في ظل فوضى الحرب الأهلية التي تمزق السودان منذ أبريل 2023، وسط أصوات المدافع والخراب الواسع الذي اجتاح المدن والقرى، خاض عدد من العلماء السودانيين مغامرة شجاعة وغير مألوفة، هدفها لم يكن سياسيًا أو عسكريًا، بل زراعيًا وإنسانيًا بامتياز: إنقاذ البذور. بذور تحمل في داخلها تاريخًا غنيًا وموارد جينية حاسمة لمستقبل السودان وأمنه الغذائي.
في ديسمبر من نفس العام، ومع سقوط مدينة ود مدني – ثاني أكبر المدن السودانية – في قبضة قوات الدعم السريع، بدأ سباق مع الزمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بنك الجينات الزراعي، أحد أهم المرافق البحثية في البلاد. ورغم التعتيم الإعلامي النسبي، إلا أن ما جرى خلال الأسابيع التالية يمثل واحدة من أكثر عمليات الحفاظ على التراث البيولوجي إثارةً وإلهامًا في تاريخ السودان الحديث.
انهيار ود مدني ونداء العلماء المنسي
لطالما اعتُبرت ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، ملاذًا للنازحين الفارين من جحيم المعارك في الخرطوم. لكن المدينة لم تكن بعيدة عن نيران الحرب، ففي ديسمبر 2023، اجتاحت قوات الدعم السريع المدينة بسرعة صادمة، منهيةً بذلك وهم “المنطقة الآمنة”. وبدلاً من حماية المدنيين، ارتُكبت انتهاكات جسيمة ضد السكان المحليين، وتعرضت المؤسسات الحيوية للنهب والتدمير، تمامًا كما حدث في العاصمة من قبل.
في خضم الفوضى، أطلق عدد من العلماء السودانيين نداءً لحماية منشأة قلّما تحظى بالاهتمام الإعلامي: بنك الجينات السوداني، الذي يقع مقره الرئيسي في ود مدني ويحتوي على أكثر من 17 ألف عينة من البذور، تشمل محاصيل رئيسية مثل الذرة الرفيعة والدخن والقمح والسمسم. لم يكن هذا مجرد مبنى إداري، بل خزينة حيوية للتراث الزراعي السوداني، وذاكرة بيئية لأجيال من المزارعين.
علي زكريا بابكر، مدير بنك الجينات، عبّر عن شعوره بالخذلان قائلاً: “لم نتوقع أن تهاجم قوات الدعم السريع ود مدني، لكن عندما فعلوا، كان علينا التحرك بسرعة. لقد توقعنا أنهم سيستهدفون البنك، كما فعلوا مع كل شيء آخر”.
إلى الأبيض… فالقطب الشمالي
مع فرار العاملين في بنك الجينات من ود مدني، اجتمع بعضهم في مدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، حيث يوجد فرع احتياطي للبنك يحتوي على نسخ مكررة من معظم العينات الأصلية. أدرك الفريق أن المنشأة في الأبيض قد تكون هدفًا قادمًا، وبالتالي، لا بد من اتخاذ إجراءات استباقية.
بدأت الخطة بتركيب نظام طاقة شمسية لضمان استمرار التبريد في ثلاجات حفظ البذور، ثم شرع الفريق في تصنيف وتجهيز شحنة طارئة تحتوي على أكثر من 2000 عينة بذور لنقلها إلى قبو سفالبارد العالمي للبذور في أقصى شمال الكرة الأرضية.
قبو سفالبارد، الذي يقع على جزيرة نرويجية في القطب الشمالي، صُمم ليكون “بوليصة تأمين” عالمية ضد الكوارث البيئية أو الحروب. يتم تخزين البذور فيه على درجات حرارة تصل إلى -18 مئوية داخل جبل من الصخور الصلبة، ويمكن لأي بنك جينات في العالم حفظ نسخ احتياطية هناك دون فقدان الملكية.
وقال بابكر: “أردنا أن نحافظ على جزء من البذور خارج السودان. إنها موارد لا تخصنا وحدنا، بل تخص العالم كله”.
مهمة محفوفة بالمخاطر عبر السودان
المهمة لم تكن بسيطة، فقد كانت مدينة الأبيض محاصرة جزئيًا من قبل قوات الدعم السريع، وكانت الطرق المؤدية إلى بورتسودان – الميناء الوحيد العامل في البلاد – خاضعة لنقاط تفتيش مشددة.
اضطر الفريق إلى شحن البذور بشكل سري، حيث تم تحميلها في صناديق مخفية في شاحنة تجارية لتجنّب التدقيق. امتدت الرحلة لأكثر من عشرة أيام عبر طرق ترابية مهجورة لتفادي القوات، دون أن يرافق أي موظف من الفريق الشحنة، منعًا لإثارة الشبهات.
علي بابكروبحسب بابكر: “لم نسلك الطريق المعتاد، بل طرقًا بديلة وغير معروفة لقوات الدعم السريع. كانت شحنة صغيرة لكنها تحمل في طياتها مستقبل الزراعة السودانية”.
وصلت الشحنة أخيرًا إلى بورتسودان، وهناك، تولى بريد السودان مهمة نقلها إلى النرويج، بدعم من منظمة Crop Trust، وهي مؤسسة غير ربحية تعمل على الحفاظ على التنوع الجيني للمحاصيل عالميًا. تقول نيليسا جامورا من المنظمة: “رغم الحرب، كان بريد السودان يعمل جزئيًا، واستطعنا إرسال الشحنة عبر البريد العادي”.
قبل الوصول إلى سفالبارد، مرت البذور بمركز NordGen في السويد، حيث تم فرزها وفهرستها وإعدادها للتخزين طويل الأمد.
وفي 25 فبراير 2025، وصلت البذور السودانية إلى قبو سفالبارد، برفقة شحنات أخرى من 19 بنكًا جينيًا حول العالم.
إرث عمره آلاف السنين… مؤمّن في جليد القطب
العينات التي تم حفظها شملت أصنافًا من المحاصيل التي عرفتها المجتمعات الزراعية السودانية منذ آلاف السنين، أبرزها الدخن اللؤلؤي والذرة الرفيعة، وهما من المحاصيل المقاومة للجفاف وتُعدّ ركيزةً للأمن الغذائي في مناطق واسعة من إفريقيا.
وأوضح بابكر: “هذه المحاصيل تمثل التراث الزراعي للسودان. هي ليست فقط حبوبًا، بل خلاصة تكيّف طويل مع البيئة القاسية. بعضها من أقدم المحاصيل التي عرفها الإنسان في وادي النيل”.
تخزينها في سفالبارد يعني أن السودان، رغم الدمار، لم يفقد تراثه الزراعي بالكامل. بل يمكن – عندما تسمح الظروف – إعادة إحياء هذه البذور وإطلاق دورة زراعية جديدة من جذور تاريخية عريقة.
العودة إلى ود مدني: مشهد الخراب
في يناير 2025، استعاد الجيش السوداني مدينة ود مدني. وعندما عاد فريق بنك الجينات إلى منشأتهم، وجدوا الكارثة: ثلاجات منهوبة، أجهزة كمبيوتر مدمّرة، وأكياس بذور ممزقة متناثرة على الأرض.
لكن لحسن الحظ، كانت النسخ المكررة آمنة في سفالبارد.
بدعم من منظمة الأغذية والزراعة (FAO) وصندوق المحاصيل، بدأت محاولات إعادة بناء البنك. يتم الآن تقييم الأضرار، وتجري محاولات لإعادة بناء قاعدة البيانات المفقودة، وسط تحديات هائلة تشمل انقطاع الكهرباء لساعات طويلة يوميًا وندرة الموارد الحكومية.
ميدل إيست آي