لا تزال تداعيات إطلاق سراح آلاف السجناء من معتقلات العاصمة السودانية الخرطوم ومدن أخرى، في الأسبوع الأول من الحرب التي اندلعت منتصف أبريل (نيسان) 2023، تفرض نفسها على المشهد الأمني والمجتمعي في السودان، سيما أن بينهم مدانون في قضايا خطيرة أحكامها تصل إلى الإعدام والسجن المؤبد، إلى جانب قادة النظام السابق المحتجزين على ذمة محاكمتهم على انقلاب يونيو (حزيران) 1989.
قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان يحيِّي مؤيديه في العاصمة الخرطوم (أرشيفية – أ.ب)
وتبادل الطرفان المتقاتلان الاتهامات حول المسؤولية عن إطلاق سراحهم، وقال وزير الداخلية السابق، خليل سايرين باشا، وقتها، إن «قوات الدعم السريع» أجبرت أكثر من 19 ألف نزيل على الخروج من سجون ولايات «الخرطوم، الجزيرة، سنار»، وإنهم لم يفروا بإرادتهم، بل خرجوا بعد أن اقتحمت تلك القوات السجون، وفتحت أبوابها للسجناء.
وبعد نحو أكثر من عام على الحادثة، حسم الفريق شرطة ياسر عمر أبوزيد، مدير «قوات السجون والإصلاح»، الجدل بشأن المسؤولية عن إطلاق سراح السجناء، وقال في مؤتمر صحافي وقتها، إن إدارته قررت إطلاق سراحهم، لأنه تعذر الحفاظ على سلامتهم بسبب ظروف الحرب، سيما أن بعضهم قتل أو أصيب بالرصاص والمقذوفات التي كانت تنهال على سجن «كوبر»، القريب من مناطق الاشتباك.
عائدون يتفقدون ممتلكاتهم المُدمَّرة في الخرطوم (أ.ف.ب)
وبعد استعادة الجيش للعاصمة ومدن وسط البلاد من قبضة «قوات الدعم السريع»، قالت شرطة السجون، أواخر يونيو الماضي، إنها أكملت صيانة السجن المركزي «كوبر»، وطلبت من السجناء الفارين تسليم أنفسهم لإكمال مدد عقوباتهم في أسرع فرصة.
ولا يستطيع أحد التكهن بمصير هؤلاء «السجناء الطلقاء»، لكن الناطق باسم قوات الشرطة، العميد شرطة فتح الرحمن التوم، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن إدارة السجون، «تتابع هؤلاء النزلاء منذ الأيام الأولى للحرب، وتحدد مواقع وجودهم، وتعمل على إعادتهم».
قوة تابعة لـ«الدعم السريع» بالخرطوم قبل استعادة الجيش المدينة (أرشيفية – أ.ف.ب)
وأوضحأن «السجون القومية والولائية أصبحت جاهزة لاستقبال السجناء مجدداً، وأن العمل يجري لتأهيل المنشآت التي تضررت بفعل الحرب»، بيد أنه ذكر أن بعضهم «انضم للقتال إلى جانب (قوات الدعم السريع)، بل أن عدداً منهم قُتل خلال المواجهات».
ولا يتوقع أن يعود السجناء كافة، لكن العميد التوم يرد بالقول: «تم توقيف بعضهم أثناء محاولتهم الفرار خارج الخرطوم، والسلطات فعّلت اتفاقيات وبروتوكولات تبادل المجرمين مع بعض الدول، لاستعادة من فروا خارج البلاد».
وكان عدد من قادة النظام السابق وحزبه «المؤتمر الوطني»، بمن فيهم الرئيس عمر البشير، ونائبه أحمد محمد هارون سجناء في «سجن كوبر»، ويخضعون للمحاكمة على تدبير وتنفيذ انقلاب 30 يونيو 1989، وقال مدير السجون وقتها، إن عددهم 18، وإن الرئيس البشير وآخرين كانوا يتلقون العلاج خارج السجن.
الرئيس السابق عمر البشير بالقفص أثناء محاكمته بعد الإطاحة به في 2019 (فيسبوك)
ويعد إطلاق سراحهم، طرح السؤال، ولا يزال يطرح، عما إن كانوا سيعودون طواعية، أم أن السلطات ستجبرهم على ذلك، خصوصاً أن معظمهم مكانه معروف، ونشاطه السياسي في العلن.
الجانب الدرامي في القصة، أن نائب البشير أحمد محمد هارون، تعهد في بيان صحافي صوتي، أعقب إطلاق سراحه أسوة ببقية السجناء، «بالمثول أمام القضاء متى تمكن من استعادة عافيته».
وقال إنه «ظلّ محتجزاً في ظروف إنسانية قاسية مع عشرات السجناء، لتسعة أيام وسط الاشتباكات، انعدمت فيها مقومات الحياة». وتابع: «قررنا الخروج إلى مكان آمن، وبرفقة ثلاثة من الحراس، بانتظار قرار قضائي بالإفراج عنا، وحين لم يصدر، اتخذنا القرار لحماية أنفسنا».
وبعد أكثر من عام على القصة، قال مدير عام السجون، إنه أشرف على عملية إطلاق سراحهم، بناء على أوامر من نائب رئيس القضاء، وكتبوا تعهدات بالعودة، لأنهم محتجزون في «قضية رأي عام».
تغيرت الظروف الأمنية والسياسية، وتصاعد نفوذهم السياسي، بل ويتردد كثيراً أنهم يمارسون نشاطهم السياسي في العلن دون أن تتخذ أي خطوات لإعادتهم واستكمال محاكمتهم.
عمر البشير أثناء محاكمته في الخرطوم (أرشيفية – الشرق الأوسط)
تقول هاجر سليمان، وهي صحافية متخصصة في «الحوادث»، إن بعض السجناء المطلق سراحهم، ما زالوا يمارسون عمليات النهب والسلب في المناطق الطرفية من الخرطوم.
وأوضحت لـ«الشرق الأوسط» أن سجون ولاية الخرطوم وحدها كانت تضم أكثر من 9 آلاف نزيل، غادر بعضهم البلاد وارتكبوا جرائم خارج الحدود.
لكن على خلاف ما ذهبت إليه هاجر سليمان، فإن العميد التوم بدا «مطمئناً» من قدرة الأجهزة الأمنية «على السيطرة على كثير من مظاهر الانفلات الأمني، بالتعاون مع المواطنين»، وقال إن «الشكاوى انخفضت نتيجة لخطط التقدم والانتشار والتأمين داخل الخرطوم».
زعيم حزب الأمة الراحل الصادق المهدي آخر رئيس وزراء منتخب في العهد الديمقراطي (أ.ف.ب)
توجد في العاصمة الخرطوم 6 سجون رئيسية، بما فيها «سجن النساء» بأم درمان، وأشهرها «سجن كوبر»، الذي بني في عام 1903، خلال فترة الاستعمار البريطاني.
ويرتبط «سجن كوبر» في الذاكرة السودانية بأنه مركز اعتقال القادة السياسيين والمشاهير، فقد حبس في زنازينه أول رئيس سوداني هو «إسماعيل الأزهري»، ودخل من بوابته معظم القادة السياسيين، بما فيهم رئيس «حزب الأمة» الراحل، الصادق المهدي، ورئيس «الحزب الاتحاد الديمقراطي» محمد عثمان الميرغني، وعدد آخر من القادة السياسيين.
الشرق الأوسط