يمر حزب الأمة القومي، أحد أبرز القوى السياسية في تاريخ السودان، بأزمة وجودية عميقة تفاقمت بشكل حاد بعد وفاة زعيمه التاريخي، الإمام الصادق المهدي، واندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023. وقد كشفت الأحداث الأخيرة عن انقسام غير مسبوق في أعلى مستويات الحزب، حيث انخرطت قياداته في تحالفات متناقضة مع أطراف النزاع. فانضم رئيس الحزب المكلف، فضل الله برمة ناصر، إلى تحالف “تأسيس” المؤيد لقوات الدعم السريع، بينما يترأس صديق الصادق المهدي فصيلاً آخر ضمن تحالف “صمود” الذي يرفض الانحياز لأي من طرفي الحرب. وتُضاف إلى هذه الصورة المعقدة جبهة ثالثة مؤيدة للجيش يقودها عبد الرحمن الصادق المهدي، مدعومة مؤخراً من أخته رباح. يكشف هذا التقرير أن هذه الانقسامات المتعددة ليست مجرد خلافات سياسية، بل هي انعكاس للفراغ القيادي وضعف المؤسسات الداخلية، وصراع على هوية الحزب ومستقبله في خضم واحدة من أحلك الأزمات الوطنية. يخلص التقرير إلى أن الحزب، الذي كان يُفترض أن يكون قوة وطنية جامعة، أصبح الآن يواجه خطر التلاشي وفقدان الأهمية السياسية، مما يترك فراغاً قد تملؤه قوى أخرى أكثر تطرفاً أو عسكرية.
يُعد حزب الأمة القومي أحد أبرز القوى السياسية في تاريخ السودان الحديث، حيث تأسس في فبراير 1945 كأول حزب سياسي جماهيري، وقاد النضال الوطني نحو تحقيق الاستقلال الكامل، تحت شعار “السودان للسودانيين” . يعتمد الحزب في وجوده على هيكل مؤسسي يضم الأمانة العامة، والمكتب السياسي، والهيئات المركزية، إلا أن ما يميزه بشكل فريد هو تداخله العضوي مع “كيان الأنصار”، الذي يُعد مرجعيته الدينية ومصدر قاعدته الجماهيرية . هذا التداخل، الذي ظل قائماً منذ تأسيسه على يد الإمام عبد الرحمن المهدي، شكّل في تاريخه قوة دفع هائلة وورقة سياسية لا تُضاهى، ولكنه في الوقت نفسه، كان سبباً في هشاشة بنيته المؤسسية .
شهد الحزب تحولاً وجودياً مع وفاة زعيمه التاريخي، الإمام الصادق المهدي، في نوفمبر 2020 . لم يكن رحيله مجرد فقدان لرئيس حزب، بل كان فقداً للرابط الذي كان يجمع بين البعد السياسي والمؤسسي للحزب والبعد الديني والطائفي لكيان الأنصار. هذا الفراغ القيادي كشف عن ضعف هيكلي عميق، وأدخل الحزب في أزمة داخلية متصاعدة لم تعد مجرد صراع على السلطة، بل تحولت إلى صراع على هوية الحزب ومستقبله في خضم واحدة من أحلك الأزمات الوطنية في تاريخ السودان.
تتفاقم هذه الأزمة الداخلية بشكل حاد بفعل السياق السياسي الأوسع الذي أعقب اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع. يجد حزب الأمة نفسه، كغيره من القوى المدنية، أمام مشهد سياسي مضطرب تهيمن عليه القوى العسكرية، بينما تتفكك الجبهات المدنية. هذا التقرير يهدف إلى تحليل منهجي لتجسد هذه الأزمة في تحالفات متناقضة، ولفهم الدوافع وراء هذا التشرذم، وصولاً إلى استشراف السيناريوهات المستقبلية المحتملة.
تجسدت أزمة القيادة في حزب الأمة بعد رحيل الإمام الصادق في صراع واضح بين تيارات داخلية، لم تعد تقتصر على خلافات داخل أروقة الحزب، بل امتدت إلى مواقف متناقضة من الحرب الدائرة في البلاد. وتوزعت هذه التيارات مؤخراً إلى جبهتين رئيسيتين: “تأسيس” و”صمود”، بالإضافة إلى فصيل ثالث مؤيد للجيش.
يُعد الانضمام العلني لرئيس الحزب المكلف، فضل الله برمة ناصر، إلى “تحالف السودان التأسيسي” (تأسيس) أبرز تجليات الانقسام داخل الحزب. هذا التحالف، الذي يُعرف بـ”تأسيس”، هو عبارة عن ائتلاف سياسي وعسكري تأسس في فبراير 2025، ويقوده قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي). ويهدف التحالف إلى توحيد المواقف السياسية والمدنية المناهضة للجيش، وتشكيل حكومة موازية في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع والفصائل المتحالفة معه. وقد وقع برمة ناصر على “الميثاق التأسيسي” الذي يمهد لتشكيل هذه الحكومة.
أثار هذا الموقف جدلاً واسعاً داخل الحزب، حيث دفع بـ “مؤسسة الرئاسة” في الحزب إلى سحب الثقة منه، إلا أن برمة ناصر رفض هذا القرار وأمر بحل المؤسسة الرئاسية، مما كشف عن صراع دستوري بين أجهزة الحزب. وعلى الرغم من أن الحزب كان قد أعلن في بيان رسمي سابقاً رفضه لتشكيل أي “حكومة موازية” ، فإن موقف برمة ناصر أظهر أن هناك توجهاً داخل الحزب يرى في الانخراط مع قوات الدعم السريع سبيلاً للوصول إلى السلطة. وقد صرح برمة ناصر أن تحالف “تأسيس” لن يتفاوض مع الحركة الإسلامية وواجهاتها، مؤكداً أن التفاوض فقط سيكون مع القوات المسلحة. ويبرر برمة ناصر انضمامه بأنه يهدف إلى إنهاء الحرب، وأن التحالف يسعى إلى كسب اعتراف دولي عبر فرض حقائق على الأرض.
في المقابل، يمثّل فصيل آخر داخل حزب الأمة، بقيادة الواثق البرير والصديق الصادق المهدي، تحالفاً مختلفاً تماماً، وهو “التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة” (صمود). تأسس هذا التحالف في فبراير 2025 من قبل قوى مدنية رفضت مقترح تشكيل حكومة موازية. ويعكس هذا الموقف إصرار هذا الفصيل على عدم الانحياز لأي من طرفي الحرب، والعمل من أجل بناء جبهة مدنية واسعة وموحدة. ويشدد تحالف “صمود” على أن الحل السياسي السلمي هو السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة، رافضاً أي حل عسكري أو تشكيل حكومات موازية في مناطق سيطرة أي من الأطراف المتحاربة. وقد أقر تحالف “صمود” رؤية سياسية تهدف إلى إنهاء الحروب، ويدعو إلى حوار شامل بين القوى المدنية لاستعادة مسار الثورة وتأسيس الدولة. يرى هذا الفصيل أن تشكيل حكومة في نيالا سيؤدي إلى تقسيم البلاد، وهو ما يجعله يختلف مع فصيل برمة ناصر على التكتيكات رغم اتفاقهما على هدف إنهاء الحرب.
تُضاف إلى هذا الانقسام الثنائي جبهة ثالثة، يقودها الفريق المتقاعد عبد الرحمن الصادق المهدي، وتتبنى موقفاً مؤيداً صراحة للقوات المسلحة السودانية. وقد صرح عبد الرحمن بأن دعم “مؤسسة الدولة” هو الخيار الوحيد في مواجهة “النهب والسلب”. ويُعتبر هذا الموقف ذا أهمية بالغة بالنظر إلى خلفية عبد الرحمن العسكرية وعلاقاته القوية بالجيش.
وقد اكتسب هذا الفصيل زخماً إضافياً بانضمام أخته رباح الصادق المهدي وزوجها د. عبد الرحمن الغالي إليه. ويُعتبر موقف رباح تحولاً جذرياً، حيث كانت في السابق تنتقد القيادة الحزبية لـ”تغييبها المؤسسات” واتخاذها مواقف منحازة، مؤكدة أن الحياد هو خط الحزب الرسمي. إلا أنها في موقفها الأخير، انضمت علناً إلى فصيل أخيها عبد الرحمن، معتبرة أن الحياد لم يعد ممكناً أو مجدياً، وأن المسار الذي تسلكه القيادة الحالية للحزب منحاز بشكل خفي إلى قوات الدعم السريع. هذا الانضمام يُمثّل محاولة لدمج الثقل التاريخي والروحي لعائلة المهدي وكيان الأنصار مع القوة المؤسسية للجيش، مما يضفي شرعية تاريخية على المجهود الحربي للجيش.
الجدول 1: أبرز الانقسامات الحالية في حزب الأمة
تحالف “تأسيس”
صديق الصادق المهديداعم للحل المدني والسياسي، ورافض للحل العسكري وتشكيل حكومات موازيةتحالف “صمود”
عبد الرحمن الصادق المهديداعم صراحة للقوات المسلحة السودانيةلا ينتمي إلى تحالف، ولكنه يمثل جبهة مؤيدة للجيش
مريم الصادق المهديتدعو إلى الحل السلمي الشامل ووقف الحرب
غير منخرطة بشكل رسمي في أي من التحالفينلقد أدت حرب أبريل 2023 إلى انقسام حاد في الشعب السوداني، وانعكس هذا الانقسام بصورة واضحة داخل حزب الأمة نفسه، الذي كان يُفترض أن يكون قوة وطنية جامعة. أدت الخلافات الداخلية وتعدد المواقف إلى تآكل الشرعية الجماهيرية للحزب، والتي كانت تُعد ركيزته الأساسية. هذا التآكل لم يعد مجرد أزمة داخلية، بل أصبح يهدد دور الحزب التاريخي في المشهد السياسي السوداني، ويضعه على مفترق طرق حاسم.
إن الانقسام العلني الذي شهده الحزب بين تحالف “تأسيس” و”صمود” أدى إلى تراجع مكانته السياسية بشكل كبير. فبدلاً من أن يكون الحزب جسراً يجمع شتات الرؤى الوطنية ، أصبح يعاني من التشرذم، مما يضعف من قدرته على التأثير في مسار البلاد. وعدم قدرته على توحيد صفوفه حول القضية الوطنية الأهم – الحرب – يجعله شريكاً غير موثوق به في أي تسوية سياسية مستقبلية.
يواجه حزب الأمة القومي ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبله في ظل هذه الظروف الوجودية:
السيناريو الأول: التفكك التام. يُعد هذا السيناريو الأكثر احتمالاً. فمع انشقاق فصيلين بارزين إلى تحالفين مختلفين، بالإضافة إلى وجود جبهة ثالثة مؤيدة للجيش، يواجه الحزب خطر التمزق الكامل إلى كيانات متصارعة. فغياب الزعيم الموحد (الإمام الصادق المهدي) الذي كان بمثابة “حاجز طبيعي” لمنع تشتت الحزب، يجعل من هذه الانشقاقات دائمة ونهائية.
السيناريو الثاني: إعادة التوحيد الهشة. قد يتمكن الحزب من التوصل إلى تسوية مؤقتة لتجنب الانهيار الكامل، ربما عبر المؤتمر العام المقبل. لكن هذه التسوية ستظل هشة ما لم تعالج الأسباب الجذرية للأزمة، وهي ضعف المؤسسات وتنازع الأجيال على الإرث. ستكون النتيجة استمرار الصراع تحت السطح، مما يترك الحزب عرضة لأي صدمات مستقبلية.
السيناريو الثالث: التهميش السياسي. حتى لو لم يتفكك الحزب، فإن انشغاله بصراعاته الداخلية في وقت يحتاج فيه الوطن إلى قيادة واضحة سيجعله يفقد تأثيره الجماهيري . إن القوى السياسية التي تراهن على الحل العسكري، والتي أثبتت فشلها، ستزداد حضوراً على حساب الأحزاب التي لا تستطيع حسم موقفها وتحديد بوصلتها. هذا التهميش سيكون بمثابة فقدان للدور التاريخي للحزب في المشهد السياسي السوداني.
إن الانقسامات التي ضربت حزب الأمة القومي هي بمثابة مرآة تعكس الأزمة الوطنية الأوسع في السودان. فالخلافات الداخلية في الحزب حول الانحياز للجيش أو قوات الدعم السريع، والحل العسكري مقابل الحل المدني، تعكس نفس حالة الاستقطاب التي تعيشها البلاد. إن انتقال القيادات من موقف “الحياد” إلى الاصطفاف مع أحد الأطراف، كما فعلت رباح المهدي، يوضح أن المساحات السياسية الوسطية في السودان تتآكل بشكل سريع.
إن مستقبل حزب الأمة مجهول، ولكنه ليس قدراً محتوماً. وقدرة الحزب على تجاوز هذه المحنة تعتمد على إرادة قادته للتوافق وتقديم المصلحة الوطنية ومستقبل الحزب على الخلافات الشخصية. فإذا فشل في ذلك، فإنه يضع نفسه على طريق التلاشي كقوة رئيسية مؤثرة في البلاد، وستكون نهايته إحدى التداعيات المأساوية للحرب الأهلية التي عصفت بالدولة السودانية.