سامي الشناوي
في وقت يتركز فيه اهتمام العالم على الحرب في أوكرانيا وتداعيات الأزمات في الشرق الأوسط، ينزلق السودان تدريجيًا إلى هامش الاهتمام الدولي، رغم أنه يعاني من واحدة من أعقد الأزمات السياسية والإنسانية في إفريقيا والعالم
حرب أهلية مدمرة، نزوح جماعي يُعد من الأسوأ عالميا وصراعات عرقية وسياسية تهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي للبلاد.
لكن بعيدًا عن صور الدمار، يدور صراع آخر أقل وضوحًا لكنه أكثر تأثيرًا على مستقبل السودان صراع النخب على السلطة والثروة بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، الذي يعمل على إعادة تشكيل المشهد السياسي لصالحه مستغلاً الانقسامات بين حلفاء اتفاق جوبا للسلام.
في الأسابيع الأخيرة، شهدت الساحة السياسية السودانية تصاعدًا حادًا في التوتر بين اثنين من أبرز قادة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام عام 2020: مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور وزعيم حركة تحرير السودان، وجبريل إبراهيم وزير المالية وزعيم حركة العدل والمساواة والخلاف، الذي اندلع بعد الإعلان عن تشكيل حكومة جديدة في بورتسودان في أواخر 2024، لم يكن حول قضايا سياسية جوهرية أو رؤى لإدارة المرحلة الانتقالية، بل تركز حول تقاسم المناصب السيادية، وبالأخص الوزارات التي تتحكم في الموارد الاقتصادية مثل المالية والمعادن.
وفقًا لتقرير نشرته “السودان تريبيون” في 15 نوفمبر 2024 اتهم جبريل إبراهيم البرهان بتهميش حركته في توزيع المناصب الوزارية مشيرا إلى أن “البرهان يفضل مصالح العسكريين على حساب التوازن السياسي الذي وعد به اتفاق جوبا”.
في المقابل، أبدى مناوي مرونة أكبر في التعامل مع البرهان مما أثار شكوكا حول تحالف بينه وبين البرهان يستهدف جبريل على حساب وحدة الحركات المسلحة؛ وقال مصدر مقرب من مناوي لصحيفة “الشرق الأوسط” في 20 نوفمبر 2024: “مناوي يرى أن التحالف مع الجيش يضمن له نفوذا أكبر في المرحلة المقبلة خاصة في ظل ضعف الموقف المدني”.
هذا الخلاف ليس مجرد نزاع شخصي، بل يعكس استراتيجية البرهان لتفتيت تحالف الحركات المسلحة؛ ويرى المحلل السياسي السوداني، د. حسن التوم، في تصريح لـ”بي بي سي عربي” أن “البرهان يستغل التنافس التاريخي بين جبريل ومناوي لإضعاف قوتهما المشتركة مما يسمح للجيش باستعادة الهيمنة الكاملة على المشهد السياسي”.
تشير مصادر مطلعة إلى أن البرهان يقود عملية منظمة لإعادة رسم خارطة النفوذ داخل الحكومة المرتقبة، بمساعدة الاستخبارات العسكرية؛ ووفقًا لتقرير نشره موقع “راديو دبنقا” تم تكليف ضباط رفيعي المستوى بالتواصل مع قادة الحركات المسلحة مع تقديم عروض بمناصب رمزية لهم مقابل التخلي عن مطالبهم بالوزارات السيادية
هذه الاستراتيجية تتجاوز مجرد إدارة الصراعات السياسية، إذ تهدف إلى إفراغ اتفاق جوبا من محتواه) وهو اتفاق وُقّع في أكتوبر 2020، كان يهدف إلى دمج الحركات المسلحة في النظام السياسي وتوفير ضمانات للمناطق المهمشة. لكن منذ انقلاب أكتوبر 2021، استغل البرهان الاتفاق كأداة للمناورة، مستخدما بند “تقاسم السلطة” لإقصاء بعض الحركات وتفضيل أخرى حسب الحاجة.
وفي هذا السياق، يقول الباحث في شؤون السودان، أحمد حسين، في تقرير لمركز “كرايسيس غروب”: “البرهان يحول اتفاق جوبا من إطار للسلام إلى أداة لإعادة توزيع السلطة لصالح الجيش والكتائب الإسلامية”.
تُعد عائدات الذهب، التي تشكل نحو 40% من إيرادات السودان التصديرية وفقا لتقرير البنك الدولي لعام 2023 محور الصراع السياسي الحالي وهذه العائدات التي تفتقر إلى الرقابة الفعلية أصبحت مكافأة السلطة الأولى وتتركز المنافسة على وزارتي المالية والمعادن، اللتين تتحكمان في تدفقات الذهب وتوزيع عائداته.
جبريل إبراهيم، الذي يشغل منصب وزير المالية منذ 2021، يرى أن استمراره في الوزارة ضروري لضمان نفوذ حركته، لكنه يواجه اتهامات من مناوي بـ”الاستئثار بالموارد”، وفقًا لتصريح لمناوي نقلته “سودان أخبار” في 18 نوفمبر 2024. في المقابل، يسعى مناوي لتعزيز موقعه عبر التفاوض المباشر مع البرهان، مما يعكس مرونته في قبول تحالفات جديدة مع العسكريين.
ويشير تقرير لـ”غلوبال ويتنس” بتاريخ 15 أكتوبر 2024 إلى أن “السيطرة على الذهب أصبحت أداة لشراء الولاءات السياسية في السودان، حيث يتم تهريب ما يصل إلى 80% من إنتاج الذهب خارج الإطار الرسمي، مما يعزز اقتصاد الظل الذي يغذي الصراع” وهذا الواقع يفسر التركيز الشديد على الوزارات المرتبطة بالموارد، ويبرز كيف تحولت التحالفات إلى صراع على الغنيمة أكثر منها صراعًا سياسيًا.
كان اتفاق جوبا للسلام يُفترض أن يكون خطوة تاريخية نحو استقرار السودان، من خلال دمج الحركات المسلحة في العملية السياسية وتوفير التنمية للمناطق المهمشة لكن الواقع السياسي، خصوصًا بعد انقلاب 2021، حول الاتفاق إلى أداة انتقائية؛ ووفقًا لتقرير صادر عن “معهد الدراسات الاستراتيجية” في يوليو 2024، “استخدم البرهان اتفاق جوبا لتوزيع المناصب بشكل يضمن ولاء بعض الحركات مع تهميش أخرى مما أدى إلى تفكيك تدريجي لوحدة جبهة الحركات المسلحة”.
اليوم، بدل أن يكون الاتفاق أساسا لبناء سودان شامل، أصبح غطاءً لصراع النخب؛ وفي تصريح لـ”فرانس 24” بتاريخ 28 نوفمبر 2024، قال القيادي في حركة تحرير السودان، الطاهر حجر: “اتفاق جوبا لم يعد أكثر من واجهة سياسية يستخدمها العسكريون لتبرير سيطرتهم بينما يتم تهميش مطالب المناطق المهمشة”.
إذا استمر البرهان في سياسة الإقصاء والتلاعب بالتوازنات السياسية فإن النتائج ستكون كارثية. تهميش الحركات المسلحة سواء بالقوة أو عبر صفقات سياسية قد يعيد إشعال التمرد في مناطق الهامش، خصوصا دارفور وجنوب كردفان حيث لا تزال قضايا التنمية والعدالة غائبة. ويحذر تقرير للأمم المتحدة بتاريخ 10 ديسمبر 2024 من أن “استمرار الصراعات على السلطة والموارد قد يؤدي إلى تجدد العنف في المناطق التي شهدت استقرارا نسبيًا بعد اتفاق جوبا”.
علاوة على ذلك، فإن التلاعب بتوازنات السلطة يقوض أي أمل في مرحلة انتقالية ذات مصداقية
ما يجري في السودان ليس مجرد خلافات سياسية عابرة، بل عملية ممنهجة لإعادة إنتاج الاستبداد تحت شعارات “الانتقال المدني”. البرهان، من خلال تأجيج الخلافات بين حلفاء اتفاق جوبا والتركيز على السيطرة على الموارد، يقود البلاد نحو قاع جديد من الفوضى. والمجتمع الدولي مطالب اليوم بالتوقف عن التعاطي السطحي مع الأزمة السودانية، والضغط من أجل إصلاحات حقيقية تضمن شمولية العملية السياسية.
إن تجاهل هذه الأزمة ليس فقط تقصيرا أخلاقيا بل خطأ استراتيجي قد يؤدي إلى تداعيات إقليمية خطيرة تشمل تصاعد الهجرة غير النظامية وتفاقم الإرهاب والسودان بحاجة إلى دعم دولي يتجاوز الإدانات اللفظية، ويركز على بناء عقد سياسي ينهي دائرة الصراع على السلطة والثروة، ويضع البلاد على طريق الاستقرار الحقيقي.