تقرير: حسين سعد
لقد شكّلت فترة حكم الإنقاذ (1989–2019) نقطة تحول كارثية في تاريخ مشروع الجزيرة والمناقل، إذ تعرض المشروع خلال العقود الثلاثة من حكم النظام السابق لسياسات منهجية هدفت إلى تفكيكه، وتجريده من طبيعته كمؤسسة اقتصادية وطنية وشراكة متكاملة بين الدولة والمزارعين. ورغم شعارات (النهضة الزراعية) التي أطلق عليها المزارعيين النفخة الزراعية كنت حينها قد سجلت زيارة خاطفة للقسم الشمالي والشمالي الغربي لمقابلة المزارعيين ونشر أفادتهم حول العملية الزراعية، ما حدث في واقع الأمر كان تدميرًا متعمدًا لبنية المشروع الإقتصادية والإدارية والإجتماعية مثل تفكيك المؤسسات الداعمة للمشروع ، وكانت أولى الضربات الموجعة التي تلقاها المشروع في عهد الإنقاذ هي تفكيك البنية المؤسسية التي ظلّ يعتمد عليها لعقود، أُضعفت سلطة إدارة المشروع المركزية، وأُلغيت العديد من الأجهزة الفنية والهياكل التنظيمية التي كانت تضبط العلاقة بين الحكومة والمزارعين. كما تم حلّ مجالس الإنتاج والاتحادات التعاونية التي كانت تمثل صوت المزارعين، مما أضعف دورهم في التخطيط والإشراف على العملية الزراعية، وفي واحدة من أخطر السياسات، شرعت حكومة الإنقاذ في خصخصة المشروع فتمت تصفية عدد كبير من أصول المشروع، مثل الهندسة الزراعية، والمحالج، ووسائل النقل والإمداد، وإدارات الري، وبيعت بأسعار زهيدة أو أُهملت حتى خرجت من الخدمة. فُكك المشروع من الداخل، ولم تعد هناك منظومة متكاملة تحكم العملية الزراعية كما كانت في السابق.
قانون 2005م شهادة وفاة رسمية:
يُعتبر قانون مشروع الجزيرة لسنة 2005 أحد أبرز المعالم القانونية في تدمير المشروع، فقد أُقرّ هذا القانون دون مشاورة حقيقية للمزارعين، ومع إنسحاب الدولة من إلتزاماتها، تحوّل المزارع إلى ضحية بين أنياب السوق الذي لا يرحم ، وكنا في صحيفة الأيام قد نظمنا ورشة بعنوان (قانون 2005م بين الرفض والقبول) دعينا فيها الخبراء والمهندسيين الزراعين و تحالف المزارعين والعمال الزراعيين وملاك الأراضي ، وظللنا ننتقد ذلك القانون الكارثي، وكانت كل بيانات تحالف المزارعيين تنقد في القانون لكن لا حياة لمن تنادي ، أما قنوات الري فقد كانت هي شرايين الحياة لمشروع الجزيرة، لكنها شهدت خلال سنوات الإنقاذ تدهورًا غير مسبوقًا، نتيجة الإهمال المتعمد، وغياب الصيانة، وتقليص الإنفاق الحكومي على البنية التحتية، وتحولت كثير من المساحات الزراعية إلى أراضٍ عطشى، مما قلّص الإنتاج وأخرج آلاف المزارعين من دائرة الإنتاج، كذلك عملت حكومة الإنقاذ على تسييس مشروع الجزيرة وتهميش الكوادر المهنية، فتم تعيين إدارات موالية للنظام السياسي بدلاً من الخبرات الفنية، كما تعرض المزارعون والنقابيون الذين عارضوا هذه السياسات للقمع والتشريد، مما أضعف الحركة التعاونية، وأفقد المشروع حيويته كمؤسسة اقتصادية اجتماعية يقودها المجتمع المحلي.
أثر سياسات الإنقاذ:
تركت سياسات حكومة الإنقاذ (1989–2019) تركت أثرًا بالغًا وسلبيًا على مشروع الجزيرة والمناقل، ومن أبرز مظاهر التأثير السياسي والاقتصادي والإداري ، الخصخصة ونهب أصول المشروع مثل الجرارات والمحالج والورش والمخازن والسكة حديد وغيرها وبيعها في مزادات مشبوهة مما أدي إلي شلل الخدمات الزراعية، وتغيير العلاقة التعاقدية والإنتاجية كان مشروع الجزيرة يقوم على شراكة ثلاثية (الدولة – الإدارة – المزارع)، لكن حكومة الإنقاذ فرضت نموذجًا جديدًا حمّل المزارع عبء التمويل والتسويق، وإلغاء الضمانات الحكومية للمزارعين في التمويل، وتم إدخال شركات تجارية خاصة مرتبطة بمراكز قوى داخل النظام، وإضعاف دور المزارعين وتحالفاتهم تمت ملاحقة وتهميش تحالف المزارعين، وهو الجسم النقابي الذي كان يدافع عن حقوق المزارعين، وتم استبداله بأجسام موالية للسلطة، حيث أضعف هذا الإجراء الرقابة المجتمعية ومنع التعبير عن التدهور الزراعي في المشروع، والإهمال التقني وانهيار البنية التحتية لم يتم صيانة قنوات الري الأساسية رغم التحذيرات، ما أدى إلى إنسداد الترع، وعدم إنتظام الري، وزيادة الإعتماد على الطلمبات الخاصة، وإرتفاع تكلفة الإنتاج، حيث أدى هذا إلى إنخفاض مساحات القطن والقمح بشكل كبير، بل تحول المشروع في بعض السنوات إلى إنتاج محدود لا يكفي حتى التقاوى، فضلاً عن تشريد الكادر الفني والخبرات تم فصل وتشريد الآلاف من المهندسين الزراعيين، الفنيين، المفتشين الزراعيين، ما أفقد المشروع الذاكرة المؤسسية والخبرة التشغيلية المتراكمة لعقود، وتمدد الفساد وإستغلال النفوذ حيث تم رُبط المشروع بشبكة من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام الذين حصلوا على الأراضي عبر التحايل، وإستغلوا التمويل الزراعي لأغراض تجارية، وليس للإنتاج.
تداعيات الحرب على المشروع:
منذ إندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، لم تسلم أي بقعة في البلاد من آثارها الكارثية، غير أن الضربة التي تلقّاها مشروع الجزيرة والمناقل كانت بالغة الخطورة، لأنها أصابت قلب السودان الزراعي وهددت عمقًا اقتصاديًا واستراتيجيًا يمثل أحد أعمدة الأمن الغذائي في البلاد. فالمشروع الذي كان يعاني أصلًا من إرث التدهور وسوء السياسات منذ عهد الإنقاذ، دخل مرحلة شلل شبه تام بفعل المعارك، والنزوح، والانفلات الأمني، وانهيار الخدمات، مما وضع مستقبل الزراعة في السودان على المحك، عقب توسع رقعة الإشتباكات ووصولها إلى ولاية الجزيرة، عانى المشروع من إنهيار شبه كامل في سلطة الدولة، مما أدى إلى نهب منظم للمؤسسات الزراعية، بما في ذلك الآليات، والمخازن، ومكاتب الإدارة، وتدمير منشآت حيوية في عدد من تفاتيش المناقل والمكاتب الفنية، ونزوح المزارعين وتوقف الدورة الزراعية، وشهدت مناطق واسعة في الجزيرة والمناقل موجات نزوح جماعي نتيجة تصاعد المعارك، مما أدى إلى، وتوقفت الزراعة الموسمية في كثير من التفاتيش والقرى، وتدمير شبكات الحياة الريفية مثل الأسواق المحلية، ووسائل النقل، والتخزين، وتدهور قنوات الري وإنقطاع الإمداد، وإنهيار التمويل الزراعي والأسواق، عموماً إن الحرب لم تدمّر فقط الإنسان والبنية التحتية، بل ضربت أحد أكبر المشاريع الزراعية في أفريقيا في مقتل. ومشروع الجزيرة والمناقل، الذي كان يومًا ما رمزًا للنهضة الزراعية، أصبح الآن رمزًا للمأساة والإهمال، ومؤشرًا حادًا على الخسارة الإقتصادية والإنسانية الكبرى التي لحقت بالسودان، إن إستعادة المشروع بعد الحرب لن تكون مجرد مهمة إعادة بناء، بل ستكون معركة مصيرية من أجل استرداد السيادة الغذائية والكرامة الريفية، ومن أجل أن لا تُدفن مئة عام من العرق والكفاح تحت ركام الحرب والإهمال، وإعادة الأمل إلى قلوب ملايين السودانيين الذين إرتبطت حياتهم وكرامتهم بهذا المشروع العملاق، وتبني نموذج تنموي عادل ومنصف، يعيد الإعتبار للريف، ويحقق السيادة الغذائية، ويضع السودان على طريق النهضة الزراعية الحقيقية. فمشروع الجزيرة ليس مجرد مشروع… بل هو شريان وطن، ومتى ما عادت الحياة إليه، عاد النبض للسودان بأكمله.
الخاتمة:
لقد كانت سنوات حكم الإنقاذ بمثابة مرحلة إغتيال اقتصادي بطيء لمشروع الجزيرة والمناقل، فبدلاً من تطوير المشروع ليتماشى مع العصر، تم تسليمه للفساد وسوء الإدارة، وتُرك المزارع وحيداً في مواجهة الفقر والديون والجفاف، واليوم، وبعد مرور مئة عام على تأسيس المشروع، فإن من أعظم الاستحقاقات الوطنية أن تُفتح ملفات التدمير الممنهج الذي مارسته الإنقاذ، وقضت الحرب الكارثية علي ما تبقي منه ،لا من باب اللوم فقط، بل من أجل المحاسبة والإصلاح وإسترداد حق الأجيال القادمة في مشروع كان ولا يزال أحد أعمدة السودان الاقتصادية والاجتماعية.
مدنية نيوز