آخر الأخبار

الحركة الإسلامية السودانية: من الطليعة الأيديولوجية إلى الدولة العميقة وما بعدها

شارك

ملخص تنفيذي

يقدم هذا التقرير تحليلاً شاملاً لمسار الحركة الإسلامية في السودان، التي تُعد امتداداً فكرياً لجماعة الإخوان المسلمين في مصر. يتتبع التقرير نشأة الحركة منذ ثلاثينيات القرن العشرين، مروراً بتطورها الأيديولوجي والتنظيمي، وصولاً إلى هيمنتها على السلطة لمدة ثلاثة عقود عبر انقلاب عام 1989. يستعرض التقرير بالتفصيل كيف تحولت الحركة من تيار طلابي نخبوي إلى قوة سياسية واقتصادية هائلة تحت قيادة الدكتور حسن الترابي، الذي أرسى استراتيجية “التمكين” لاختراق مؤسسات الدولة والمجتمع. كما يحلل التقرير الانقسامات الداخلية العميقة التي عصفت بالحركة، وأبرزها “المفاصلة” الشهيرة عام 1999 بين الترابي والرئيس عمر البشير. وأخيراً، يقيّم التقرير وضع الحركة بعد ثورة ديسمبر 2019، ودورها في الصراع الحالي بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ويطرح سيناريوهات محتملة لمستقبلها في ظل المشهد السياسي السوداني المعقد.

الجزء الأول: التكوين والتشكل الأيديولوجي (1936-1964)

تستعرض هذه المرحلة السنوات التكوينية للحركة، التي أرست الأساس الجيني الذي سيؤثر على تاريخها بأكمله: مزيج من الأيديولوجيا المستوردة، والسياق المحلي، والتركيز المبكر على تنظيم الشباب المتعلم.

1.1 البذرة المصرية: الاتصالات المبكرة والانتقال الأيديولوجي

لم تبدأ علاقة السودان بفكر الإخوان المسلمين من خلال تنظيم رسمي، بل عبر قنوات فردية وشخصية. تمثّل أول اتصال موثق في لقاء الشيخ عبد الله حمد التاجر، وهو تاجر من أم درمان، بمؤسس الجماعة حسن البنا في القاهرة عام 1936. عاد التاجر إلى السودان متأثراً بالفكر الجديد، وتولى توزيع منشورات ومجلة الإخوان، ليكون بذلك أول ناقل غير رسمي للدعوة. يعكس هذا الأسلوب المبكر نهج “القوة الناعمة” الذي اعتمد على الأدب والشبكات الشخصية لنشر الأفكار.

أما الانتقال من التأثير السلبي إلى التنظيم الفعلي فيُنسب إلى جمال الدين السنهوري، وهو طالب سوداني تتلمذ على يد حسن البنا. عاد السنهوري إلى السودان في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي ليبدأ نشاطاً دعوئياً منظماً، خاصة في أوساط الطلاب والشباب المتعلم. كانت الأيديولوجيا الأساسية للحركة مستوردة بالكامل من جماعة الإخوان المسلمين في مصر، التي تأسست عام 1928. تبنت الحركة الوليدة فهماً شاملاً للإسلام كحل لجميع جوانب الحياة، وسعت إلى إقامة مجتمع تحكمه الشريعة الإسلامية.

1.2 طليعة الطلاب: حركة التحرير الإسلامي والصراع ضد الشيوعية

وجدت الحركة الإسلامية أرضها الأكثر خصوبة في الجامعات والمدارس الثانوية، حيث برزت في الأربعينيات كرد فعل مباشر على النفوذ المتزايد للحزب الشيوعي السوداني في أوساط الشباب المتعلم. وهكذا، تشكلت هويتها الأولية كحركة معارضة تتمحور حول معركة فكرية لكسب عقول النخبة المستقبلية في البلاد.

في عام 1949، تأسست منظمة رائدة عُرفت باسم “حركة التحرير الإسلامي” في كلية غوردون التذكارية (لاحقاً جامعة الخرطوم). ورغم توافقها الأيديولوجي مع جماعة الإخوان في مصر، إلا أنها حافظت في البداية على مسافة تنظيمية، مما يعكس توتراً مبكراً بين هويتها السودانية ومرجعيتها الفكرية الخارجية.

إن الهوية التأسيسية للحركة الإسلامية السودانية قد صيغت في بوتقة من الأيديولوجيات المتنافسة (الإسلاموية مقابل الشيوعية) والولاءات المتضاربة (القومية السودانية مقابل الانتماء الأممي الإسلامي). هذه الازدواجية المتأصلة ليست عيباً، بل هي سمة أساسية تفسر مرونتها الاستراتيجية اللاحقة وميلها إلى الانقسام الداخلي. لقد ولدت الحركة من ضغطين متميزين: “الجذب” لأيديولوجية خارجية قادمة من مصر و”الدفع” لمواجهة تهديد محلي من الشيوعية.

1.3 مؤتمر 1954: تبني الاسم والانشقاق الأول

عُقد مؤتمر محوري في عام 1954 بهدف توحيد مختلف الجماعات الإسلامية الطلابية والاجتماعية تحت راية واحدة. صوّت المؤتمر على تبني اسم “الإخوان المسلمون” رسمياً، مما ربط الحركة السودانية بشكل مباشر بإرث حسن البنا.

أدى هذا القرار على الفور إلى أول انشقاق كبير في تاريخ الحركة. رفض فصيل بقيادة بابكر كرار الاسم وما اعتبره تبعية للتنظيم المصري، واختار تشكيل “الحزب الاشتراكي الإسلامي”. أسس هذا الحدث نمطاً من الصراع الداخلي حول الاستراتيجية والهوية والقيادة، والذي سيظل السمة المميزة للحركة لعقود قادمة. كان هذا الانقسام نتيجة مباشرة للتوتر التأسيسي، حيث أعطى أحد الفصيلين الأولوية للعلامة التجارية الأممية (“الإخوان المسلمون”)، بينما فضّل الآخر هوية وطنية توفيقية (“الحزب الاشتراكي الإسلامي”). يكشف هذا عن أن الحركة، منذ نشأتها، كانت تتصارع مع سؤال جوهري: هل هي فرع محلي لحركة عالمية أم حركة وطنية ذات طابع إسلامي؟ هذا التوتر الذي لم يُحل هو المحرك الأساسي لتاريخها اللاحق من الانشقاقات.

الجزء الثاني: عصر الترابي: الجبهات السياسية والتحالفات الاستراتيجية (1964-1989)

يحلل هذا القسم صعود حسن الترابي، الذي حوّل الحركة من مجموعة هامشية نسبياً إلى قوة سياسية هائلة من خلال الابتكار الأيديولوجي، والبراغماتية الاستراتيجية، والاستخدام المتقن للجبهات السياسية والتحالفات.

2.1 صعود قائد جديد واستراتيجية جديدة: جبهة الميثاق الإسلامي

أصبح حسن الترابي، المحامي خريج جامعة السوربون، أميناً عاماً للحركة في عام 1964، وهو ما شكّل تحولاً حاسماً نحو الانخراط السياسي المباشر. فور توليه القيادة، أسس “جبهة الميثاق الإسلامي”، وهي تحالف سياسي واسع ضم الإخوان المسلمين والسلفيين والطريقة التيجانية الصوفية. كان الهدف الأساسي للجبهة هو إقرار دستور إسلامي للبلاد. سمحت استراتيجية الجبهة العريضة للحركة بأن تتجاوز حجمها الحقيقي، وتجذب الحلفاء، وتقدم وجهاً أكثر شمولية للجمهور.

لم تكن قيادة الترابي خالية من الجدل. فقد أثار انتخابه أميناً عاماً في عام 1969 انشقاقاً آخر، حيث رفض فصيل أكثر تقليدية، يضم شخصيات مثل محمد صالح عمر وعلي جاويش، نهجه التحديثي والسياسي الصريح. تم قمع هذا الصراع مؤقتاً بسبب انقلاب جعفر النميري في عام 1969.

2.2 البراغماتية في السلطة: “المصالحة الوطنية” مع النميري

بعد سنوات من المعارضة والسجن في ظل نظام جعفر النميري اليساري، هندس الترابي ما يمكن اعتباره تحفة استراتيجية: “المصالحة الوطنية” عام 1977. انضم الإسلاميون إلى حكومة النميري، وأصبح الترابي في نهاية المطاف نائباً عاماً في عام 1979.

كان هذا التحالف نقطة تحول. فبينما سعى النميري لاستخدام الإسلاميين لتعزيز شرعيته ومواجهة حلفائه اليساريين السابقين، استخدم الإسلاميون جهاز الدولة لبناء قاعدة سلطتهم الخاصة. بلغت ذروة نفوذ الترابي بإعلان النميري “قوانين سبتمبر” عام 1983، التي فرضت نسخة متشددة من الشريعة الإسلامية في جميع أنحاء البلاد.

2.3 بناء القاعدة: التمكين الاقتصادي واختراق المؤسسات

كانت حقبة النميري فترة حضانة استراتيجية للحركة. ركزت الحركة على بناء قاعدة اقتصادية هائلة، مستقلة إلى حد كبير عن الدولة. احتكرت قطاع المصارف الإسلامية الناشئ (بنك فيصل الإسلامي، بنك البركة) والأسواق غير الرسمية لتحويلات العاملين السودانيين في الخليج.

كانت هذه القوة المالية تحويلية. فقد سمحت لهم بتقديم المحسوبية، وتمويل الخدمات الاجتماعية، وتقديم حوافز مالية لتجنيد أعضاء جدد من الطبقة الوسطى الحضرية، والطلاب، وبشكل حاسم، ضباط الجيش من الرتب المتوسطة. كان هذا التمكين الاقتصادي هو الأساس لهيمنتهم السياسية اللاحقة.

2.4 الجبهة الإسلامية القومية: توحيد القوة للدفع النهائي

بعد الإطاحة بالنميري في عام 1985، أعاد الترابي تسمية الحركة لتصبح “الجبهة الإسلامية القومية”. كانت الجبهة آلة سياسية متطورة ورثت الانضباط التنظيمي للإخوان والقوة المالية التي بنيت خلال سنوات النميري. شاركت الجبهة في انتخابات عام 1986، وحلت في المرتبة الثالثة لكنها أثبتت نفسها كلاعب سياسي رئيسي. اخترقت بشكل منهجي مؤسسات الدولة والجيش ومنظمات المجتمع المدني، بينما أنشأت أيضاً منظماتها الموازية للشباب والنساء. بحلول أواخر الثمانينيات، كانت الجبهة الإسلامية القومية دولة داخل الدولة، مستعدة للاستيلاء على السلطة الكاملة.

كانت مساهمة حسن الترابي الأساسية هي “سودنة” أيديولوجية الإخوان المسلمين، وتحويلها من حركة تركز على الإصلاح الاجتماعي والروحي (التربية) إلى حركة ثورية تركز على الاستيلاء على سلطة الدولة (الثورة). لم تكن براغماتيته، التي تجلت في تحالفاته مع الصوفيين وديكتاتور علماني، انحرافاً عن الهدف، بل كانت استراتيجية محسوبة متعددة المراحل لتحقيقه. لقد أدرك أنه في السياق السوداني، بضعف مؤسساته وقوة جيشه، كان السيطرة على الدولة هو السبيل الوحيد لتنفيذ مشروع إسلامي. لم تكن استراتيجية التمكين الاقتصادي تتعلق بالثروة فقط؛ بل كانت تهدف إلى خلق الاستقلال المالي اللازم لاحتواء أجزاء من الدولة (مثل الجيش) وبناء كوادر موالية يمكنها تنفيذ عملية استيلاء على السلطة.

إن النموذج الاقتصادي الذي ابتكرته الجبهة الإسلامية القومية في الثمانينيات – دمج الإسلام السياسي مع السيطرة على الأنظمة المالية الموازية (المصارف الإسلامية، التحويلات) – خلق نموذجاً للحركات الإسلامية على مستوى العالم. لقد أظهر كيف يمكن بناء منظمة قوية ومرنة يمكنها تحدي دولة ضعيفة واختراقها وفي النهاية الحلول محلها من خلال تحقيق الهيمنة الاقتصادية أولاً. لقد أظهر أن حركة أيديولوجية يمكنها تحقيق الاستيلاء على الدولة ليس فقط من خلال الدعم الشعبي أو القوة العسكرية وحدها، ولكن من خلال الفوز أولاً في الحرب الاقتصادية ضد دولة فاشلة.

الجزء الثالث: “ثورة الإنقاذ”: الاستيلاء على الدولة وإعادة تشكيلها (1989-2019)

يقدم هذا القسم تشريحاً مفصلاً لانقلاب عام 1989 والمشروع الذي تلاه على مدى 30 عاماً لإعادة تشكيل الدولة السودانية على صورة الحركة من خلال سياسة “التمكين” المنهجية.

3.1 تشريح الانقلاب: تخطيط وتنفيذ استيلاء 1989

في 30 يونيو 1989، أطاحت مجموعة من ضباط الجيش من الرتب المتوسطة بقيادة العميد عمر البشير بالحكومة المنتخبة ديمقراطياً برئاسة الصادق المهدي. كان الانقلاب مخططاً ومنسقاً بدقة من قبل القيادة المدنية للجبهة الإسلامية القومية، وكان حسن الترابي مهندسه بلا منازع.

كان الخداع عنصراً أساسياً في الخطة. لإخفاء الهوية الإسلامية للانقلاب وتجنب رد فعل دولي فوري، تبرأت الجبهة الإسلامية القومية علناً منه. كانت تصريحات البشير الأولية وطنية وغير أيديولوجية ، وتم اعتقال القادة المدنيين الرئيسيين، بمن فيهم الترابي نفسه، في مسرحية مدبرة. تم الكشف عن الطبيعة الحقيقية للنظام تدريجياً.

3.2 مشروع “التمكين”: السيطرة المنهجية على الدولة والمجتمع

بمجرد وصوله إلى السلطة، شرع النظام في برنامج منهجي وقاسٍ عُرف بـ “التمكين” لترسيخ حكمه.


*

تطهير الخدمة المدنية والجيش: تم فصل مئات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية وضباط الجيش والقضاة والأكاديميين تحت ذريعة “الصالح العام”، واستبدالهم بموالين للجبهة الإسلامية القومية. ضمن هذا الإجراء السيطرة الأيديولوجية على كامل جهاز الدولة.


*

الهيمنة الاقتصادية: وسّع النظام سيطرته على الاقتصاد بأكمله. تم نقل أصول الدولة إلى شركات تابعة للحزب، ومُنح الموالون وصولاً تفضيلياً للعقود والتراخيص، مما خلق شبكة واسعة من الفساد والمحسوبية.


*

إنشاء مؤسسات موازية: أنشأ النظام قوات أمنية وعسكرية موازية موالية للحزب، وأبرزها قوات الدفاع الشعبي، لتكون بمثابة ثقل أيديولوجي موازن للجيش النظامي. كما سيطروا على النقابات ووسائل الإعلام والمنظمات الاجتماعية.

كان مشروع “التمكين” أكثر من مجرد توطيد سياسي؛ لقد كان استراتيجية متعمدة لإنشاء “دولة موازية” موالية للحزب، مما أدى فعلياً إلى تفريغ المؤسسات الرسمية للجمهورية السودانية من مضمونها. هذا التغلغل العميق هو السبب الرئيسي لاستمرار نفوذ الحركة بعد إزاحتها رسمياً عن السلطة في عام 2019.

3.3 أدوات القمع: بيوت الأشباح وتصفية المعارضين

لم يقتصر مشروع “التمكين” على السيطرة المؤسسية، بل اعتمد على القمع الوحشي للمعارضة. بعد انقلاب 1989 مباشرة، أنشأ جهاز الأمن التابع للنظام شبكة من مراكز الاعتقال السرية التي عُرفت شعبيًا بـ “بيوت الأشباح”. في هذه الأماكن، التي كانت خارج أي إطار قانوني، تعرض المعارضون السياسيون والنقابيون والطلاب والصحفيون لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي. كان الهدف هو كسر إرادة الخصوم السياسيين وإرهاب المجتمع. كان القائمون على التعذيب في الغالب ملثمين لإخفاء هوياتهم، مما أضاف إلى رعب التجربة. أدت هذه الممارسات إلى مقتل عدد من المعتقلين تحت التعذيب، مثل الطبيب علي فضل، الذي أصبح رمزا لضحايا هذه الحقبة. كما امتد القمع ليشمل الاغتيالات والتصفية الجسدية للنشطاء البارزين، وهي جرائم استمرت حتى بعد سقوط البشير، حيث اتُهمت عناصر أمنية مرتبطة بالنظام القديم باغتيال الناشط صلاح الطيب تحت التعذيب في عام 2025.

3.4 عواقب السلطة: الانفصال والإبادة الجماعية والعزلة

كان لحكم الجبهة الإسلامية القومية الذي دام 30 عاماً عواقب كارثية على السودان.


*

انفصال جنوب السودان: أدت سياسات النظام العدوانية في الأسلمة والتعريب، وتحويله للحرب الأهلية إلى “جهاد”، إلى تدمير أي أمل في الوحدة الوطنية، مما أدى مباشرة إلى انفصال جنوب السودان في عام 2011 بعد صراع مدمر. رأى النظام أن التضحية بالجنوب غير المسلم ثمناً ضرورياً لإنشاء دولة إسلامية “نقية” في الشمال.


*

الإبادة الجماعية في دارفور: في عام 2003، ردت الحكومة على تمرد في دارفور بإطلاق العنان لميليشيات الجنجويد، مما أدى إلى حملة تطهير عرقي وقتل جماعي أسفرت عن اتهامات من المحكمة الجنائية الدولية بالإبادة الجماعية ضد البشير ومسؤولين كبار آخرين.


*

مكانة الدولة المنبوذة دولياً: حوّل النظام السودان إلى مركز للإرهاب الدولي، حيث استضاف شخصيات مثل أسامة بن لادن وكارلوس الثعلب، وتورط في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك. أدى ذلك إلى عقوبات دولية خانقة وعقود من العزلة.

يُظهر حكم الجبهة الإسلامية القومية تناقضاً جوهرياً في الإسلام السياسي الحديث: السعي وراء مشروع دولة أيديولوجية عالمية يؤدي حتماً إلى تفتيت الكيان الوطني الذي يسعى للسيطرة عليه. كان هدف الجبهة هو إقامة دولة موحدة تحت هوية إسلامية واحدة. ومع ذلك، فإن طريقتهم – الفرض القسري لهذه الهوية – كان لها تأثير معاكس. في الجنوب، أججت الحرب الانفصالية، مما أدى إلى تقسيم البلاد. وفي دارفور، أدت إلى صراع إبادة جماعية ضد السكان المسلمين ولكن غير العرب. إن المشروع ذاته الذي صُمم لإنشاء أمة إسلامية “نقية” أدى إلى تفكيكها المادي وتنفير شرائح واسعة من سكانها.

3.5 الدولة الأيديولوجية: بناء نظام قانوني واجتماعي

طبق النظام قانوناً صارماً يعتمد على تفسيره للشريعة، وأنشأ شرطة “النظام العام” لفرض الأعراف الاجتماعية. هذا المشروع، المعروف بـ “المشروع الحضاري”، كان يهدف إلى إعادة هندسة المجتمع السوداني من القمة إلى القاعدة. تم تغيير اسم الحزب في نهاية المطاف إلى حزب المؤتمر الوطني في محاولة لإبراز صورة وطنية أكثر شمولاً مع الحفاظ على السيطرة الكاملة.

الجزء الرابع: بيت منقسم: سجل الانشقاقات الداخلية

يوثق هذا القسم زمنياً الانقسامات الداخلية الكبرى التي كانت سمة مستمرة للحركة، كاشفاً عن التوترات الكامنة بين الأيديولوجيا، والشخصية، والتأثير المفسد للسلطة المطلقة.

4.1 النزاعات الأيديولوجية والقيادية المبكرة (1954-1980)

شهدت الحركة منذ بداياتها انقسامات حادة. كان الانشقاق الأول عام 1954 بقيادة بابكر كرار حول الهوية والتبعية للتنظيم الأم في مصر. وفي عام 1969، أدى انتخاب

حسن الترابي إلى انشقاق فصيل تقليدي يضم محمد صالح عمر وعلي جاويش، الذين كانوا قلقين من تسييسه المفرط وتجديده الفكري. وصل الخلاف إلى حد أن بعضهم اتهم الترابي بالزندقة.

وقع انشقاق كبير آخر في عام 1980 عندما رفضت مجموعة الترابي مبايعة المرشد العام للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. أدى ذلك إلى تشكيل جماعة “الإخوان المسلمون في السودان” المنفصلة، بقيادة شخصيات مثل صادق عبد الله عبد الماجد والحبر يوسف نور الدائم، والتي ظلت على صلة رسمية بالحركة العالمية. رسخ هذا الانقسام وجود تيارين إسلاميين رئيسيين: تيار الترابي الذي يركز على الدولة، وتيار الإخوان التقليدي المرتبط دولياً.

4.2 “المفاصلة” الكبرى عام 1999: صراع السلطة بين البشير والترابي

كان هذا الانشقاق هو الأهم في تاريخ الحركة. بعد عقد من الزمان في السلطة، ظهر شرخ عميق بين مُنظّر الحركة، حسن الترابي، وواجهتها العسكرية، الرئيس عمر البشير. كان الصراع مدفوعاً بصراع نفوذ محض. سعى الترابي، كرئيس للبرلمان، إلى الحد من سلطات الرئيس والحفاظ على مكانته كمرجعية عليا. بينما تحرك البشير، مدعوماً من فصيل من كبار الإسلاميين (مجموعة العشرة) والمؤسسة العسكرية، لتوطيد السلطة في يديه.

في ديسمبر 1999، أعلن البشير حالة الطوارئ، وحل البرلمان، وأزاح الترابي الذي سُجن لاحقاً. أسس الترابي حزباً معارضاً منافساً، هو حزب المؤتمر الشعبي. بينما بقي الجسم الرئيسي للحركة مع البشير تحت راية حزب المؤتمر الوطني.

4.3 التفتت بعد المفاصلة

حطمت مفاصلة عام 1999 الصورة الموحدة للحركة الإسلامية وأدت إلى مزيد من التفتت. ففي عام 1991، حدث انشقاق أصغر داخل جماعة الإخوان التقليدية، حيث انفصل فصيل بقيادة سليمان أبو نارو قبل أن يحل نفسه في النهاية. كما تسلط الانقسامات الأحدث، مثل إطاحة المراقب العام

علي جاويش في عام 2017، الضوء على صراعات القيادة المستمرة داخل فصيل الإخوان التقليدي.

يعكس تاريخ الانشقاقات تطور الحركة من نقاش حول الأفكار إلى صراع على الموارد والسلطة. كانت الانقسامات المبكرة أيديولوجية في المقام الأول (طبيعة الدولة الإسلامية، الولاء لمصر)، بينما كانت الانقسامات بعد عام 1989، وخاصة المفاصلة، تدور حول السيطرة على جهاز الدولة وموارده الاقتصادية الهائلة. يُظهر هذا أن الاستيلاء على سلطة الدولة حوّل طبيعة الصراع الداخلي من خلاف أيديولوجي إلى صراع صفري على السيطرة.

جدول 1: الانشقاقات الداخلية الرئيسية في الحركة الإسلامية السودانية

سنة الانشقاقالشخصيات/الفصائل الرئيسيةالأسباب الرئيسيةالنتيجة/الكيان الجديد المُشكّل1954بابكر كرار مقابل التيار العامأيديولوجية (الاسم/الولاء)الحزب الاشتراكي الإسلامي1969فصيل مناهض للترابي مقابل الترابيقيادية/استراتيجية (التسييس)ترسيخ جناح الإخوان التقليدي1980صادق عبد الماجد مقابل الترابيتنظيمية (البيعة للتنظيم الدولي)“الإخوان المسلمون في السودان”1999البشير/المؤتمر الوطني مقابل الترابي/المؤتمر الشعبيصراع على السلطة (السيطرة على الدولة)حزب المؤتمر الشعبي

الجزء الخامس: مشهد ما بعد الثورة: البقاء والعودة (2019-الحاضر)

يبحث هذا القسم في وضع الحركة بعد ثورة 2019 التي أطاحت بحكمها الذي دام 30 عاماً، مع التركيز على محاولات تفكيك هياكل سلطتها واستراتيجيتها اللاحقة للبقاء والعودة في خضم الحرب الأهلية الحالية.

5.1 سقوط النظام وضرورة “التفكيك”

أطاحت الثورة الشعبية في ديسمبر 2018 – أبريل 2019 بنظام البشير بنجاح. أصدرت الحكومة الانتقالية التي تلتها “قانون تفكيك نظام 30 يونيو 1989″، المعروف باسم “التفكيك”. حل هذا القانون رسمياً حزب المؤتمر الوطني، وصادر أصوله، وأنشأ لجنة لتطهير مواليه من الدولة والحياة العامة. كان هذا هجوماً قانونياً مباشراً على دولة “التمكين”. كشفت اللجنة عن شبكة فساد هائلة، حيث استردت أصولاً ضخمة شملت أراضي وعقارات وشركات كانت قد استولت عليها شخصيات وواجهات تابعة للنظام السابق. وأظهرت التحقيقات كيف تم استخدام مؤسسات الدولة، بما في ذلك البنوك، لتمويل أنشطة الحزب وعمليات غسيل الأموال وتجارة العملة التي أضرت بالاقتصاد الوطني. على الرغم من أن البعض اتهم اللجنة بتصفية حسابات سياسية، إلا أن عملها كشف عن حجم النهب الممنهج الذي مارسه النظام طوال فترة حكمه.

5.2 الدولة العميقة باقية: استمرار النفوذ في الجيش والأمن

على الرغم من قانون “التفكيك”، أثبتت شبكة الدولة العميقة للحركة، التي بنيت على مدى 30 عاماً، أنها مرنة. ظل نفوذها قوياً بشكل خاص داخل القوات المسلحة السودانية وأجهزة المخابرات والشرطة. اتُهمت العناصر الإسلامية داخل الجيش بتقويض الحكومة الانتقالية وتمهيد الطريق لانقلاب أكتوبر 2021 بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان. بعد الانقلاب، أعيد العديد من مسؤولي عهد البشير إلى مناصبهم، وتم حل لجنة “التفكيك”. يرى العديد من المحللين أن البرهان، على الرغم من محاولاته النأي بنفسه عن الإسلاميين، ظل رهينة لتأثيرهم داخل المؤسسة العسكرية والأمنية. يُنظر إلى قراراته الرئيسية، مثل انقلاب 2021 وتجميد عمل لجنة التفكيك، على أنها استجابة لضغوط من هذه الشبكة العميقة التي تحتاجها للبقاء في السلطة. هذه العلاقة توصف بأنها تحالف مصالح متبادلة وليست ارتباطًا أيديولوجيًا، حيث يحتاج البرهان إلى القدرة التنظيمية للإسلاميين، بينما يحتاجون هم إلى واجهته العسكرية.

5.3 حرب الفرص: دور الحركة في صراع الجيش والدعم السريع

وفر اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023 فرصة ذهبية للإسلاميين لإعادة تأكيد أنفسهم. انحازت الحركة بشكل لا لبس فيه إلى جانب الجيش، واصفة الحرب بأنها معركة من أجل الكرامة الوطنية والبقاء ضد قوات الدعم السريع “المتمردة”. في المقابل، وصفت قوات الدعم السريع قتالها صراحة بأنه حرب ضد “فلول” (الكيزان) النظام القديم الذين اختطفوا الجيش.

تقاتل الميليشيات الإسلامية، مثل كتيبة البراء بن مالك، بنشاط إلى جانب الجيش، وتوفر قوة بشرية حاسمة ودافعاً أيديولوجياً. وقد جعل هذا الحركة حليفاً لا غنى عنه للقيادة العسكرية. لقد خلقت الحرب علاقة تكافلية حاسمة: تحتاج القيادة العسكرية إلى القدرة التنظيمية للإسلاميين وحماسهم الأيديولوجي لخوض الحرب، بينما يحتاج الإسلاميون إلى الشرعية المؤسسية للجيش وقوته النارية لتنظيم عودة سياسية. لقد دمجت الحرب مصالحهما بشكل فعال، مما خلق كتلة قوية ضد كل من قوات الدعم السريع والقوى الديمقراطية المدنية.

5.4 “التيار الإسلامي العريض” وسياسة إعادة الاصطفاف

في خطوة تذكر باستراتيجية الترابي القديمة، شكلت فصائل إسلامية مختلفة، بما في ذلك فلول حزب المؤتمر الوطني وفصائل من الإخوان المسلمين وغيرهم، تحالفاً جديداً يسمى “التيار الإسلامي العريض”. تهدف هذه الجبهة الجديدة إلى توحيد الساحة السياسية الإسلامية، وتوفير عمود فقري سياسي للمجهود الحربي، ووضع الحركة في موقع يمكنها من لعب دور مركزي في أي ترتيب سياسي بعد الحرب.

يمثل الصراع الحالي تتويجاً عنيفاً لمشروع “التمكين”. فالدولة العميقة التي أنشأها الإسلاميون داخل القوات المسلحة السودانية تخوض الآن حرباً ضد كيان أمني منافس (قوات الدعم السريع) الذي أنشأه النظام القديم نفسه ولكنه انقلب لاحقاً على أسياده. الحرب، في جوهرها، هي معركة بين إرثين وحشيين من حكم الإسلاميين الذي دام 30 عاماً. جزء من إرثهم (الجيش المؤدلج) يقاتل جزءاً آخر من إرثهم (ميليشيا الدعم السريع).

الجزء السادس: المسارات المستقبلية والنظرة الاستراتيجية

يقدم هذا القسم الأخير توليفاً للتحليل السابق لتقديم تقييم مستقبلي لآفاق الحركة الإسلامية السودانية، مع تحديد التحديات الرئيسية التي تواجهها والسيناريوهات المحتملة لدورها المستقبلي في البلاد.

6.1 تحديات العودة الكاملة


*

عجز الشرعية الشعبية: تعاني الحركة من نقص حاد في الدعم الشعبي بسبب إرث حكمها الذي دام 30 عاماً، والذي يرتبط على نطاق واسع بالفساد والقمع والانهيار الاقتصادي والحرب.


*

الانقسامات الداخلية: على الرغم من تشكيل التيار الإسلامي العريض، لا تزال الحركة مجزأة أيديولوجياً وشخصياً، مما قد يعيق قدرتها على العمل كقوة سياسية متماسكة في بيئة ما بعد الحرب.


*

المعارضة الدولية والإقليمية: تشك القوى الإقليمية الرئيسية (لا سيما الإمارات ومصر) والدول الغربية بعمق في الإسلاميين ومن المرجح أن تعارض عودتهم إلى حكم مهيمن وعلني.

6.2 سبل النفوذ الدائم


*

التحالف العسكري: إن أعظم أصول الحركة هو تحالفها الراسخ مع القوات المسلحة السودانية. طالما بقي الجيش فاعلاً سياسياً مهيمناً، سيكون للإسلاميين راعٍ قوي ومقعد على الطاولة.


*

القدرة التنظيمية: مقارنة بالأحزاب السياسية المدنية المجزأة والضعيفة التنظيم، يحتفظ الإسلاميون بميزة تنظيمية كبيرة، مع كوادر منضبطة وشبكات واسعة.


*

استغلال الفراغ السياسي: أدى فشل الحكومة الانتقالية بعد عام 2019 ودمار الحرب الحالية إلى خلق فراغ سياسي وشوق إلى الاستقرار بين بعض شرائح السكان، وهو ما قد يتمكن الإسلاميون من استغلاله.

6.3 سيناريوهات المستقبل


*

السيناريو أ: انتصار الدولة العميقة: يؤدي انتصار عسكري للجيش، تم تمكينه بشكل كبير من قبل المقاتلين الإسلاميين، إلى نظام استبدادي جديد. لا يتولى الإسلاميون أدواراً قيادية رسمية ولكنهم يعملون كقوة خلف العرش، ويسيطرون على الوزارات الرئيسية والأجهزة الأمنية والقطاعات الاقتصادية، ويعيدون فعلياً دولة “التمكين” تحت واجهة عسكرية.


*

السيناريو ب: إعادة الاندماج البراغماتي: يؤدي إنهاء الحرب عن طريق التفاوض إلى ترتيب لتقاسم السلطة. يستغل الإسلاميون، من خلال التيار الإسلامي العريض، تحالفهم مع الجيش لتأمين مكان في حكومة انتقالية جديدة، ويعيدون تسمية أنفسهم كقوة وطنية ويشاركون في الانتخابات المستقبلية، ليصبحوا على الأرجح سمة دائمة وهامة في نظام سياسي هجين مدني-عسكري.


*

السيناريو ج: النكسة الاستراتيجية والاحتواء: تنتهي الحرب في طريق مسدود أو بتسوية سياسية تمكّن القوى المدنية بشكل كبير وتدمج قوات الدعم السريع. تحت ضغط محلي ودولي شديد، يضطر الجيش إلى النأي بنفسه عن الإسلاميين، مما يؤدي إلى تهميشهم السياسي وعملية “تفكيك” متجددة وأكثر فعالية. سيعودون إلى كونهم حركة معارضة قوية ولكن محتواة.

6.4 تحليل ختامي: الإرث الباقي

بغض النظر عن النتيجة، فقد غيرت الحركة الإسلامية السودانية الدولة السودانية بشكل أساسي وربما لا رجعة فيه. لقد خلق مشروعها الذي استمر 30 عاماً من “التمكين” دولة عميقة مرنة نجت من ثورة شعبية وأثبتت صعوبة تفكيكها بشكل استثنائي. إرثها هو الاستقطاب السياسي، والتحلل المؤسسي، والصراع العنيف. سيتم تحديد مستقبل السودان، إلى حد كبير، من خلال الصراع المستمر إما لاستيعاب هذا الإرث الدائم والقوي، أو احتوائه، أو التغلب عليه في نهاية المطاف. التحدي الأساسي الذي يواجه الحركة هو أن أعظم قوتها (الانضباط التنظيمي وعلاقات الدولة العميقة) هو أيضاً مصدر أعظم ضعفها (انعدام الثقة الشعبية). وهذا يجعل مستقبلها يعتمد بشكل أقل على كسب القلوب والعقول وأكثر على الحفاظ على قبضتها على مقاليد السلطة القسرية والاقتصادية.

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا