حين تدوي أول رصاصة في حربٍ، نبحث عن من أطلقها، لا فقط من أصيب بها.
وفي الحرب السودانية التي تفجرت في 15 أبريل/نيسان 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ظل سؤال «البداية» معلقاً في فضاء مشحون بالدم والدخان، تُغلق دونه الروايات الرسمية أبوابها، وتُحجَب خلفه الحقيقة وسط زحام الروايات المتضاربة والمصالح المتشابكة.
وفي سلسلة حوارات خاصة، تفتح «العين الإخبارية» الصندوق الأسود لحرب السودان، من خلال مقابلة مطوّلة مع السياسي البارز مبارك الفاضل المهدي، رئيس حزب الأمة السوداني، وأحد الشهود المطلعين على دهاليز السياسة في بلاده وتشابكاتها المعقدة.
ويكشف في هذا الحوار حقائق مثيرة حول خلفيات الحرب الأخيرة، ودور التنظيم الإخواني في إشعالها، والاختراقات التي طالت الجيش، ومآلات المشهد السياسي والعسكري الراهن.
في بداية الحوار، علّق مبارك الفاضل على تغريدة أثارت جدلاً واسعاً كتبها عبر منصة «إكس»، قال فيها إن: «التنظيم الإخواني في السودان هو من أطلق الرصاصة الأولى وتسبب في اندلاع الحرب الأخيرة».
وأوضح الفاضل خلفية تصريحه قائلاً: «ما دفعني للتغريدة هو التصريح الصادم لقائد الفرقة الأولى مشاة في الباقير، لقناة القوات المسلحة، والذي أكد أن وحدتهم فتحت النار فجر السبت 15 أبريل/نيسان في المدينة الرياضية، حيث كانت تتمركز قوات الدعم السريع. هذه المعلومة لم تكن معروفة، لكنها غيّرت من تفسير المشهد برمّته».
ويتابع: «إذا كان القائد العام للجيش ونوابه والقادة الكبار في حي المطار لم يكونوا مستعدين، بل كانوا نائمين وتمت محاصرتهم واعتقال عدد منهم، فمن الذي أعطى الأوامر بالهجوم؟ بالتأكيد جهة أخرى داخل المؤسسة، جهة موازية، وهي في تقديري: الحركة الإسلامية السياسية، ممثلة في التنظيم الإخواني».
ويضيف الفاضل: «هذه المجموعات التي تضم علي كرتي، وعلي عثمان، وأسامة عبد الله، أعادت ترتيب صفوفها بعد الثورة، وسعت للتخريب من داخل المؤسسات، وكانت تنتظر لحظة الانقضاض، وقد وجدتها في هذا الاشتباك».
وفي معرض تحليله لطبيعة الصراع، يربط المهدي بين ما جرى وبين مدى تغلغل الإخوان داخل الجيش السوداني، فيقول: «الإخوان في عهد البشير أدخلوا نحو 30 ألف ضابط إلى الجيش، أغلبهم في تخصصات فنية دقيقة، مما يجعل تأثيرهم باقياً، حتى بعد الثورة. وقد لفتُّ النظر لهذه النقطة لأني أعتقد أنها كانت عنصراً مركزياً في إشعال الحرب».
ويضيف: «تيار الإسلاميين أراد خلط الأوراق، ونجح في إبعاد القوى المدنية تماماً، ووجد في الجيش ملاذاً للعودة إلى السلطة. وقد احتضنهم الفريق البرهان، وموّلهم، وسمح لهم بإعادة ترتيب صفوفهم، حتى أنهم نظموا مؤتمر شورى التنظيم في عطبرة قبل اندلاع الحرب».
ويؤكد السياسي السوداني البارز، أن هذا التيار أراد «اختطاف البلاد مجدداً عبر البندقية»، ويضيف: «في لحظة كانت فيها الأطراف قريبة من التوصل إلى تسوية، أشعلوا الحرب. وكان لا بد من فضح هذا المشروع أمام المجتمع الدولي قبل الدخول في أي ترتيبات سياسية جديدة».
وحول إصلاح المؤسسة العسكرية وتحريرها من نفوذ التنظيمات، يرى الفاضل أن الأزمة أكبر من مجرد إبعاد تيار سياسي، بل تتعلق بهيكلة الجيش من جذوره.
ويقول «الجيش تعرض لعملية إضعاف ممنهجة خلال عهدي نميري والبشير. لم يكن هنالك تجنيد واسع، وتم الاعتماد على قوات بديلة ذات طابع قبلي أو ديني، كالدفاع الشعبي وحرس الحدود والدعم السريع. وغياب قوة المشاة جعل الجيش نفسه هشاً».
ويتابع: «في عهد البشير، حوّلوا الحرب الأهلية إلى حرب عقائدية ضد الجنوب، وزجوا بالشباب في معارك خاسرة. وعندما خُيّروا بين سودان موحد بدون سلطة، وسودان مقسّم مع استمرار حكمهم، اختاروا الانفصال».
ويرى الفاضل أن الجيش يحتاج إلى إعادة بناء قومية قائلا: «نحن بحاجة لجيش يمثل كل أقاليم السودان، بحسب ثقلها السكاني، وجيش مدني العقيدة، لا متحزب الولاء. يجب أن تُعاد صياغة الكلية الحربية لتُنتج ضباطاً مؤمنين بالديمقراطية، لا خصوماً لها».
وفي مقترح لافت، دعا الفاضل إلى: «إبعاد المعسكرات ومقر القيادة من وسط الخرطوم”، معتبرا أن وجودها هناك “هو ما جعل العاصمة رهينة نيران الحرب، وتسبب في الكارثة التي شهدناها».
مستطردا «لا بد من منع التحزب داخل صفوف الجيش. فالتجربة أثبتت أن دخول الإخوان والبعثيين والناصريين والشيوعيين في المؤسسة العسكرية دمّر الجيش، وأدخل ثقافة الولاء قبل الكفاءة».
ويختم حديثه بالقول: «إعادة بناء الجيش لا يمكن أن تكون مؤجلة. هذه مهمة عاجلة ومرتبطة ببناء الدولة الجديدة. السودان لن ينهض دون جيش وطني، محترف، محايد، يحمي الديمقراطية ولا ينقلب عليها».