الزيارة التي كشفت عنها صحيفة «جيروزاليم بوست»، عبر تقرير للصحافي نيفيل تيلر فجر اليوم الاثنين لم تكن مفاجئة، لكنها كانت فاضحة وفضيحة، فالصحيفة قالت بشكل لا لبس فيه إن الفريق عبد الفتاح البرهان، أرسل مستشاره الأقرب الصادق إسماعيل إلى تل أبيب، برسائل صريحة تتضمن الاستعداد الكامل لإعادة توقيع اتفاق التطبيع علنًا، مقابل دعم سياسي وعسكري في صراعه مع قوات الدعم السريع، هذه القصة لم تكن مجرّد خبر عابر، لقد كانت مرآة كاملة تعكس وجه هذه السلطة، ووجه التيار الإسلامي الذي يدّعي احتكار الوطنية والدين.
لا داعي للمراوغة هنا
«جيروزاليم بوست» ليست صحيفة رأي مستقلة، بل هي النافذة الإعلامية التي تعبّر عن صوت الحكومة الإسرائيلية، وتُستخدم غالبًا لتسريب الرسائل من وإلى تل أبيب. وبالتالي، فإن ما ورد فيها ليس ترفًا صحفيًا، بل رسالة سياسية مدروسة خرجت من المطبخ الرسمي الإسرائيلي، لتقول ببساطة: من يرفعون في وجوه خصومهم راية العداء لإسرائيل، هم اليوم يطرقون أبوابها برجاءٍ وانكسار.
هل يجرؤ علي كرتي – الأمين العام للحركة الإسلامية، وعرّاب خطاب “الهوية” و”التمكين” و”استهداف المشروع الإسلامي” – أن يعلّق على هذه الفضيحة؟
هل يملك الشجاعة ليخرج أمام قواعده التي ضلّلها لسنوات، ويقول لهم إن الرجل الذي يدافعون عنه ليلًا ونهارًا، الذي تغنّوا بأنه حامي الشرعية وربما “الشريعة”، قد أرسل موفده إلى “الصهاينة” بطلبات واضحة: إعادة التطبيع، الدعم العسكري، الترويج السياسي في واشنطن، والوساطة مع الإمارات؟
الذين قالوا “هي لله”، هم من باعوا الدين ولم يبايعوا الله كما يدعون. والذين زعموا أنهم أهل الثبات على “الثوابت”، هم من كسروها أولاً، وخانوها أخيرًا، وخيانتهم لا يمكن تسويقها على أنها “مصلحة وطنية”.
إن الخيانة لا تكمن في الذهاب إلى إسرائيل – فهذه خطوة سياسية يحكمها السياق والموقف والمصلحة الوطنية – بل في أن تكون قد قضيت ردحًا من الزمان تعبّئ الناس ضدها، وتحشد الشباب للجهاد ضدها، ثم تركع لها في لحظة انكسار، وتساوم باسمها على دم شعبك.
هؤلاء لا يؤمنون بالدين، بل يستخدمونه، ولا يؤمنون بالوطن، بل يُوظفونه، ولا يرون في الدولة إلا وسيلة، وفي الناس إلا أدوات، هم قومٌ يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا، ويقايضون القيم بالسلطة، ويقايضون المبادئ بالمناصب، ويصوغون أخطر جريمة سياسية باسم أنبل الكلمات.
وفي الوقت الذي تُزج فيه جموع الشباب إلى المحرقة في الخرطوم وكردفان ودارفور، ويُقال لهم إن “الدين مستهدف”، وإن “الهوية مهددة”، وإن “المشروع الإسلامي في خطر”، كان الكبار – كعادتهم – يُجرون المفاوضات في الخفاء، ويعرضون على “الصهاينة” صك براءة سياسية، ويمنحون واشنطن مفاتيح البلاد مقابل الإبقاء على كرسي هشّ لا يُسمن ولا يُغني من شرعية وببجاحة يحسدون عليها يتهمون غيرهم بالعمالة.
هذه ليست سياسة، بل وقاحة استراتيجية، وهذه ليست براغماتية، بل سقوط أخلاقي كامل، وما يزيد الجريمة فظاعة أن من يديرون هذه الصفقات هم أنفسهم الذين صادروا المجال السياسي طوال ثلاثة عقود، ثم عادوا اليوم عبر ثياب “الجيش” و”الوطن” و”الشريعة”، ليرتكبوا الجريمة نفسها: بيع البلاد، وقتل أبنائها، وتزوير وعيها.
البرهان، الذي يقدّم نفسه كواجهة “الشرعية” و”السيادة”، لم يكن يومًا مشروع دولة، بل كان – ومنذ أول انقلاب 25 أكتوبر – مجرّد وكيل لجماعة لا تؤمن بالدولة ولا بالمجتمع ولا بالوطن، وحين تشتد عليه الهزائم، لا يلجأ إلى الشعب، بل يلجأ إلى العواصم التي ظل يشتمها لسنوات، فإذا ما استجابوا له، صار “صاحب رؤية”، وإذا صدّوه، اقترب من طهران، وكل ذلك باسم “مصلحة السودان”، بينما السودان يُنهب، يُقسّم، يُفقر، ويُسحق كل يوم تحت آلة العسكرة والإسلاموية. أما علي كرتي، فهو لم يتغير، فهو ذات الخطاب الخشبي، وذات العقلية الأمنية، وذات الهروب من المساءلة، وذات اللعبة القديمة: استخدم الدين لتكميم الأفواه، واستخدم الوطنية لإقصاء الخصوم، وابقَ في الظلّ حتى تتعب الناس، ثم عد إليهم على صهوة “الخطر القادم”، لكن السودانيين ليسوا كما كانوا، والذاكرة لم تعد قابلة للمحو، ومن ماتوا في الجنوب باسم “الجهاد”، ومن قُتلوا في دارفور باسم “السيادة”، ومن يُدفنون اليوم بصمت باسم “الكرامة”، كلهم يعرفون الآن أن اللعبة كانت واحدة، وإن تغيّرت الأسماء، لكن القتلة بقوا كما هم، يغيّرون لافتاتهم فقط، لا أخلاقهم.
الآن، وأكثر من أي وقت مضى، لم تعد المواجهة مع هذا التيار مواجهة فكرية فقط، بل معركة وجود بين من يريد وطنًا عادلًا يعيش فيه الناس بكرامة، ومن يريد “سلطة مؤبدة” يحكم فيها باسم الله، ويفاوض فيها باسم الشيطان.
إن سكوتنا عن هذه الفضيحة يعني أننا نمنحهم ترخيصًا أخلاقيًا لمواصلة القتل، وإن ترددنا في فضح هذه الخيانات يفتح الباب لجولة جديدة من التضليل، وإن صمت قادة الرأي والدين والمجتمع عن خيانة الدين والوطن، يعني ببساطة: أننا رضينا أن نكون شهود زور في جنازة البلاد.
لكننا، في “أفق جديد”، نكتب لا لنُسجّل فقط، بل لنُعلن أن المعركة الحقيقية ليست بين الجيش والدعم السريع، بل بين الشعب وتلك النخبة التي باعت كل شيء، ثم ادّعت أنها المخلّص.
وأن من يبيعون الوطن باسم “الثوابت”، هم أول من يجب أن يُسقطهم الوعي، وأن تحاصرهم الذاكرة، ويكتب عنهم التاريخ لا كقادة، بل كجراحٍ مفتوحة في جسد السودان>
أفق جديد