بعد ثلاثة أيام من سيطرة قوات الدعم السريع على المثلث، هرب المعدن التقليدي عيسى الصافي، واحتمى بإحدى قواعد الجيش المصري على الحدود، وتمكن من الوصول إلى الولاية الشمالية بعد رحلة شاقة استمرت 11 يوماً واجه خلالها مصير الموت، لكن كُتبت له النجاة، ليروي قصة كارثة إنسانية حلت بأكثر من 15 الف منقب أهلياً عن الذهب كانوا يعملون بالمنطقة.
ويروي الصافي لـ”دروب” رعب الساعات الأولى لدخول قوات الدعم السريع إلى سوق المثلث الحدودي، والتي صاحبتها عمليات نهب واسعة للمحال التجارية والمقتنيات الشخصية بما في ذلك الهواتف النقالة ومبالغ نقدية والذهب، كما صودرت أجهزة الإنترنت الفضائي “ستار لنك”، وفق حديثه.
يقول: “من شدة الخوف والرعب، هرب معظم المعدنين والتجار من المثلث، بعضهم امتطوا سياراتهم الخاصة، وآخرون بأرجلهم. خرج الكثير منهم إلى المجهول، ولا ندري مصيرهم”.
وأبلغت ثلاث عائلات سودانية من ولاية غرب كردفان “دروب” أنها فقدت التواصل مع أبنائها الذين يعملون في التعدين التقليدي في المثلث منذ سيطرة قوات الدعم السريع على المنطقة، وظلت هواتفهم خارج التغطية طوال الفترة الماضية.
وفي 11 يونيو الماضي، سيطرت قوات الدعم السريع على منطقة المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا، الذي كان في يد القوة المشتركة المتحالفة مع الجيش السوداني طيلة الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب.
وبث مسلحو الدعم السريع مقاطع مصورة لعشرات الأسرة السودانية التي فرت من الحرب، في المثلث الحدودي، ووعدوا بتوصيلهم إلى وجهتهم دولة ليبيا، بعد إحسان معاملتهم.
وقال تاجر ذهب كان يعمل في المثلث، وتمكن من الوصول إلى منطقة الخناق في الولاية الشمالية قبل أيام من اندلاع المعارك لـ”دروب” إن عدد المعدنيين التقليدين وأصحاب المحال التجارية في منطقة المثلث يتجاوز 15 الف شخص، هذا بخلاف الأشخاص الفارين من الحرب والمتجهين إلى ليبيا.
ووفق التاجر الذي طلب عدم ذكر اسمه، فإن هؤلاء المنقبين يعملون في آلاف الآبار للتعدين التقليدي منتشرة حول سوق المثلث في كل الاتجاهات الأربع، أبعدها يصل 17 كيلومتراً، وأن جميع عمليات التعدين عن الذهب في المنطقة تقليدية، ولا توجد شركات.
الحصيلة الإجمالية للمعدنين التقليدين في المثلث، أكدها المعدن التقليدي عيسى الصافي، وذكر أن 80% من المعدنين الأهليين، أي نحو 13 الف شخص فروا من المثلث إلى وجهات عديدة، وتبقى حوالي 20% فقط حتى لحظة خروجه من المثلث في اليوم الثالث لسيطرة قوات الدعم السريع عليه.
ويقول الصافي لـ”دروب” “بعد دخول مسلحي قوات الدعم السريع إلى المثلث بدأوا في عمليات نهب للتجار والمواطنين، ساعتها بدأ الجميع بالفرار، وتمكنت من مغادرة السوق بسيارتي، واختبأت شمال المنطقة لمدة ثلاثة أيام، وبعدها قررت ومعي مئات المعدنين الذهاب وتسليم أنفسنا إلى قاعدة للجيش المصري على الحدود، وكانت تبعد عنا بنحو 25 كيلومتراً”.
ويضيف “كان معظم الشباب فارين سيرا على الأقدام، وعند وصولنا إلى معسكر الجيش المصري توفي 18 شاباً في الحال؛ بسبب العطش والتعب وحرارة الطقس، فكان مشهد صادم لي”.
وتابع “قضيت 7 أيام داخل معسكر الجيش المصري كانوا يمنحوننا كوبا صغيرا من الماء في اليوم مع قليل من الطعام، وبعدها رحلونا إلى معبر أرقين، ومنها نُقلنا بواسطة السلطات السودانية إلى الولاية الشمالية”.
وشدد “عندما وصلت إلى معبر ارقين، وشاهدت العلم السوداني بكيت، وتأكدت أنني نجوت من موت محقق، لكني ما زلت أشعر بحزن شديد؛ لأنني تركت ما لا يقل عن الف شاب في المعسكر المصري يعيشون أوضاعاً صعبة”.
ويوم الأحد، أعلن مفوض العون الإنساني في الولاية الشمالية عبد الرحمن خيري في بيان صحفي عن وصول 1091 شخصاً من المثلث إلى مدينة دنقلا من اندلاع الأحداث منتصف يونيو الماضي.
وناشد خيري مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين ومنظمة الهجرة الدولية للتدخل لإعادة أكثر من 5 آلاف سوداني فروا من المثلث إلى داخل الحدود المصرية بعد هجوم الدعم السريع، وما زالوا عالقين هناك.
ووصل مئات الشباب من المثلث الحدودي إلى منجم الخناق في الولاية الشمالية، وبدأوا في العمل بالتعدين التقليدي، لكن ما يزال هناك مفقودون وآخرون تتقطع بهم السبل، وفق ما أفاد به محمد سيد “اسم مستعار لمعدن فر من المثلث”.
وقال سيد لـ”دروب” “عشنا أياماً قاسية حيث نهبت الهواتف والمبالغ النقدية. كانت قوات الدعم السريع تمنع المغادرة عبر الطريق المؤدي للخناق، وتسمح بالتوجه نحو كردفان أو ليبيا، وساهمت بالفعل في ترحيل نازحين كانوا عالقين في المثلث إلى مدينة الكفرة الليبية”.
وأضاف “سُمح لبعض أصحاب السيارات المغادرة عبر طريق كردفان الطويل، فكل من لديه وقود كاف غادر، وهناك من هربوا بأرجلهم إلى العراء، ربما تاهوا في الطريق نحو معسكرات الجيش المصري”.
وتابع “قضيت 9 أيام في المعسكر المصري، ونقلنا بشاحنات إلى معبر أرقين؛ ومن ثم إلى داخل السودان، لم يتبق لي أي شيء، فقد نهب جنود قوات الدعم السريع كل المبالغ التي ادخرتها من عملي وهاتفي المحمول، وأنا الآن في منجم الخناق لبدء حياتي من الصفر”.
وقال مواطن من ولاية غرب كردفان لـ”دروب” إنه فقد التواصل مع ابنه الذي يعمل في مثلث العوينات منذ دخول قوات الدعم السريع إلى المنطقة، وهو قلق جدا على سلامته، إذ لا ينقطع عنه مطلقاً في السابق لمدة طويلة، وكان يهاتفه كل يومين أو أسبوع بالكثير للاطمئنان عليه.
وأضاف المواطن الذي طلب عدم ذكر اسمه خشية على سلامة ابنه، “تحدث معي ابني قبل يوم من دخول قوات الدعم السريع إلى المثلث، وأبلغني أنه بخير وجميع من معه، ومنذ ذلك الحين لم نسمع صوته”.
دروب