آخر الأخبار

“المتعاون”.. مقصلة الموت في حرب السودان

شارك

رجال ونساء قتلوا بدم بارد وآخرين يقبعون خلف القضبان بعدما حكمت عليهم محاكم ناجزة، عقوبات بالإعدام والسجن المؤبد، وذلك بسبب اتهام الضحايا بالتعاون مع أحد طرفي الصراع بالسودان. تأتي هذه الحوادث في ظل تصاعد خطاب التحريض والكراهية الذي يقوده أنصار الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ضد بعضهما البعض، مما يدفع ثمنه كثير من المدنيين العالقين في مناطق الصراع.

وتحدثت “دروب” مع خمس عائلات تعرض بعضًا من أبنائها لانتهاكات توزعت بين القتل والحكم بالإعدام والاعتقال والتعذيب، وذلك بعد اتهامهم بالتعاون مع أي من طرفي الصراع العسكري بالسودان.

كما اطلعت على عشرات الفيديوهات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي تُظهر أنواعًا من الانتهاكات التي ارتكبها منتسبين إلى طرفي الصراع السوداني “الجيش وقوات الدعم السريع” بحق مدنيين متهمين بالتعاون.

وحسب ما رصدته “دروب” من المصادر المفتوحة مثل الفيديوهات وبيانات المجموعات الحقوقية والقوى السياسية، فإن أغلب الانتهاكات بحق المدنيين بتهمة التعاون كانت من نصيب سكان المناطق التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع في ولايات “سنار والجزيرة والخرطوم وشمال كردفان”.

كان منسوبو الجيش السوداني أو الفصائل المسلحة المتحالفة معه يأتون بقوائم مسبقة بأسماء أشخاص يقولون أنهم عاونوا قوات الدعم السريع خلال فترة وجودها في المنطقة المعنية، سواء بالمشاركة في العمليات العسكرية أو الإرشاد إلى منازل منسوبي الجيش والشرطة أو التورط في السرقة.

ومن أبرز حوادث الانتهاكات التي طالت المدنيين بتهمة “التعاون” هي قتل المعلم أحمد الطيب عبيدالله، رئيس حزب الأمة القومي في مدينة أم روابة شمال كردفان، على يد منسوبين للجيش السوداني في يناير 2025 بعد دخولهم المدينة التي كانت تحت سيطرة قوات الدعم السريع.

كما قتل الكاتب الصحفي يحيى حماد فضل الله، بالتعذيب داخل معتقلات الجيش السوداني، في يناير 2025، وذلك بعد اعتقاله من منزله في منطقة الدروشاب بالخرطوم بحري، وفق بيان لنقابة الصحفيين السودانيين.

اعترافات تحت التهديد

وفي مقطع فيديو حديث نُشر في الثاني من أغسطس الجاري يُظهر مسلحين بزي مدني يسجلون اعترافات أشخاص تحت التهديد بأنهم كانوا متعاونين مع قوات الدعم السريع بالخرطوم.

وتُظهر بعض التسجيلات محاولات لتلقين المتهمين للإدلاء باعترافات محددة أمام الكاميرا. في أحد التسجيلات، سأل محققون أحد الأشخاص الجالسين على الأرض عما كان يفعله خلال سيطرة “الدعم السريع” على منطقة جنوب الحزام، ردّ بأنه كان عامل درداقة، فأنهال عليه أحدهم بالضرب وهو يقول “أتكلم كويس يا زول، قول شفشافي” فردد ما أمُلي عليه سريعاً وهو يصرف بيده الضربات المنهالة على رأسه.

كما أجاب شخص آخر في ذات الفيديو على الأسئلة بأنه كان يعمل “ميكانيكي” في آخر محطة، سأله المتحري لمن تعمل أجاب: لأي شخص، فعاجله بضربة على رأسه طالباً منه أن يعترف بالعمل لصالح الدعم السريع إلا أن الرجل أصرّ على أنه يقدم خدمته لكل من يطلبها مدنيا كان أو عسكرياً، فتم إنهاء التصوير.

التخلص من الجثامين في النيل

محمد حامد وحسب الرسول يوسف الحاج، شابان تمسكا بالبقاء مع أسرتيهما في منطقة الشقيلاب جنوب الخرطوم طوال فترة سيطرة قوات “الدعم السريع” على المنطقة، لكنهما قُتلا مع آخرين بعد دخول الجيش، وفق ما تحققت منه “دروب”.

روى المحامي عصام يوسف، الأخ غير الشقيق للضحية حسب الرسول يوسف الحاج نمر، تفاصيل تلقيهم نبأ مقتل أخيه في منطقة الشقيلاب الحسانية، برفقة شاب آخر يُدعى محمد حامد من الشقيلاب الخور، قائلاً إن “الضحيتين جرى اقتيادهما من منازلهما ثم أُلقيا في النيل بعد قتلهما”.

وأضاف عصام في تصريح لـ”دروب” أن “المواطنين في المناطق التي كانت تحت سيطرة الدعم السريع كانوا مضطرين للتعامل معهم سواء في التجارة أو العلاج أو غيرها من الاحتياجات، نظرًا لكون هذه القوة المسلحة أمرًا واقعًا على الأرض”.

وتابع أن “بعض عناصر النظام السابق، وهم معروفون لدينا، أرادوا إرسال رسائل انتقامية من خلال تصفية أبرياء بتهمة التعاون مع الدعم السريع”. وأكد أن أخيه لم يتعاون مع قوات الدعم السريع إطلاقًا، لا في الإرشاد إلى منازل الأثرياء أو المنتمين إلى القوات النظامية، ولا في المشاركة بالعمليات العسكرية.

وقال إن “ما حدث جريمة ضد الإنسانية، إذ وُجهت له تهم جزافية دون أدلة، ولم يُقدّم لمحاكمة عادلة تمكّنه من الدفاع عن نفسه”. وشدد عصام على عدم التنازل عما حدث، مبيناً أن الأسرة ستواصل السير في طريق العدالة لمحاسبة كل من ارتكب هذه الجريمة، وفق قوله.

حسب الرسول يوسف، قُتل في الشقيلاب جنوب الخرطوم على منسوبين للجيش السوداني صورة لـ”دروب”

تصفيات في وضح النهار

إلى ذلك، حصلت “دروب” على معلومات من مصادر موثوقة تفيد بأن “و. ك.” أحد أفراد القوات النظامية قام بتصفية ثلاثة مواطنين بينهم بائعة شاي، في منطقة صالحة جنوب امدرمان، وذلك عقب خروج قوات الدعم السريع من المنطقة في مايو الماضي.

وفقاً لمصدر مُطلع، فإن “و. ك.” هو جار الضحايا الذين قام بتصفيتهم بعدما اتهمهم بالتعاون مع قوات الدعم السريع خلال فترة سيطرتها على المنطقة، مبيناً أن المتهم دفن جثامين الضحايا داخل سور مدرسة معروفة بالمنطقة. وأشار المصدر إلى أن الحادثة أثارت غضب أهالي الضحايا المنحدرين من قومية واحدة، الأمر الذي دفع الشرطة للقبض على المتهم وتسليمه إلى وحدته العسكرية، بينما تم نبش جثامين الضحايا بناءًا على بلاغ من أهاليهم.

أحكام بالإعدام

وفي مدينة الدامر بولاية نهر النيل، يقبع علي أدم علي، خلف القضبان بعد الحكم عليه بالإعدام بسبب اتهامه بالتعاون مع قوات الدعم السريع، وهو الذي فرّ من الخرطوم هرباً منها بعدما اعتقلته بتهمة التخابر مع الجيش.

جرى تقديم علي آدم علي، إلى المحكمة بتهم تحت المواد 26/186/51/50 من القانون الجنائي السوداني المتعلقة بالجرائم الموجهة ضد الدولة وتقويض النظام الدستوري والجرائم ضد الإنسانية، مقروءة مع 6/5 من قانون مكافحة الارهاب السوداني.

وحسب المرافعة الختامية التي قدمها محامي المتهم إلى المحكمة، فإن المتهم تم قبضه واجلاسه كالمجرم في عبور الدامر والتحري معه بواسطة أكثر من شخص ثم جرى تصويره وهو يعترف على نفسه بجرائم عقوبتها الإعدام، مبينة أن “كل ذلك كان خارج إشراف النيابة التي لا تعلم شيئًا عنه وهو ما يخالف القوانين والدساتير الدولية وحقوق الانسان”.

وأشار محامي الدفاع في مرافعته التي اطلعت عليها “دروب” إلى أن موكله أدُخل السجن العسكري المخصص للعساكر، بدلا من أن ينقل فورا بعد اعترافه في عبور الدامر الى النيابة. وأضاف “بعد كل هذه المدة نُقل المتهم الى النيابة وفُتح بلاغ في مواجهته ودُونت أقواله في التحري وبعدها أُحضر ليدون اعتراف قضائي امام قاضي المحكمة”.

“كل ذلك جرى في سويعات ما يدل على التأثير على المتهم وجعله يعترف بأشياء لم يفعلها”، وفق المرافعة الدفاعية.

وأشار المحامي إلى أن الجنود هددوا موكله وأكرهوه على الاعتراف بأقوال مكتوبة منهم ثم أخذوه مباشرة الى النيابة والقسم. مردفاً “حتى أثناء تدوين الاعتراف القضائي كانوا متواجدين خارج القاعة ليطمئنوا بأن المتهم فعل ما أمروه به، واتصل ذلك التهديد في حراسات القسم بالترهيب والوعيد بإرجاعه الى البرج مثل ما قال المتهم في المحضر”.

من جهتها، تقول والدة المتهم لـ”دروب” إن ابنها سبق وتم اعتقاله في الخرطوم بحري من قبل قوات الدعم السريع في أغسطس 2024، بتهمة التخابر مع الجيش السوداني، تعرض خلاله للتعذيب قبل أن يفرج عنه.

وأضافت أنه “بعد ذلك خرج ابنها بمساعدة أسرته من الخرطوم الى نهر النيل في 28 أكتوبر من ذات العام لكن بعد وصوله عبور الدامر تم اعتقاله بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع”. وتابعت “في مدينة الدامر تم تعذيبه بصورة بشعة، رأيتُ أثار الضرب المبرح خلف جروحًا في جسمه، كنت حينما أذهب إلى زيارته يتعلق بي كطفل رضيع ويقول إنه يريدني أن أبق معه أطول فترة”.

علي آدم محمد، محكوم بالإعدام بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، صورة لـ”دروب”

تعذيب في معتقلات “الدعم السريع”

محمد محمود سليمان (48 عامًا)، جسمه الرياضي وقامته الطويلة أوقعته ضحية الاشتباه في الانتماء للجيش في وجهة نظر عناصر الدعم السريع.

كان سليمان يعمل بأحد الفنادق قرب الميناء البري حينما اندلعت الحرب في الـ15 أبريل 2023، حيث تم اقتياده إلى أحد معتقلات قوات الدعم السريع، ليتعرض هناك لأبشع أنواع التعذيب والإرهاب على مدار عشرة أيام، وفق ما رواه لـ”دروب“.

وقال “في ذلك اليوم، كنت في طريقي إلى أسرتي التي نقلتها من الحلة الجديدة إلى الكلاكلة بسبب احتدام المعارك، تم توقيفي عند أحد ارتكازات الدعم السريع، وأُجبرت على النزول من المركبة، ثم عُصبت عيناي واقتادوني إلى منزل حوّلوه إلى معتقل، أدخلوني في غرفة ضيقة بها نحو 25 شخصًا، بعضهم مقيدون في أرجلهم على كراسي حديدية، وآخرون جالسون على الأرض”.

وتابع: “في اليوم الأول أحضروا لي الطعام والماء، واستجوبني أحدهم، فنفيت أي صلة لي بالقوات النظامية. وفي اليوم التالي حضر خمسة مسلحين يحملون سياطًا، وانهالوا عليّ ضربًا دون أي استجواب، حتى فقدت الوعي، ثم أعادوا الكرة في المساء، مع تهديدات بالقتل إذا لم أعترف بأنني أنتمي للجيش”.

استمر تعذيب سليمان لعشرة أيام متتالية، لم يتلق خلالها سوى رغيف جاف وكوب ماء واحد في اليوم، تدهورت صحته، قبل أن ينقذه من هذه الحالة شخصاً ما كان يعرفه في وقت سابق.

قال سليمان: “في اليوم العاشر، دخل شخصان، أحدهما كنت أعرفه كزائر سابق للفندق الذي كنت أعمل فيه، عندما رآني، سألهم عن سبب احتجازي، فأخبروه بأنهم يشتبهون في انتمائي للجيش، ليؤكد لهم أنني موظف فندقي، وهو ما كنت أقوله دائمًا. تحدث الرجل هاتفيًا مع آخر، ثم فكّ قيودي وأقلّني بدراجة نارية إلى الشارع الرئيسي”.

عقب خروجه من معتقلات الدعم السريع غادر سليمان الخرطوم فوراً ويعيش اليوم في إحدى مدن شرق السودان، يتذكر في كل حين أنه في لحظة ما كان أقرب للموت لكنه نجا.

مأساة أسرة

محمد عمر، قُتل داخل معتقلات الدعم السريع بالخرطوم، لـ”دروب”

محمد عمر، أحد الضحايا الذين فقدوا أرواحهم داخل معتقلات قوات الدعم السريع بالجوع والمرض، وفق شقيقته أميمة. قالت أميمة عمر إن قوات الدعم السريع اعتقلت شقيقها بعد تهديدات متلاحقة للأسرة بالتصفية إذا لم يرشدوا بمكان والدهم المعاشي بأحد الأجهزة النظامية.

وذكرت أن مجموعة من عناصر الدعم السريع داهمت منزل الأسرة بمنطقة الشقيلاب جنوب الخرطوم في مارس 2024، واقتادوا شقيقها محمد الى مكان مجهول، بحثوا عنه طويلاً قبل أن يعثرو عليه في معتقل سوبا الذي فارق فيه الحياة بسبب الجوع والمرض.

انهيار المنظومة العدلية

اعتبر المدافع عن حقوق الانسان، عثمان البصري، أن ما ترتب على اتهام المواطنين بـ”التعاون” مع أحد طرفي الصراع، “انتهاكات لحق الانسان وكرامته”.

وقال البصري لـ”دروب” إن كل ما لحق بالمواطنين المتهمين بالتعاون سواء كان في المحاكم أو خارجها هو انتهاك خارج إطار القانون. وأضاف أن “عدداً كبيراً من ولايات السودان خارج ولاية القضاء، وحتى القضايا التي تصل المحاكم الموجودة في مناطق محدودة فإن السلطة القضائية هناك خاضعة لسلطة الطرف المسيطر”. وأشار إلى أن قوات الدعم السريع ترتكب الانتهاكات خارج اطار القانون بعد فشلها في عمل محاكم.

وذكر البصري أن كل المتهمين بـ”التعاون” لا تنطبق عليهم أنواع التهمة التي حددتها المادة 51 من قانون الإجراءات الجنائية، متمثلة في “اعداد الجيوش لمحاربة الدولة والتعامل مع دولة معادية للبلاد”.

وتابع أن “هذه (التهمة) لا تنطبق على من يتم اعتقالهم ومحاكمتهم بتهم التعاون لأنهم لم يعاونوا وإنما مواطنين تمسكوا بالبقاء في مدنهم وقراهم بعدما أتت قوات الدعم السريع واحتلتها وفرضت واقعًا على المواطنين جعلهم خاضعين لسيطرتها وفق ظروف خارج عن إرادتهم”.

وأوضح البصري أن الأحكام القضائية التي صدرت في حق مواطنين متهمين بالتعاون، كلها تعسفية ولا تتماشى مع حقوق الانسان وكرامته الإنسانية. وختم أنها “انتهاكات، وانتهاكات واسعة جدا في كل أجزاء السودان ومن كل الأطراف، الدعم السريع بمليشياته المختلفة، والخلية الأمنية في مناطق الجيش”.

ولا توجد إحصائيات بعدد الذين تعرضوا للانتهاكات بشبهة التعاون خلال فترة الحرب بالسودان. بيد أن وقف هذه الانتهاكات يتطلب وقف الحرب أولاً تمهيدًا لمحاسبة المرتكبين، وفقاً للبصري وآخرين.

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا