بينما تنشغل السلطة بترقيع خطابها السياسي وتبرير فشلها الإداري، تتهاوى دعائم الإنتاج الزراعي في السودان، ويزحف شبح المجاعة على امتداد الوطن. الحرب لم تقتل الناس فقط في المدن، بل قضت على ما تبقى من قدرة على الزرع والحصاد، فيما يقف النظام الحاكم عاجزًا، متفرجًا، بل ومتواطئًا مع هذا الانهيار المريع.
إنها لحظة شبيهة بما حدث في عام 1906، عندما ضربت المجاعة التاريخية أرجاء البلاد، وأفنت جوعًا قرى ومدنًا وسلالات بشرية بأكملها. اليوم، وبينما تتكرر الأسباب: انعدام الأمن، انهيار الدولة، فشل الموسم الزراعي، وتفكك البنية الإنتاجية – لا يبدو أن من في يدهم الأمر يستوعبون حجم الخطر. أو لعلهم لا يكترثون.
موسم يلفظ أنفاسه
نقلت مصادر ميدانية لـ”أفق جديد” من القضارف – أكبر مناطق الإنتاج المطري في البلاد – أن الموسم الزراعي على وشك الانهيار الكامل. حتى نهاية الأسبوع الماضي، لم يُزرع سوى 35% فقط من المساحة المستهدفة، في وقتٍ تجاوز فيه فصل الخريف منتصفه، وسط شح شديد في الوقود والتمويل والتقاوى، وغياب تام للمبيدات والأسمدة.
يقول المزارع محمد يوسف عبد اللطيف في حديثه لـ”أفق جديد”: “الموسم الزراعي وصل إلى مرحلة حرجة، والمزارعون الآن في الحقول بلا تمويل ولا سماد ولا وقود. إذا لم تتدخل الدولة، فإن الموسم مهدد بالفشل الكامل”. وفيما أشار عبد اللطيف
إلى أن محاصيل الموسم الماضي ما زالت مكدسة في المخازن بسبب تدني الأسعار، حيث لم تتمكن الدولة من شراء الإنتاج أو تحريكه، كما لم تقم بتفعيل سياسة المخزون الاستراتيجي للتحكم في الأسعار، ما زاد من خسائر المزارعين، يذهب مزارع آخر – تحفظ على ذكر اسمه – في الاتجاه ذاته ولكن بلغة أكثر حسرة قائلا: “نحن نحرث بالأمل ونسمد باليأس. هذا موسم للمجاعة وليس للزراعة، الدولة اختفت، لا تمويل ولا دعم ولا سياسة واضحة، المزارعون الآن على وشك أن ينهاروا، ومعهم تنهار البلاد، ما يُزرع اليوم ليس خطة إنتاج قومية، بل محاولات فردية لبقاء الأسر على قيد الحياة”.
الجزيرة.. قلب توقف عن الخفقان
ولاية الجزيرة، التي كانت يومًا درة الإنتاج الزراعي في السودان، تقف الآن على أنقاضها. الحرب دمّرت المشروع، وعطلت طلمبات الري، ودفعت آلاف المزارعين إلى النزوح. تقول إفادات حصلت عليها “أفق جديد” من مزارعين بالمنطقة الوسطى، إن “السواد الأعظم من الأراضي لم يُزرع، وإن الحكومة لم تقدم أي دعم يذكر منذ بدء الحرب”.
ولم تكتفِ السلطات بالإهمال، بل أسهمت في مضاعفة الخسائر، حين امتنعت عن شراء محاصيل الموسم السابق، وتركت القمح مكدسًا في المخازن حتى تعفن، وسوّقت بعضًا منه بسعرٍ أقل من تكلفة زراعته، ما دفع كثيرًا من المنتجين إلى بيع ما تبقى من أراضيهم هربًا من الديون.
سلطة بلا إحساس بالكارثة
في ظل هذا الانهيار، لم يصدر عن وزارة الزراعة أي بيان يُطمئن المنتجين أو يعلن خطة إسعافية واضحة. يكتفي مسؤولو النظام بتصريحات فضفاضة، يتحدثون فيها عن “الاستعداد للموسم الزراعي” و”مجهودات الدولة”، في وقتٍ لم تُقدَّم فيه جالون وقود واحد من قبل الدولة للمزارعين.
خبير الإنتاج الزراعي الطيب فتح الرحمن، حذر من أن البلاد تتجه إلى “كارثة مجاعة مكتملة الأركان”، وقال لـ”أفق جديد”: “ما يحدث اليوم ليس مجرد فشل موسم، بل تآكل لما تبقى من قدرة وطن على العيش. الحكومة، إن جاز تسميتها كذلك، تبدو وكأنها تسعى لإفناء هذا الشعب بصمت الجوع”.
الفاو تعد.. والمزارع يختنق
كما وعدت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة بتوفير تقاوى لأكثر من 700 ألف مزارع، أظهرت الوقائع أن معظم تلك الكميات لم تصل، وإن وصلت فإنها توزع على مناطق محددة، دون عدالة ولا خطة قومية. تقول مصادر “أفق جديد” إن بعض برامج الفاو خضعت لضغوط من القوات المسيطرة على الأرض، ما أدى إلى تسييس التوزيع وإقصاء مناطق بأكملها.
البلاد على شفا هاوية
ما لم يُتدارك الوضع خلال أيام، فإن ملايين السودانيين سيكونون عرضة لخطر المجاعة المباشر خلال موسم الحصاد المقبل. المنظمات الدولية بدأت بالفعل في تصنيف السودان ضمن أعلى درجات الخطر الغذائي، ومع ذلك، لا تظهر في الخرطوم أي ملامح لتعبئة وطنية، ولا في بورتسودان أي خطة دولة، ولا في الإدارات المحلية أي استشعار لمسؤولية.
إن السودان يتجه إلى الهاوية الزراعية، والمجاعة تدق الأبواب في بلد لا يزرع ما يأكل ولا يستورد ما يحتاج. والمؤسف أن الجوع هذه المرة لن يكون من فعل الطبيعة، بل نتيجة مباشرة لفشل سياسي، وسوء إدارة، ولا مبالاة متعمدة.
من المحرر
جمعنا العديد من الشهادات الميدانية وأصوات منتجين ومزارعين وخبراء من مناطق القضارف والجزيرة والنيل الأبيض وسنار، لكن خوف أصحابها من الملاحقة دفعنا إلى عدم نشرها، وجميعها تجمع على شيء واحد: فشل كارثي للموسم الزراعي هذا العام. وتحمل سلطات بورتسودان هذا الفشل، وبدورنا نحمل من هم في موقع القرار كامل المسؤولية التاريخية عن كل حياة تُزهق بالجوع.
أفق جديد