آخر الأخبار

عبد الله علي إبراهيم… المثقف الذي جعل الحرب لحنًا لرقصته

شارك

إبراهيم برسي

في أزمنة الحروب، لا يكون وقع الكلمات أقل من وقع الرصاص. حين يتحدث المثقف، فإن صدى صوته يمتد إلى ما هو أبعد من الصفحات والشاشات، لأنه يُسهم في تشكيل وعي الجماهير وتبرير أو نزع شرعية السلطة. ولأن دكتور عبد الله علي إبراهيم واحد من أبرز الأسماء في المشهد الفكري السوداني، فإن كلماته عن الحرب الحالية تستحق أن تُقرأ بدقة، لا لمكانته الأكاديمية فحسب، بل لأنه كتب طويلًا عن مخاطر عسكرة الدولة، قبل أن يختار الاصطفاف مع جيشها في واحدة من أكثر لحظات السودان دموية وفداحة.
حين يختار مثقفٌ أن يصطف مع المدفع، فإن كلماته لا تبقى في حدود الرأي، بل تتحول إلى ذخيرةٍ في مخازن السلطة الغاشمة.
عبد الله علي إبراهيم، الذي كان يومًا شاهِدًا على فداحة العسكرة، صار في لحظة الدم هذه واحدًا من مروّجي سرديتها، لا كناقد لها، بل كشاعرٍ لإيقاعها و داعياً لاستمرارها و مجملاً لها

فهو حين يستعير من قواميس الفن صورة “التانغو” ليصف حرباً تمزّق السودان، فهو لا يلجأ إلى المجاز البريء، وإنما إلى إيقاع دموي تُراد له رومانسيّة زائفة، تُخفي وراءها الفداحة الملموسة في حياة الناس. فالتانغو، مهما بدا متقن الخطوات، يظل في أصل صورته رقصة يتقابل فيها جسدان في تواطؤ على الإيقاع، أما الحرب التي يدعو لاستمرارها حتى “ينتصر الجيش”، فهي رقصة بين جثة وأخرى، بين بيت محترق وخرابة، بين جوعى لم يعد لهم حتى رغيف العزاء، فهل يعي الدكتور ذلك

وما يزيد وقع هذه الاستعارة قسوة أنها لم تأتِ من شخص عابر في سوق السياسة، بل من مؤرخ وأكاديمي ظلّ لسنوات يشرح كيف أن الدولة السودانية الحديثة وُلدت مختلة البنية، وكتب مطولًا عن ضرورة نقد الجيش الذي توغّل في الحياة المدنية منذ انقلاب عبود 1958، مرورًا بانقلاب النميري 1969، وانقلاب البشير 1989، وحتى دوره في ما بعد الثورة في ديسمبر 2018 وما تبعها من شراكة قسرية مع المكون العسكري.
لقد كان هو من أضاء للقراء أن المؤسسة العسكرية لم تكن في أي مرحلة “حَكَمًا محايدًا”، بل لاعبًا يسعى لإطالة عمر سلطته، لكنه اليوم، وبالمجاز نفسه، يمنحه شرعية الجملة الأخيرة في المشهد.

لقد كتب أنطونيو غرامشي أن “المثقف ليس من يصف العالم كما هو، بل من يعمل على تغييره، وإلا صار جزءًا من نظامه القائم”. وأنت، يا دكتور، في لحظة الدم هذه، تستعير صورة رقصة التانغو لتصف حربًا تُطحن فيها المدن والأرواح، فتجعل من المجاز غطاءً ناعمًا لإيقاع خشن، ومن الخراب مشهدًا يمكن تأمله من بعيد، كأن الأمر كله مجرد لحن عابر في قاعة عرض.

من حقك أن ترى الجيش مؤسسةً “يجب أن تنتصر” إذا كان معيارك هو توازن القوى بين جنرالين، لكن من واجبك – وأنت الأكاديمي الذي خبر السرديات – أن ترى أيضاً أن هذا الجيش ليس جيشاً متخيَّلاً في كتب التربية الوطنية، بل هو ذاته الذي خضع عقوداً لاختطاف الإسلام السياسي، وقمع انتفاضة سبتمبر، وأطلق الرصاص في مجزرة القيادة العامة. أن تدعو لانتصاره في حرب كهذه هو أن تدعو، صراحة أو ضمناً، لإطالة عمر البنية نفسها التي صنعت المأساة.
هنا لا بد من التذكير أنك أنت نفسك في مقالات سابقة، مثل “اليوم كلنا القوات المسلحة” (أبريل 2023)، و“لا للحرب لا تعني التفرج على السياج”، أعلنت اصطفافك المبكر مع الجيش ورفضك لشعار “لا للحرب” بوصفه قاصرًا عن فهم “الخطر” الذي تراه محدقًا بالدولة.

وليس هذا الانحياز مجرد رأي سياسي عابر، بل هو امتداد لسردية طويلة في تاريخ السودان الحديث، حيث تُمنح المؤسسة العسكرية صكوك الغفران السياسي كلما رفعت شعار “حماية الدولة” أو “استعادة السيادة” او “حرب الكرامة”. وكل مرة تُقدَّم الحجة نفسها: “الخطر أكبر من أن يُترك للمدنيين”.
لكن النتيجة واحدة: إطالة عمر البنية السلطوية، وتأجيل أي تحول ديمقراطي حقيقي.

فرانتز فانون، الطبيب الذي فهم الجرح قبل أن يكتب عنه، حذّر من مثقفين يتبنون لغة السلطة تحت غطاء “التاريخية” أو “الواقعية”، لأنهم يصبحون – ولو عن غير قصد – جزءاً من ماكينة القتل الرمزي والمادي معاً. ومشكلتك هنا، يا دكتور، أنك لم تكتفِ بتحليل الحرب أو نقدها، بل انخرطت في تشكيل إيقاعها، بتشبيهها برقصٍ فيه متعة الأداء، بينما الواقع تحت قدمي هذا الإيقاع دم وركام ونزوح بالملايين. ثم جاءت عبارتك الأخيرة “الحرب كارثة حاذقة قال تشرشل حذارِ أن تهدرها”، لتكمل الدائرة: الحرب ليست مأساة يجب إيقافها بل فرصة لصياغة الدولة — وهي رؤية لا تجد لها سندًا إلا في قواميس السلطة، لا في وجدان الشارع.

إن خطورة استعارة مثل “التانغو” في هذا السياق ليست فقط في تزيين مشهد الحرب، بل في جعلها قابلة للتصور كمبارزة جمالية بين ندّين، بينما هي في حقيقتها مواجهة غير متكافئة، تُسحق فيها المدن قبل أن تُهزم الجيوش. هذه اللغة تُخدر الحس النقدي، وتجعل الدم جزءًا من عرض مسرحي، لا من جريمة تاريخية متعمدة. وفي حوارك (أكتوبر 2024) مع صحيفة “القدس العربي” و الذي حاورك فيه محمد الاقرع، وصفت الإسلاميين بأنهم “الحليف الأكبر للجيش” مع انتقادهم لضعف دعمهم لقضيته، وهو تصريح يضعك – في نظر كثيرين – في موقع من يقرأ المشهد من داخل معسكرهم، حتى إن لم يكن ذلك نيتك. وفي لقائك مع قناة الجزيرة، قلت لمقدم البرنامج أحمد طه: “لقد أنفقت علي الدولة مالاً لُّبْدَة لأفكر وأكتب وأنشر” — فهل جزاء هذا الوطن الذي أنفق عليك أن تدعو له بالخراب وتشرعن لإطالة الحرب؟

وأقلّ تداعيات استمرار هذه الحرب أن أطفالًا — رأوا آباءهم وأمهاتهم، وحتى أصدقاءهم الصغار، يُذبحون بوحشية أمام أعينهم على يد الجيش وكتائب الإسلاميين الإرهابية التابعة له، ومن قصف الدعم السريع وانتهاكاته اللاإنسانية — باتوا اليوم أسرى للكوابيس والأمراض النفسية، محرومين حتى من تلقي العلاج. أعرف شخصيًا طفلًا صُفِّي والده أمامه، ففقد النطق منذ ذلك اليوم. هل هذا يا دكتور ما تدعو لاستمراره.

تقول إن الحرب يجب أن تستمر حتى ينتصر الجيش. لكن أي نصر هذا الذي يُقاس على مقاييس الخراب؟ أي نصر يُعلن في ظل اقتصاد مدمَّر، ومدن بلا كهرباء، وقرى بلا ماء، وأسر تعيش على فتات الإغاثة المسروقة؟ النصر، كما يعرفه غرامشي، ليس غلبة عسكرية بل قدرة الطبقة المقهورة على إنتاج مستقبلها. والحرب، كما تراها الجماهير في الأسواق ومعسكرات اللجوء والمستشفيات، ليست سباقاً على الشرعية بين بندقيتين، بل سحقاً يومياً لكل ما تبقى من شروط الحياة.

ثم إننا إذا نظرنا إلى مسار هذه الحرب منذ اندلاعها في أبريل 2023، سنجد أن كل جولة قتال لم تقرّب البلاد من نهاية المعركة، بل عمّقت التشظي. مناطق نفوذ تتغير كل شهر، اقتصاد ظل يتمدد على أنقاض الاقتصاد الرسمي، ومليشيات تزداد رسوخًا في المشهد بدلاً من أن تُفكك. أي “نصر” يمكن أن يُبنى على هذه الأرضية؟ أهو نصر للجيش على الدعم السريع، أم نصر للنظام القديم على حراك ديسمبر الثوري؟

وهنا، يا دكتور، ثمة ما هو أعمق من الخراب المادي: جيل كامل يكبر في معسكرات يتعلم أن الحدود هي خيمة، وأن المدرسة هي صف تحت شجرة، وأن الوطن هو مجرد ذاكرة تُروى على ضوء مصباح شحيح. كيف ستفسر لهم لاحقاً أن الحرب كانت “ضرورية” وأنها تشبه رقصة؟

لقد تحولت دعوتك – بحكم موقعك الفكري – إلى غطاء أخلاقي لاستمرار آلة الحرب، وهذا ما يجعل المسألة أخطر من تصريح عابر في برنامج تلفزيوني. فالناس تقرأ كلامك، وفي خلفية ذاكرتها صورتك الأكاديمية والأدبية، فتجد نفسها في ارتباك بين احترام الإرث الفكري وخيبة الموقف الراهن. وأنت، بخبرة من يعرف تاريخ الحروب في السودان، تدرك أن “إطالة الحرب” ليست مسألة زمنية، بل مسألة إعادة إنتاج لبنية الدولة النكرة التي لا تحيا إلا بتجديد العنف.

إن رقصة التانغو التي تراها، يا دكتور، ليست إلا مشهداً من مسرح عبثي: قائدان على الخشبة، يتبادلان الخطوات، والجمهور في الصالة يحترق. وما لم تدركه تلك الاستعارة أن الإيقاع في أرض المعركة لا يضبطه العازف، بل المدفع، وأن الموسيقى الوحيدة التي تُسمع هي صرير الجوع ونشيج الأمهات.

ولهذا فإن تشبيهك، وإن بدا للبعض لعبة لغوية، يصبح في واقع الأمر موقفًا سياسيًا، يُترجم على الأرض إلى أيام إضافية من الحصار والقصف والجوع. المثقف هنا لا يصف، بل يمنح شرعية للمدفع كي يستمر في العزف.

لذلك، فإن دعوتك هذه ليست قراءة في التاريخ ولا في مستقبل محتمل، بل انحياز لإدامة حاضرٍ فقد مبرراته، وإعفاء لقتلة الأمس واليوم من مواجهة سؤالهم الوجودي: لماذا يقتلون الشعب الذي يدّعون حمايته؟

في النهاية، هذه الحرب، يا دكتور، ليست رقصة ولا عرضًا فنيًا يمكن الانسحاب منه عند انطفاء الأضواء، بل آلة طحن لا تفرّق بين من يشاهد ومن يشارك. كل يوم تُترك فيه لتواصل دورتها هو يوم يُنتزع من عمر شعب كامل، ويُضاف إلى سجل الخراب الذي لن ينجو منه أحد. إن تبرير استمرارها، مهما كان الغلاف البلاغي، يعني المشاركة فيها وفي صناعة غدٍ أكثر قسوة، حيث لا يعود للسودان ما يرقص عليه سوى ركامه.

[email protected]

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك

الأكثر تداولا اسرائيل مصر نتنياهو فلسطين

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا