آخر الأخبار

المتنازعون على جثة وطن يحترق

شارك

في مشهد سوداني قاتم، تتجلى مأساة وطن يتهاوى تحت وطأة الحرب والطمع في السلطة، بينما يعاني الشعب الأمرّين من الجوع والتشريد.

تتنازع الأطراف المتحالفة — الجيش والحركات المسلحة — على المناصب في بورتسودان، لا من أجل الكرامة أو المبادئ، بل لأجل امتيازات السلطة.

أدى تعيين رئيس وزراء جديد وإعلانه تشكيل حكومة “تكنوقراط” إلى تفجر صراعات داخلية، حيث تمسكت الحركات بمناصبها كجزء من غنائم اتفاق جوبا، الذي تحول من وثيقة سلام إلى أداة للمحاصصة. تبادلت الأطراف الاتهامات، وخرجت تصريحات تكشف مدى التدهور السياسي، حتى بات التهديد بحرب جديدة أمرًا مألوفًا.

ومع ترجيح كفة الحركات في الاحتفاظ بمناصبها، يتضح أن لا مجال لحكومة مدنية ولا دور للكفاءات، بل استمرار لحكم البندقية، وفي ظل كارثة إنسانية توصف بأنها الأسوأ عالميًا، لا تزال القيادات تتصارع على سلطة لا وجود لها، فوق جثة وطن محطّم.

المتنازعون على جثة وطن يحترق

أفق جديد

في وطن لم يتبقَّ فيه من الدولة سوى رماد الحروب، تتصاعد معارك الطموح الشخصي فوق أنقاض المأساة، بلد يعيش التشظي أكثر من الانقسام، حيث يخوض شعبه المقهور حربه اليومية لأجل لقمة تحفظ له ما تبقى من الحياة، بينما يتنازع المتحاربون في مدينة الفاشر حول وجبة توزّع على قارعة “التكايا”، ويشتعل صراع آخر في بورتسودان حول من الأحق بكرسي وزارة المالية، ومن الأجدر بلمعان الذهب في وزارة المعادن!

في خلفية هذا المشهد البائس، تخوض حركات الكفاح المسلح – حلفاء الجيش في حربه ضد الدعم السريع – معركة شرسة داخل معسكر السلطة المؤقتة في بورتسودان، لا يدور الحديث هنا عن “كرامة” أو “وطنية”، بل عن مقاعد وزارية تمنح مكافأة على التحالف لا على المبادئ، وعن اتفاق سلام أصبح مظلة لمغانم السلطة لا مدخلًا للسلام.

معركة الكراسي بلباس الكرامة

بدأت الشرارة حين أعلن رئيس مجلس السيادة تعيين كامل إدريس رئيسا للوزراء، وهو بدوره وعد بتشكيل حكومة “تكنوقراط” غير حزبية. فاندلعت ردود الفعل من داخل معسكر الحركات المسلحة، معتبرة أن اتفاقية جوبا للسلام “خط أحمر” لا يجب الاقتراب منه. واعتبرت مجرد التلويح بتنحية جبريل إبراهيم من وزارة المالية أو إبعاد أبو نمو عن المعادن بمثابة إعلان حرب.

وهكذا تحولت السلطة من وسيلة إلى غاية، وغدت “الكرامة” تعني الاحتفاظ بالامتيازات، و”العدالة” أن تحتفظ حركة العدل والمساواة بوزارة المالية، و”التحرير” ألا يجبر مناوي على مغادرة وزارة المعادن.

حرب التصريحات والضرب تحت الحزام

ردًا على تمسك الحركات بحقائبها الوزارية، اتهم أنصار الجيش قادتها بابتزاز الدولة، بل وذهب بعضهم إلى القول إن القوات المشتركة سلمت مواقع استراتيجية في المثلث الحدودي لقوات الدعم السريع، كوسيلة ضغط على الحكومة في بورتسودان.

في المقابل، خرج صديق بنقو، القيادي بحركة العدل والمساواة متهكمًا: “من يظن أنه سيقود السودان بذات العقلية التي أوردته موارد الهلاك فهو واهم”، في إشارة إلى استمرار معركة الضرب تحت الحزام داخل صفوف الحلفاء.

التحالف المتصدع

أظهرت الأحداث في بورتسودان أن الأمر لم يكن يومًا معركة من أجل الكرامة، بل سباقًا نحو السلطة، فرئيس الوزراء الجديد وجد نفسه بين سندان الجيش ومطرقة الحركات، وأحلام التكنوقراط تبخرت أمام سطوة الميليشيات ومطالب المحاصصة.

وتأكد للجميع أن اتفاق جوبا يستخدم كحصان طروادة للوصول إلى الوزارات لا لإنهاء الحرب.

غريق يهدد بالبلل

في مفارقة مؤلمة، خرج قادة الحركات المسلحة من الخرطوم هربًا من أهوال الحرب، ليستأنفوا الحرب ذاتها من بورتسودان.

وبلغ التهديد بالحرب حدًّا قال فيه أحد قيادات حركة مناوي: “بورتسودان زي بيت مناسبة.. ممكن نفرتق الصيوان ببساطة”، وكأنهم يهددون الغريق بالبلل.

النتيجة: لا مدنية ولا سلام

تقترب الجولة من نهايتها بترجيح انتصار “القوات المشتركة”، واحتفاظ جبريل بكرسي المالية، ومناوي بمنصب المعادن والعون الإنساني، وانحناءة رئيس الوزراء للعاصفة. ليتأكد أن لا مكان لحكومة مدنية ولا موطئ قدم لتكنوقراط، في زمن تدار فيه السلطة بمنطق البندقية.

سخرية البندقية والمجد الزائف

التحالف بين الجيش والحركات المسلحة لم يكن وليد قناعات وطنية، بل نتاج سعي مشترك نحو السلطة منذ انقلاب 25 أكتوبر. واليوم، حين يذكر أنصار الجيش حلفاءهم بأن مشاركتهم تهدف لحصد الوزارات فقط، يرد أنصار الحركات: من هتف بـ”المجد للبندقية”، عليه أن يقبل بمجدنا المغمس بالسلاح.

على جثة وطن

بينما البلاد تواجه أسوأ كارثة إنسانية في العالم ـ كما وصفتها الأمم المتحدة. ويتساقط الناس بالرصاص، أو بالجوع، أو بالأوبئة، يجلس “حكام الظل” في بورتسودان ليتنازعوا على مقاعد فوق جثة وطن، يتصارعون مثل الضباع، غير مدركين أن هذه “السلطة” – التي يتهافتون عليها – لا وجود لها في الواقع، بل مجرد سراب في صحراء الانهيار الكامل.

إنهم ليسوا رجال دولة، بل أدوات خراب، يخوضون معاركهم الذاتية على جثة وطن وشعب لم يتبق منهما إلا العظام المحطمة والدماء المسكوبة.

أفق جديد
الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا