعشوائية، وإعادة بناء المنظومة الأمنية على قاعدة مهنية محضة.

الارتباط الزمني بين قرارات البرهان ولقائه بمستشار الرئيس الأمريكي يضيف بُعداً آخر للجدل. فالبعض قرأ في هذه القرارات محاولة للاستجابة إلى ضغوط دولية وإظهار جدية في مسار الإصلاح، بينما رآها آخرون مجرد تكتيك سياسي لا يمس جوهر الأزمة. وبين هذا وذاك يظل السؤال معلقاً: هل نحن أمام بداية إصلاح حقيقي للجيش السوداني، أم أمام خطوة شكلية تفتقر إلى الاستدامة والجرأة الكافية؟

المؤكد أن إصلاح المؤسسة العسكرية عملية معقدة تتطلب وقتاً وإرادة سياسية ومجتمعية متضافرة. والقرارات الأخيرة، مهما بلغت أهميتها، لن تكون سوى مدخل أولي ما لم تُستكمل بقرارات أشمل تضع حداً للفوضى المسلحة، وتعيد تعريف الجيش باعتباره مؤسسة وطنية فوق الانقسامات، وليست مجرد لاعب في صراع السلطة.

أفق جديد

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا