آخر الأخبار

مقال نادر للأديب الراحل الطيب صالح ,بمناسبة مرور مئة عام على مشروع الجزيرة

شارك

الطيب صالح

الجزيرة اسم يطلق على المثلث من الأرض الواقعة جنوب الخرطوم بين النيل الأبيض والنيل الأزرق، وهي مساحة من الأرض الخصبة تبلغ نحو ثلاثة ملايين فدان. وقد كانت، حتى قيام الحكم الثنائي الإنجليزي – المصري تروى بالأمطار وتزرع غلالًا ،ويعتمد عليها القطر في سد حاجاته من الغذاء. ثم بُني خزان سنار في سنة ١٩٢٥، وتدفق ماء النيل في هذه الأرض فتحولت من زراعة المحاصيل الغذائية إلى زراعة القطن الذي أصبح اليوم المصدر الرئيسي لثروة السودان.

وقصة هذه التجربة الفريدة هي القصة التي يرويها آرثر جيتكل في كتابه «الجزيرة». وهو أهل للقيام بهذه المهمة خير قيام، إذ أنه بدا العمل في الجزيرة سنة ١٩٢٣ حين كانت الأرض تروى بالمضخات، ثم زامل مشروع الجزيرة منذ بداية تكوينه، فشغل عدة مناصب في شركة المزروعات السودانية التي كانت تشرف على المشروع. وحين أمم المشروع سنة ١٩٥٠، كان أول رئيس لإدارة هيئة مشروع الجزيرة.

ويتحدث المؤلف في الفصول الأولى من الكتاب عن أهداف الحكم الثنائي في السودان، تلك الأهداف التي كان مشروع الجزيرة إحدى ثمارها. وهذه الأهداف، يلخصها سير رجينالد وينجت، حاكم السودان العام بين سنة ١٩٠٠ وسنة ١٩١٦، في تقرير له فيقول: «المهمة التي أخذتها حكومة السودان على عاتقها هي قبل كل شيء، جلب فوائد الحضارة للسكان، وذلك بتهيئة سبل الأمن لهم بقدر ما هو ممكن حتى يضمنوا سلامة أشخاصهم وممتلكاتهم، وبتحسين المواصلات في هذه الفيافي والقفار التي تفصل بين الأماكن التي يتجمع فيها السكان ويتيسر فيها العيش، وبزيادة إخصاب الأرض الغنية أصلًا عن طريق الري الصناعي مما يناسب الظروف المختلفة التي تسود شتى أماكن هذا القطر الشاسع، وأخيرًا، وبالإضافة إلى الملاحة النيلية والسكة الحديدية التي تصل السودان بمصر، إنشاء ميناء ومرفأ على البحر الأحمر، يسهل الوصول إليه من داخل القطر، مما يتيح للسكان استيراد حاجياتهم من الخارج بأسعار معتدلة، ويمكنهم من إيجاد أسواق في الخارج لمنتجاتهم.

وسرعان ما اكتشف وينجت إمكانية استثمار أرض الجزيرة لرفع مستوى المعيشة في القطر. وانتهت الحكومة بعد دراسة وتمحيص إلى أمر بناء خزان على النيل الأزرق، ولكن من أين تأتي الحكومة بالمال اللازم؟

ويتابع المؤلف فصول القصة حتى يتم بناء الحزان، ويقوم مشروع الجزيرة بمساهمة بين شركة إنجليزية وحكومة السودان والمزارعين، وهو يصف كيف تغلبت الحكومة على صعوبة إيجاد المال اللازم بمعونة كل من بريطانيا ومصر على الأخص، وكيف زالت الصعوبات الهندسية والإدارية. لكن المؤلف يبدع حين يصف كيف تغيرت حياة الناس العاديين بظهور هذا المشروع حتى ليخيل للقارئ أنه يقرأ رواية شائقة حين يتعرف مع الكاتب على سكان قرية معينة في الجزيرة، قرية الطلحة، التي تبعد عن ود مدني، عاصمة الجزيرة، نحو عشرة أميال، والطلحة قرية صغيرة تقوم في منخفض من الأرض تتجمع فيه مياه الأمطار، ولهذا فهي محاطة بغابة من شجر الطلح، تتوسطها قبة بيضاء هي قبة الشيخ أحمد الطريقي، وينتمى سكانها إلى قبيلة العركيين. كيف تم تسجيل الأرض؟ كيف أعيد توزيعها؟ كيف واجه السكان المشاكل الإدارية التي لم يعهدوها من قبل؟ أي نوع من الإداريين البريطانيين وفدوا على تلك الأرض الخلاء جنوبي الخرطوم، وكيف استطاعوا أن يواجهوا تلك الظروف الجديدة في مجتمع مختلف كل الاختلاف عن مجتمعهم الأوروبي؟ يقول عنهم جيتكل: وأغلبهم جاءوا (إلى السودان) بغية الحياة الحرة في الريف في شركة متطورة متوسعة، ولم تكن الوظيفة تتطلب ثقافة واسعة بقدر ما كانت تتطلب من حيوية جسمانية، وأمانة، وقدرة على التنفيذ، ومزاجًا مرحًا، وتسامحًا في الطبع، ومقدرة على حث الناس على العمل والمشاركة معهم. والكاتب يعتبر العنصر الإنساني في غاية الأهمية، ولا تخلو صفحة من صفحات الكتاب من صورة حية (لإنسان)، سواء كان بريطانيًا أو سودانيًا، وعلاقته بمشاكل تطور الأرض. وهذا هدف يوضحه المؤلف منذ البداية في مقدمة الكتاب، وينفذه بأمانة في فصول الكتاب المتعاقبة، فيقول: الناس والأرض معًا خلقا تجربة فريدة في ميدان من أهم الميادين التي تشغل الناس في عصرنا هذا: ذلك هو محاولة رفع مستوى الحياة في البلاد المتخلفة.

والفصول الأخيرة من الكتاب طريفة مثيرة بوجه خاص. فبعد عام ١٩٥٠ أمم مشروع الجزيرة. ومع أن التكوين الإداري للمشروع لم يتغير، إلا أن تطور الحوادث في القطر عامة وسع معناه وأهميته. لقد أصبح السودان في تلك السنوات يقترب حثيثًا من الاستقلال. لهذا فقد أصبح مشروع الجزيرة أمرًا أهم من مغامرة اقتصادية ناجحة. لقد أصبح قبلة أنظار البلد كله إذ أن رفاهية القطر المستقل ستقوم عليه. وهو فوق هذا المحك لتجربة مقدرة السودانيين على تصريف أمورهم. ومرة أخرى ينفذ الكاتب إلى العنصر الإنساني وراء التجربة، ويتحدث في فصل عن (الديموقراطية المختطة وغير المختطة)، وعن السودانيين الذين قفزوا إلى المناصب الكبرى في المشروع، وأصبح واضحًا أنهم سيخلفون الإدارة الأجنبية، رجال أمثال مكي عباس الذي استوعبته الجزيرة بعد خبرة طويلة في وزارة المعارف، ومحمد عمر أول رائد لتعليم الكبار في الجزيرة، وعمر محمد عبد الله الذي صار أول ضابط للعلاقات العامة، وسليمان بخيت محرر مجلة «الجزيرة».

ويحكي الكاتب أيضًا قصة (الخدمات الاجتماعية) في الجزيرة. وهي قصة فريدة في ذاتها، ونجاحها يوضح في جلاء نجاح تجربة مشروع الجزيرة كله. أن 2% من دخل القطن السنوي يخصص للخدمات العامة، وهي تشمل الصحة والتعليم والترفيه، وتقوم على أساس فهم الناس أنفسهم لحاجياتهم والعمل على سدها تحت إرشاد المسؤولين في المشروع.

وبعد أن يسرد المؤلف قصة الجزيرة ونجاحها في وضوح، يثير المشكلة الرئيسية التي تعتبر (الجزيرة) جزءًا منها: مشكلة مساعدة الدول الغنية الشعوب الفقيرة والأخذ بأيديها نحو مستقبل أفضل، دون قيود أو شروط، على أسس من الاحترام والمساواة والثقة المتبادلة.

مجلة أصوات – رقم العدد: 1 تاريخ الإصدار: 1 يناير 1961

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا