في القانون الدولي لحقوق الإنسان، تُعدّ حرية التنقل حقاً أساسياً مكفولاً لكل فرد، يتضمن حرية المغادرة، الانتقال داخل الحدود الوطنية، واختيار مكان الإقامة. ويتفرع منه حق آخر لا يقل أهمية: الوصول إلى الغذاء، الدواء، والمساعدة الإنسانية دون تمييز أو عرقلة. لكنّ هذا الحق يبدو اليوم طيفًا بعيدًا عن مدينة الفاشر، التي تقف شاهدة على أحد أبشع انتهاكاته في سياق الحرب السودانية التي اندلعت في نيسان/أبريل 2023.
مع دخول الحرب عامها الثالث، أصبحت مدينة الفاشر رمزًا لمعاناة المدنيين في السودان، إذ تعيش تحت حصار خانق تفرضه قوات الدعم السريع منذ آيار/مايو 2024، ما أدى إلى كارثة إنسانية حقيقية. في مشهد مأساوي يتكرر كل يوم، يجد المدنيون أنفسهم بين فكي كماشة: البقاء في مدينة تلتهمها المجاعة، أو المغادرة عبر طرق محفوفة بالقنص والخطف والانتهاكات. وبين هذا وذاك، تتلاشى المعايير الإنسانية، ويتحول الحق في الحياة إلى رفاهية بعيدة المنال.
مدينة تغرق في الصمت والدمار
تحاصر قوات الدعم السريع مدينة الفاشر بشكل كامل منذ أكثر من عام، مانعة دخول الغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني. وقد تصاعدت الهجمات في الأسابيع الأخيرة، حيث تستهدف القذائف الأحياء السكنية والمراكز الطبية، ما جعل المدينة غير قابلة للعيش، بحسب منظمات محلية.
في 30 آيار/مايو الماضي، قصفت قوات الدعم السريع مخازن برنامج الأغذية العالمي «WFP»، ما أدى إلى تدمير كامل للمخزون الغذائي واللوجستي. ومنذ ذلك الحين، ارتفعت مؤشرات المجاعة بشكل كارثي، حيث أفادت شبكة أطباء السودان بأن مئات الأطفال لقوا حتفهم جوعًا، بينما يواجه عشرات الآلاف المصير ذاته في ظل غياب كامل للاستجابة الإنسانية الفعالة.
وتقول لجان المقاومة في الفاشر إن قوات الدعم السريع حفرت خنادق حول المدينة لمنع دخول أي مساعدات، متهمةً إياها بتجويع السكان كتكتيك حربي، وهو ما يشكل جريمة حرب وفق اتفاقيات جنيف.
طريق الهروب محفوف بالموت
لعلّ أشد ما يفضح انتهاك حرية التنقل في الفاشر هو ما حدث في معسكر زمزم للنازحين، حيث وثّقت تقارير ميدانية مقتل مئات المدنيين خلال اجتياح قوات الدعم السريع للمعسكر، في نيسان/أبريل الماضي. لم يكن القتل وحده هو الجريمة، بل إن من حاولوا الفرار من المجزرة واجهوا قنصاً واختطافاً واغتصاباً، حسب شهادات ناجين.
وكشفت لجان المقاومة الفاشر في نيسان/أبريل الماضي عن تصفية عدد من المدنيين خلال محاولتهم الفرار من معسكر زمزم للنازحين المتاخم لمدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، غرب السودان. ونشرت صورا لأسرة مقتولة في محيط المعسكر بعد اجتياحه من قبل قوات الدعم السريع ومقتل المئات من المدنيين في الهجوم. فيما أشارت إلى ان البقاء في المعسكر أو مغادرته كلاهما موت محتم.
في 27 نيسان/أبريل، قال محمد خميس دودة، المتحدث باسم مخيم زمزم، إن ميليشيا موالية للدعم السريع اختطفت موظفي إغاثة كانوا في طريقهم إلى الإجلاء. اتُّهم هؤلاء بالانتماء إلى الجيش السوداني، وتم احتجازهم، في انتهاك واضح لحصانة العاملين في المجال الإنساني.
وقد وثّقت الأمم المتحدة حالات اغتصاب جماعي داخل المعسكر وخلال محاولات الفرار، شملت نساء وفتيات وحتى فتيان، وسط مخاوف من أن يكون عدد الضحايا أعلى بكثير مما أُعلن.
وتشير منظمات إنسانية إلى أن آلاف النازحين لم يعودوا قادرين على مغادرة المدينة بسبب إغلاق المسارات وتعرض من يحاول الخروج للقتل أو الاعتقال، ما جعل المدينة «سجناً مفتوحًا» على حد تعبير أحد سكان الفاشر.
قوانين تقيّد وتُعاقب: التضييق في مناطق الجيش
إذا كانت قوات الدعم السريع تمارس الحصار بالقوة، فإن السلطات في مناطق سيطرة الجيش تمارس التضييق بالقانون، وتحديداً قانون «الوجوه الغريبة» الذي يُتيح اعتقال أي شخص يُشتبه بأنه لا ينتمي إلى «المنطقة المحلية»، ما حول حياة آلاف النازحين إلى جحيم من الشكوك والاستهداف.
وبعد معارك عنيفة مع الجيش تراجعت قوات الدعم السريع في نيسان/أبريل الماضي إلى منطقة صالحة جنوب أمدرمان، التي كانت آخر معاقلها في العاصمة، قبل أن يسيطر الجيش لاحقا على العاصمة بالكامل.
وفي ظل احتدام المعارك هناك، حاول عدد من المدنيين الخروج من المنطقة إلى أنهم دفعوا حياتهم ثمنا لمحاولة النجاة بعد اتهامهم بالتعاون مع الجيش. حيث وثقت منظمات حقوقية عمليات تصفية ميدانية ضد مدنيين اتهموا بالتعاون مع الجيش. في 26 نيسان/أبريل الماضي، أظهرت مقاطع مصورة إعدام 31 مدنيًا بعد تكبيلهم وتجريدهم من بعض ملابسهم، في جريمة وصفتها شبكة أطباء السودان بأنها «أكبر مجزرة موثقة» ضد المدنيين في تلك المنطقة.
هذا المناخ من الارتياب والاستهداف جعل حرية التنقل في السودان مشروطة بالهوية القبلية والانتماء السياسي، بما يهدد بانهيار النسيج الاجتماعي ويجعل من التنقل هروبًا لا مغادرة.
انتهاك صارخ للقانون الدولي:
أين الحماية؟
ينص القانون الدولي الإنساني على أن المدنيين في زمن النزاعات يجب أن يتمتعوا بالحماية من الهجمات وأن تُتاح لهم حرية التنقل والوصول إلى المساعدات. وتُلزم اتفاقيات جنيف أطراف النزاع بتسهيل وصول الإغاثة وعدم استهداف المدنيين.
لكن في الفاشر، تبدو هذه النصوص وكأنها غير موجودة. فالدعم السريع يُتهم بتجويع السكان والاغتصاب ومنع الإغاثة. وتقول مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إن ما يحدث في الفاشر ومحيطها يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، خاصة مع تزايد العنف الجنسي والانتهاكات الممنهجة بحق المدنيين والعاملين في الإغاثة.
الأطفال والنساء يدفعون الثمن الأكبر
في قلب هذه المأساة، تقف الفئات الأكثر هشاشة على حافة الهلاك. تشير تقارير طبية إلى أن مئات الأطفال لقوا حتفهم بسبب الجوع في الفاشر، بينما تشير تقديرات إلى أن عدد المتأثرين من النساء الحوامل والمرضى وكبار السن في تصاعد مستمر.
النساء، في ظل غياب الأمن والعدالة، يتعرضن للاستهداف المباشر من قبل القوات المحاصِرة. وتقول مفوضية حقوق الإنسان إن بعض النساء تعرّضن للاغتصاب المتكرر، وتم استهدافهن على أساس العرق.
وفي ظل توقف أغلب مرافق الرعاية الصحية، باتت الحالات المرضية الحرجة بلا علاج، وسط تحذيرات من انهيار كامل في منظومة الحياة بالمدينة.
مطابخ الأحياء: شريان حياة يتلاشى
في مواجهة الجوع، اعتمدت أحياء الفاشر على مطابخ تطوعية جماعية تُعد الوجبات للفقراء والنازحين. لكنها سرعان ما بدأت تتوقف واحدًا تلو الآخر بسبب نفاد الموارد وعدم وجود أي دعم.
هذه المطابخ كانت الأمل الوحيد لعشرات الآلاف، لكنها اليوم تصارع من أجل البقاء، في ظل رفض الدعم السريع لأي هدنة إنسانية تسمح بإدخال الغذاء والدواء.
وتقول لجان المقاومة في مدينة الفاشر إن كل مبادرة مدنية تُواجه بالتصفية، وإن الدعم السريع يقتل من يحاول إدخال بضائع أو مساعدات للمدينة، في سياسة ممنهجة لتجويع السكان.
النداءات الدولية والمواقف المتضاربة
في حزيران/يونيو الماضي، دعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى هدنة إنسانية في الفاشر، فوافقت الحكومة، بينما رفضتها قوات الدعم السريع التي قالت إن المدينة «منطقة عمليات عسكرية»، ودعت إلى توجيه الإغاثة إلى مناطق تحت سيطرتها خارج المدينة.
دعوة حركة جيش تحرير السودان (الموالية للدعم السريع) للمدنيين بمغادرة الفاشر نحو مناطق سيطرتها وُجهت بانتقادات حادة، حيث اعتبرتها لجان المقاومة محاولة لتهجير قسري. وقالت: «الهدف من الحصار ليس فقط الإخضاع بل الإفراغ الديمغرافي للمدينة.»
وبينما تؤكد الحركة استعدادها لفتح الممرات، تقول تقارير ميدانية إن الطرق التي تقترحها الحركة مليئة بالنقاط الأمنية التي قد تُستخدم في اعتقال المدنيين أو تجنيدهم قسرياً.
وقالت تنسيقية لجان مقاومة الفاشر، أنه في الوقت الذي تنادي فيه الأصوات الدولية بهدنة إنسانية لإيصال الإغاثة، تصعد قوات الدعم السريع عمليات القصف المدفعي الموجهة نحو الأحياء السكنية ومعسكرات النازحين. وتقوم بحفر خنادق حول المدينة المحاصرة، وأغلقت كل الطرق والمسارات المؤدية إلى الفاشر.
واتهمتها بالتضييق على كل جهد مدني أو إنساني يسعى لتخفيف المعاناة وتقتل كل من يحاول ادخال البضائع إلى المدينة، مضيفة: «إنها ببساطة لا توافق على أي هدنة ولا تعترف بأي التزام إنساني أو قانوني».
وتابعت: «أن هذه الميليشيا لا تفهم لغة الحوار ولا تلتزم بالمواثيق بل تستغل الصمت الدولي لتكريس سيطرتها بالإرهاب والتجويع» محذرة من أن ما يحدث في الفاشر هو حصار متعمد وقتل بدم بارد وأن الهدف «تركيع المدينة وإخضاع أهلها».
ولفتت إلى أن فك الحصار عن الفاشر، لن يأتي بالدعوات أو النداءات ولا ورقة هدنة توقعها «الدعم السريع» مشيرة إلى أنه في ظل هذا «المشهد المظلم» لن يتم فك الحصار عن المدينة إلا بالقوة.
وقالت: «لا سلام يرجى ممن يتخذ القتل وسيلة ولا هدنة تُنتظر ممن لا يحترم حياة المدنيين» محذرة من أن الفاشر لا تحتمل الانتظار والسكوت عما يجري.
واعتبرت السكوت عن ما يحدث في المدينة من انتهاكات مروعة هو تواطؤ، مهما تنوعت المسميات.
فيما طالبت حركة المستقبل للإصلاح والتنمية، مجلس الأمن الدولي باتخاذ إجراءات عقابية بحق الدعم السريع وداعميها وتنفيذ القرار الأممي رقم «2736» الذي طالب الدعم السريع بفك حصار الفاشر، مضيفة: «تواصل قوات حميدتي تجاهل القرار الأممي لأكثر من عام».
ودعت قيادة الاتحاد الأفريقي بالاضطلاع بدور أكبر تجاه السودان عبر تقديم الدعم لمجابهة تحديات تثبيت الاستقرار.
وتتهم وزارة الخارجية السودانية قوات الدعم السريع بعدم الاكتراث بالقرارات الأممية. طالبت الحكومة السودانية المجتمع الدولي باتخاذ إجراءات عاجلة للضغط على الدول التي تتهمها بدعم قوات الدعم السريع وتزوِّيدها بالأسلحة والمعدات العسكرية، مشيرا إلى أن تلك الأسلحة تُستخدم يومياً لقتل الأبرياء في إقليم دارفور وانحاء السودان المختلفة، مما يشكل تهديداً للسلام الإقليمي والدولي.
وفي حزيران/يونيو من العام الماضي أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً تحت الفصل السادس دعا إلى التهدئة في شمال دارفور.
وطالب قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة رقم 2736، المعتمد في 13 حزيران/يونيو من العام 2024، قوات الدعم السريع بوقف حصارها لمدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، داعيا إلى خفض التصعيد في المدينة ومحيطها وسحب جميع المقاتلين الذين يهددون سلامة وأمن المدنيين، فيما طالب جميع أطراف النزاع بالتزام القانون الدولي الإنساني.
وطالب جميع الدول بالامتناع عن التدخل وعدم تأجيج الصراع والامتناع عن نقل الأسلحة والعتاد لدارفور.
ودعا القرار الأممي الصادر عن مجلس الأمن الدولي طرفي القتال بالتهدئة والالتزام بالتنفيذ الكامل لإعلان جدة الخاص بحماية المدنيين الموقع في 11 آيار/مايو من العام 2023.
وحذرت الأمم المتحدة من تصاعد العنف المسلح على نطاق واسع في مدينة الفاشر مما يهدد حياة الآلاف من المدنيين خاصة في مخيمات النازحين داخليًا، المكتظة بآلاف الفارين من المعارك.
وتحاصر قوات الدعم السريع مدينة الفاشر منذ آيار/مايو من العام الماضي، بينما تحتدم المعارك بين الجيش السوداني والقوات التي يتزعمها محمد حمدان دقلو «حميدتي» في ولايات كردفان، حيث يحاول الجيش فتح الطريق نحو آخر معاقله في إقليم دارفور، مدينة الفاشر العاصمة التاريخية للإقليم الواقع غرب البلاد.
عندما تصبح الطرق
أخطر من الموت نفسه
الوضع في مدينة الفاشر اليوم يُجسد انهيار المنظومة الإنسانية في حرب طاحنة بات المدنيون وقودها الرئيسي. تُقيّد حرية التنقل بالسلاح، وتُمنع المساعدات بالمدافع، وتُدفن القوانين تحت ركام المدينة المحاصَرة.