شهدت مدينتا ود مدني والمناقل بولاية الجزيرة موجة من الاعتقالات استهدفت متطوعين وناشطين في تكرار لممارسات الأجهزة الأمنية التي سادت عهد النظام السابق.
تعيش حرية الصحافة في السودان اليوم إحدى أكثر لحظاتها قتامة، ولم تكن خلال السنوات الماضية بأفضل حال مما هي عليه الآن في خضم الحرب التي أدخلت البلاد في نفق مظلم من العنف والانهيار المؤسسي. في هذا المشهد المأزوم لم يعد ينظر إلى الصحافيين كمجرد ناقلين للوقائع، بل باتوا هدفاً مباشراً لطرفي النزاع.
ولعل حادثة اعتقال الصحافيين نصر يعقوب ومحمد أحمد نزار بمدينة الفاشر في شمال دارفور تجسد هذا الواقع. ففي السابع من يوليو (تموز) الجاري قامت عناصر تتبع لـ”حركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي”، المتحالفة مع القوات المسلحة بقيادة عضو مجلس السيادة صلاح رصاص باعتقالهما ونقلهما إلى أحد مقارها، من متجر بمخيم أبو شوك، عقب أيام من حادثة إطلاق نار استهدفت يعقوب بسبب رفضه تسليم جهاز “ستارلينك”، وهو وسيلة الاتصال شبه الوحيدة بالإنترنت في المناطق المعزولة كان الصحافيان يستخدمانه لنقل مشاهدات الحرب على صفحتيهما في “فيسبوك” إلى ما يزيد على 15 ألف متابع مشترك، مما يفسر حدة الرد الأمني ضدهما.
لا يقتصر المشهد على دارفور وحدها، فقد شهدت مدينتا ود مدني والمناقل بولاية الجزيرة موجة من الاعتقالات استهدفت متطوعين وناشطين في تكرار لممارسات الأجهزة الأمنية التي سادت عهد النظام السابق. وجرى اعتقال الطبيب المتطوع محمد طلب واعتقال متكرر للمتطوع محمد أزهري من دون توجيه تهم رسمية أو فتح بلاغات قانونية، وفق ما أكدته منظمات حقوقية عبرت عن قلقها من عودة مناخ القمع الذي ظن كثر أن السودان قد تجاوز مرحلته بزوال عهد الرئيس السابق عمر البشير.
تنظر السلطات إلى تغطية وسائل الإعلام، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما في مناطق النزاع، بوصفها نشاطاً حساساً يتقاطع مع اعتبارات الأمن والاستقرار. وفي سياق تصاعد التوترات الميدانية، كما هو الحال في الفاشر وود مدني، تتصاعد مخاوف السلطة من تسريب معلومات ترى أنها تضر بالمجهودات العسكرية، إذ تنظر بعض الجهات الرسمية إلى تحركات الصحافيين ونشاطاتهم بوصفها مهددات محتملة أو أدوات لتأجيج الرأي العام، ما يفسر تصاعد وتيرة الاعتقالات، إلا أن ذلك يثير تساؤلات واسعة في شأن مستقبل الحريات الصحافية وتضييق مساحة التعبير في بلد يعيش على وقع نزاعات متشابكة وصراعات نفوذ.
قالت المحامية وصال عبدالله، “يشهد السودان عودة مقلقة إلى الأسلوب القمعي حيث أصبح كل من يعمل في المجال الإنساني أو الإعلامي عرضة للاعتقال التعسفي والاستهداف المباشر، لا لشيء سوى لقيامه بواجبه المهني أو الإنساني”. واستنكرت احتجاز الصحافيين بمدينة الفاشر من دون أوامر قضائية واضحة، ومن دون تمكينهما من الاتصال بمحامين أو تقديمهما لمحاكمات عادلة، وهو ما يعد انتهاكاً صارخاً لنصوص القانون السوداني والدولي. وأوضحت أن “قانون الإجراءات الجنائية السوداني لعام 1991، في مادتيه (77) و(83)، ينص على حق المحتجز في معرفة سبب احتجازه، وفي الاستعانة بمحامٍ، وتقديمه للمحكمة خلال أجل أقصاه 24 ساعة من التوقيف، وهو ما جرى تجاهله تماماً في هذه الحالات”. وأضافت أن “هذه الممارسات تتعارض كذلك مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صدَّق عليه السودان، والذي يضمن الحق في الحرية والأمان الشخصي، ويمنع الاعتقال التعسفي (المادة 9)”.
أصبح كل من يعمل في المجال الإنساني أو الإعلامي عُرضة للاعتقال التعسفي والاستهداف المباشر (حسن حامد)
وانتقدت إعادة تشكيل نقابة المحامين في ظل غياب العملية الانتخابية الحرة، معتبرة أن النقابة باتت أشبه بـ”واجهة قانونية للسلطة” تضفي شرعية زائفة على الانتهاكات، حيث يقتصر تمثيلها للمعتقلين على أداء رمزي لا يرقى إلى الدفاع الحقيقي ولا يحترم ضمانات المحاكمة العادلة. وأردفت “دورهم أقرب إلى غطاء للقمع منه إلى دفاع عن الحقوق”. وأشارت إلى حوادث موثقة تم خلالها استدعاء أو تهديد محامي حقوق الإنسان بسبب دفاعهم عن معتقلي الرأي، مما يشير إلى حملة منظمة لإسكات الأصوات القانونية المستقلة.
كما حذرت من أن استمرار هذا المسار يقوض ما تبقى من سيادة القانون في السودان، ويكرس ثقافة الإفلات من العقاب، مشددة على أن حماية الصحافيين والمتطوعين ليست فقط واجباً أخلاقياً، بل هي التزام قانوني على الدولة احترامه وإنفاذه.
في أول تعليق رسمي لها على حادثة اعتقال الصحافيين نصر يعقوب ومحمد أحمد نزار أكدت حركة “تحرير السودان – المجلس الانتقالي” أن الاعتقال جاء نتيجة لما وصفته بـ”التحريض الإعلامي الممنهج والاستفزاز المستمر”، مشيرة إلى أن ما يقوم به الصحافيان لا يندرج تحت مظلة العمل الصحافي المهني، بل يشكل، بحسب تعبيرها، “انحيازاً إعلامياً لطرف بعينه في النزاع، وتهديداً للأمن المجتمعي داخل المخيمات”.
كما اعتبرت الحركة أن استخدام جهاز “ستارلينك” لنقل محتوى مصور وتحليلات حربية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من دون الحصول على تصريح من السلطات، يعد خرقاً لما سمته “قواعد التعامل الإعلامي في مناطق النزاع”. وذكرت في توضيح مسرب أن الظروف الحالية تستدعي ضبط الخطاب الإعلامي، لا سيما في مخيمات النزوح، حيث يسهل تأجيج المشاعر وخلق اضطرابات أمنية بسبب انتشار المعلومات من دون رقابة.
وجاء في بيان داخلي منسوب لمكتب المتابعة الإعلامية التابع للحركة أن ما ينشر من خلال الصفحات التابعة ليعقوب ونزار يتجاوز حدود النقد المشروع، ويصل إلى مستوى “التحريض الصريح ضد المكونات المحلية المسلحة، والتشكيك في نيات القوى التي تحاول حماية المدنيين من خطر قوات الدعم السريع”. وأضاف البيان أن الصحافة في أوقات الحرب لا يمكن أن تظل بمنأى عن المسؤولية الوطنية، وأن ما سمي “الاستقلالية الإعلامية” يجب ألا تستخدم غطاء للتلاعب وتغذية الانقسامات.
وفي خضم هذا الجدل تبرز إشكالية أعمق تتجاوز الحادثة بعينها، وهي غياب ما وصفه مثقفون سودانيون بـ”البديل المعرفي النقدي” الذي يحرر الصحافة من الثنائية الضيقة بين الانغلاق السلطوي والانفتاح السطحي. ففي مناخ هش، حيث تستبدل الحقيقة بالاصطفاف، تفقد الصحافة بوصلتها، ويصبح العمل الصحافي عرضة لتأويلات القوى المسلحة، التي تخضع حرية التعبير لمنطق المصلحة العسكرية.
أعربت لجان المقاومة في الفاشر عن رفضها لما جرى وأصدرت بياناً دانت فيه اعتقال الصحافيين، ووصفت الحادثة بأنها “تعسفية” وتندرج ضمن محاولات قمع حرية التعبير في واحدة من أكثر الفترات حساسية في تاريخ الإقليم والسودان. وجاء في البيان أن “عمليات الاعتقال والاستجواب في هذه الأوقات ليست من مهام (حركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي)، ولا تملك الحق في اتخاذ هذه الإجراءات، هناك جهات نظامية معنية بها حالياً”، في إشارة صريحة إلى تجاوز الصلاحيات من قبل القوى المسيطرة ميدانياً.
البيان الذي حمل لهجة واضحة وحازمة، اعتبر أن الوضع الأمني مهما كانت تعقيداته، لا يمكن أن يشكل مبرراً للقمع السياسي أو الاعتقال غير القانوني، مؤكداً أن السلطات الفعلية في الفاشر، حتى في ظل الحرب، مطالبة باحترام الحقوق الأساسية وعدم توظيف الظروف الاستثنائية لإسكات الأصوات المستقلة.
ولم تكتف لجان المقاومة بإدانة الواقعة، بل وسعت من زاوية النظر إلى ما هو أبعد من الحدث، محذرة من تبعات استخدام “الحجج الأمنية” ذريعة لاستهداف المدنيين، وعلى رأسهم الصحافيون، الذين يمثلون وفق البيان “صوت الفاشر وعينها المفتوحة على الحقيقة”. وأضافت “أن اعتقال الصحافيين بتهم واهية لا يستهدف أفراداً بعينهم، بل يعد انتهاكاً لحرية مجتمع بأكمله، ومسعى لإخماد أصوات المدينة في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى الشفافية والمعلومة الدقيقة”.
واستنكر البيان محاولة ما سماهم “بعض الأطراف” تصوير الصحافيين المستقلين كأدوات دعائية لطرف من أطراف الصراع، قائلاً “تختزل الصحافة في منطق الولاء والاصطفاف، وكأن لا مجال لحقيقة مستقلة، أو ضمير مهني يتجاوز الخطوط المرسومة سلفاً”. وأضاف أن الفشل في الاعتراف بالتنوع السياسي والفكري للصحافيين هو ما جعل كثيراً من المنصات تعامل كخصوم لمجرد أنها لا تردد ما تريد القوى المهيمنة سماعه.
وأكدت اللجان أن الممارسات القمعية، أياً كان منفذها أو مبررها، تسهم فقط في تفاقم فقدان الثقة بين المجتمع والسلطة، وتعكس اتجاهاً خطراً نحو عسكرة المجال المدني والإعلامي.
على رغم إطلاق سراح الصحافيين نصر يعقوب ومحمد أحمد نزار في التاسع من يوليو (تموز) الجاري، فإن الحادثة لا تزال تثير قلقاً عميقاً في الأوساط الصحافية والحقوقية الدولية. فقد وصف الاتحاد الدولي للصحافيين الاعتقال إنه تعسفي وغير مبرر، ودان بشدة ما رافقه من ممارسات تعد، وفق معاييره، ضرباً من أعمال الترهيب التي تهدف إلى إسكات الأصوات المستقلة، وليس مجرد “إجراء أمني” كما ادعت الجهات المعتقلة.
وصرح الأمين العام للاتحاد أنتوني بيلانجر في بيان بأن الحادثة تمثل تعدياً مباشراً على حرية الصحافة، ولا يمكن تبريرها تحت أي ذريعة، وقال “اعتقال صحافيين لمجرد استخدامهما جهاز (ستارلينك) للبث على ’فيسبوك’ هو سلوك يشي بعقلية ترى في المعلومة خطراً، وفي الشفافية تهديداً”. وتساءل “لماذا تطلق النار على صحافي أصلاً لرفضه تسليم جهاز اتصال؟”، داعياً إلى محاسبة المسؤولين، وضمان التزام القوات المسلحة السودانية بحماية المدنيين ومن في حكمهم، لا سيما العاملون في الحقل الإعلامي.
من جانبها أكدت المديرة الإقليمية للجنة حماية الصحافيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سارة القضاة أن الاعتقال بحد ذاته يمثل اعتداءً فادحاً على حق الجمهور في الوصول إلى المعلومات، لا سيما في منطقة مثل دارفور التي تغيب عنها التغطية الرسمية ويتعذر فيها التحقق المستقل من الحقائق. وقالت “لا يكفي أن يتم إطلاق سراح الصحافيين، فالمحاسبة ضرورة لضمان ألا تتكرر مثل هذه الانتهاكات”.
وعلى رغم أن الصحافيين أفرج عنهما من دون توجيه تهم رسمية، فإن المنظمات الدولية تعد أن مجرد اعتقالهما يعد انتهاكاً لمبادئ القانون الدولي، بما في ذلك المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تضمن حرية التعبير وتلقي المعلومات.
قال الكاتب الصحافي حسن الشيخ، “لم تصدر السلطات في ولاية الفاشر أو الجهات المركزية، ممثلة في وزارة الإعلام، أي بيان يوضح ملابسات اعتقال الصحافيين أو يبرر قانونياً أسباب توقيفهم. هذا الغياب لم يكن مجرد تقصير، بل يعكس توجهاً ممنهجاً لطريقة إدارة السلطة، تتفادى فيه مواجهة الرأي العام، وتتجاهل أدنى متطلبات الشفافية أو المساءلة”.
وأوضح الشيخ، “اللافت أن التصريحات الوحيدة التي راجت جاءت من مصادر محلية وأمنية غير رسمية، اكتفت بوصف ما جرى بأنه (إجراءات لمكافحة التحريض الإعلامي ونشر معلومات مغرضة تهدد الأمن)، من دون تقديم أي أدلة ملموسة أو مستندات قانونية تدعم هذا الادعاء، مما فتح الباب واسعاً أمام التأويلات والتشكيك في النيات. فحين تستخدم مفردات فضفاضة كهذه من دون سياق قانوني دقيق، يتحول الأمن إلى ذريعة، وتصبح السلطة خصماً وحكماً في آنٍ واحدٍ”. وذكر، “الأمر لا يختلف كثيراً في ولاية الجزيرة، حيث تتكرر حالات الاعتقال في المناقل وود مدني، من دون أن تقابل بأي تصريح رسمي، غير ما يتردد على لسان بعض المسؤولين المحليين حول تنفيذ عمليات أمنية ضد من يتهمونهم بالتعاون مع ’الدعم السريع’”. وتابع “تتجلى الأزمة الأعمق في ما يجري على الأرض من اعتقالات تعسفية وغياب شبه تام للمساءلة، مما يعد تجاوزاً عرضياً، بل امتداداً لمنهجية سابقة في الحكم، تقوم على تغييب الحقيقة وتعميم الخوف، من دون أن تكلف السلطة نفسها حتى عناء صياغة تبرير عقلاني أو مقنع لما تفعل”.
اندبندنت عربية