تشهد المنطقة الواقعة بين مدينتي النهود بولاية غرب كردفان والأبيض بولاية شمال كردفان أوضاعًا إنسانية قاسية، مع تفاقم معاناة آلاف النازحين الفارين من المعارك وسيطرة قوات الدعم السريع على المنطقة.
وفي شهادة لراديو دبنقا، روت نازحة من مدينة النهود تقيم حاليًا في قرية ود سلمان بالقرب من محلية ود بندة، أنها فرت من المدينة برفقة أطفالها، بينما بقي زوجها هناك بعد اجتياح الدعم السريع. وقالت إن قوات الدعم السريع نهبت سيارتها الخاصة وجميع مدخراتها، مضيفةً: “ذلك كان حصاد عمري، واليوم لا أملك شيئًا، وكل ما أفكر فيه هو النجاة والرحيل إلى مكان أكثر أمنًا”.
وأضافت أن نحو 95% من سكان مدينة النهود نزحوا إلى القرى المجاورة، التي تعاني من غياب تام لأبسط مقومات الحياة، مشيرة إلى تفشي الجوع وانعدام الرعاية الصحية. وقالت: “إذا لم تكن تملك مالًا، فمصيرك الموت جوعًا أو مرضًا”، مضيفة أن المراكز الصحية في تلك المناطق خالية تمامًا من الأدوية والخدمات الطبية.
وتابعت أن المواد الغذائية تكاد تكون معدومة، وإن وجدت فهي تُباع بأسعار باهظة من قبل قوات الدعم السريع، التي تبيع السلع التي نهبتها من المواطنين.
كما يشهد التنقل في المنطقة صعوبات بالغة وغلاء فاحش في أسعار التذاكر، إذ تتراوح كلفة الانتقال من ضواحي النهود إلى الأبيض أو أم درمان ما بين 500 ألف إلى مليون جنيه سوداني، حسب عدد أفراد الأسرة والمسافة. ويضطر السكان إلى استخدام عربات “الكارو” للتنقل بين القرى، فيما يعتمدون على شاحنات كبيرة من طراز “زد واي” و”كي واي” في السفرات الطويلة، وهي ذات الشاحنات التي تُستخدم عادة لنقل المواشي.
وصفت أوضاع التنقل بأنها “غير آدمية”، مما يعكس حجم الانهيار في البنية التحتية والخدمات الأساسية بالمنطقة.
وفي جنوب كردفان، تشهد مدينة كادقلي موجة نزوح كبيرة إلى مناطق سيطرة الحركة الشعبية جنوب شرق المدينة. وأكد ناشطون في العمل الطوعي نزوح أعداد كبيرة من الأفراد والأسر عقب الأحداث التي شهدتها المدينة الأسبوع الماضي.
وأوضح الناشطون أن أغلب النازحين، خاصة فئات الشباب، اتجهوا نحو مناطق التعدين في محافظة البرام بحثًا عن الأمن ووسائل كسب العيش.
ووصفوا الوضع بالكارثي، وأنه لم يعد بإمكان الشباب أن يحلموا، فالمدارس مغلقة، والوضع الإنساني منهار، والشارع ملكٌ للبندقية وحدها، لا صوت يعلو فوق صوت التجنيد القسري، ولا فرصة متاحة سوى الانضمام إلى المعركة أو الهروب منها.
محمد سيد، شاب يبلغ 21 عامًا، هرب بمعية سبعة آخرين من كادقلي إلى مناطق سيطرة الحركة الشعبية عبر طرق وعرة. وقال إنه وصل إلى قرية تقع تحت سيطرة الحركة الشعبية، ووجد نفسه غريبًا وسط سكان المنطقة، ولا يملك قوت يومه. وأوضح أن الخيارين الوحيدين اللذين تُركا لشباب كادقلي كانا التجنيد أو الموت.
التجاني محمد رقيق، شاب آخر من جنوب كردفان، فقد مدرسته ثم تم تجنيده في صفوف الجيش قسريًا. وقال: “إن السلطات ربطت عملية توزيع المواد الإغاثية بالتجنيد، حيث يأتون إلى المنزل ويجندون ما بين ثلاثة إلى أربعة من شباب الأسرة في الجيش مقابل منح الأسرة الطعام، حيث يتراوح راتبهم الشهري 120 ألف جنيه مع بضعة جوالات ذرة”.
وأضاف أنه التحق بالجيش في يوليو 2024، وتخرج في منتصف 2025 ضمن مجموعة من 15 شابًا.
وأضاف: “ذهبنا إلى منطقة الكيقا الخيل شمال كادقلي، ومن هناك دخلنا في المعارك وتم أسْرنا”. ويصف محمد الواقع الذي وُضع فيه بـ “الحبس الإجباري”، لا اختيار فيه ولا كرامة، حيث أصبح حمل السلاح هو المقابل الوحيد للراتب و”التعيين”.
أما علي محمد علي ضحية، أحد الهاربين أيضًا، فقال في سرده إنه تم تجنيده في وحدة الاستخبارات وكانت مهامه تتعلق بجمع المعلومات أو إحضار أشخاص لا يعرفهم، أو رصد مشاهدات لا يفهم غرضها. ووصف مهامهم بالأداء الآلي قائلًا: “لو رفضت، تُضرب، ولو سكت، تكون شريكًا”.
وأشار إلى أن تلك البيئة لم تكن سهلة، مما اضطره إلى الهرب إلى مناطق سيطرة الحركة الشعبية.
هؤلاء الثلاثة يمثلون شريحة واسعة من شباب كادقلي وجنوب كردفان: جيل حُرم من التعليم، دُفع إلى الحرب، ثم قفز نحو المجهول. هم اليوم في مناطق “محررة”، لا توجد فيها خدمات ولا وظائف ولا مدارس، لكنهم يعتبرونها رغم كل شيء، أكثر أمانًا من كادقلي التي سقطت في دوامة القهر والتجنيد.
في ظل تفاقم الأوضاع الإنسانية وغياب المساعدات الأساسية، أُطلقت مبادرة مدنية جديدة لإنقاذ حياة السكان المحاصرين منذ أكثر من عام.
وتقود المبادرة التي أُطلق عليها اسم “سنبلة الدلنج” الناشطة المدنية الدكتورة حنان أبوالكل، والتي دعت إلى تحرك عاجل لإنقاذ السكان من الجوع والمرض، مؤكدة أن المدينة تعيش عزلة خانقة منذ أشهر طويلة بسبب الحرب.
وتضمنت المبادرة عدة مقترحات عملية، من بينها:
وأكدت الدكتورة حنان أن الوضع في الدلنج تجاوز مرحلة التحذير، وأن “إنقاذ إنسان المدينة يجب أن يكون أولوية إنسانية عاجلة”. وتأتي هذه المبادرة في وقت تتصاعد فيه نداءات السكان المحليين ومكونات المجتمع المدني لإيصال المساعدات، وسط تقارير عن نقص حاد في الغذاء والدواء وارتفاع معدلات النزوح والهزال بين الأطفال.