آخر الأخبار

الثلاثون من يونيو.. تسقط الحرب ومن يشعلون فتيلها

شارك

في السودان، لا تمر التواريخ دون أن تترك ندوبها أو تبعث آمالها، ويأتي الثلاثون من يونيو كأحد أكثر الأيام التباسًا في الذاكرة الوطنية: يوم بدأ بانقلاب عسكري في 1989 غيّر وجه البلاد لثلاثة عقود، ثم أعاد الشعب صياغته في 2019 كيوم للثورة والرفض الشعبي لحكم العسكر.

لكن بين انقلاب وثورة، وبين حلم الدولة المدنية وكابوس الحرب الشاملة، تعيش البلاد تمزقًا حادًا في الوجدان، فهل ما زالت روح ديسمبر تقاوم؟ وهل بقي في البيت، الشوارع، ما يكفي من الحياة لتُهتف فيها شعارات التغيير؟

يمثل الثلاثون من يونيو نقطة تحول مركزية في التاريخ السياسي السوداني، إذ شهد في عام 1989 صعود نظام الإنقاذ عبر انقلاب عسكري دعمه التيار الإسلامي، ما أدى إلى ثلاثة عقود من الحكم الشمولي، القمع السياسي، والانهيار المؤسسي.

وفي مفارقة تاريخية، أعاد السودانيون استدعاء هذا التاريخ في 2019 ليجعلوه رمزًا لمقاومة الحكم العسكري ومواصلة الثورة التي تفجرت في ديسمبر 2018.

لكن بعد مرور ست سنوات على إسقاط البشير، وسقوط الشق المدني للانتقال بفعل انقلاب جديد في 2021، دخل السودان مرحلة أكثر تعقيدًا، حرب شاملة تهدد بتمزيق الدولة بالكامل، وتعيد إنتاج العنف تحت غطاء جديد.

ويعود الحديث عن الثلاثين من يونيو، لا بوصفه مجرد ذكرى، بل كعلامة على استمرار معركة طويلة بين قوى الثورة وقوى الردة، بين مشروع دولة مدنية ومخططات عسكرة السلطة، وبين شعب ينشد الكرامة ومنظومة تجره إلى الخراب.

الشر العظم

قبل ست سنوات حوّل السودانيون تاريخ “الشر الأعظم” لزمان الخير المنتظر. الثلاثون من يونيو لم يكن يومًا عاديًا في تاريخ البلد المضطرب. في الثلاثين من يونيو للعام 1989 أعلن العميد في الجيش السوداني عمر البشير، مدعومًا بحزب الجبهة الإسلامية؛ مشروع انقلابه لـ”إنقاذ” الشعب السوداني. خلال ثلاثين عاماً من تسلطها على مصير السودانيين وبلادهم أكدت الإنقاذ على حقيقة أنها كل سوء حدث: شمولية الحزب الواحد، فساد وتحطيم وتكسير لمؤسسات الدولة، عنف منقطع النظير، حروب انتهت بانقسام وتغيير خارطة السودان القديم بذهاب الجنوب لحال سبيل دولته.

مزيدًا من الثورة

بين العامين 1989 و2019 كانت ثلاثون عامًا من الإنقاذ ومن مقاومتها. المقاومة التي تم تتويجها في ثورة ديسمبر، وعبرت عن نفسها في “تسقط بس”. في أبريل 2019 سقط “البشير”. قُطع الرأس، لكن ما تبقى من الجسد لم ينسَ وظيفته لقهر وقتل الشعب بدم بارد وبسلاح اشتراه الشعب لحمايته، وعند حرم الجيش قتل المعتصمون. أنهى المجلس العسكري المشهد الأجمل في حياة السودانيين عند اعتصام القيادة العامة، ورددت قيادته العبارة “حدث ما حدث”.

ما حدث من انقلاب على الثورة ومشروعها الهادف نحو الانتقال المدني الديمقراطي رد عليه “الديسمبريون” بمزيد من الثورة، اختاروا ذات الثلاثين من يونيو ليرددوا في شوارعهم “حكم العسكر ما بتشكر”، “الثورة مستمرة والردة مستحيلة”، مؤكدين على حقيقة واحدة مفادها “الشعب أقوى”، وهي القوة التي أجبرت قيادة المجلس للانحناء للعاصفة والتوقيع على الوثيقة الدستورية، واعتبار الثورة هي مصدر الشرعية والطريق نحو السلطة قبل أن يعودوا للانقلاب عليها لاحقاً في العام 2021.

المقاومة مستمرة

من ظنوا أنهم هزموا الثورة بفض الاعتصام اضطروا لاحقاً للانقلاب عليها بقوة السلاح، وحين عجزوا انقلبوا على بلد كاملة بالحرب، في وقت لا يزال الثلاثون من يونيو عند الديسمبريين هو التاريخ الحاسم، اليوم الذي أخبروا فيه السلطة أن تقتل الثوار لا يعني أنك قتلت الثورة، الثورة باقية ببقاء المؤمنين بها، باقية في جحافل البشر الذين حولوا الخرطوم لساحة مواجهة بسلميتهم المدهشة، باقية حتى باعتراف “المجلس نفسه”.

يقول محمد دفع الله، أحد المشاركين في موكب الثلاثين من يونيو في العام 2019 لـ”أفق جديد”، وهو يستدعي ذاكرته: “كان يوماً خالداً في تاريخ مقاومة السودانيين، كانت اللحظة التي أخبرتنا أن ديسمبر منتصرة، وأنه لا توجد قوة في الأرض يمكنها أن تواجه إرادة الشعوب، كانت الخرطوم يومها أجمل من كل أوقاتها السابقة، كنا حزمة واحدة قررنا وضع النهاية للمهازل، لكن يا للأسف فقد قرروا أن يمنحوننا بدلاً عن أحلام السلام والعدالة كوابيس الحرب والموت”. وأردف: “رغم ذلك سنقاوم وما دمنا نقاوم حتماً سننتصر”.

بين واقعين

في الثلاثين من يونيو 2019 كانت الخرطوم تخرج في كامل ألمها دون أن يسقط من الفتية والصبايا أملهم في صباح الغد. كانت آثار دماء ضحايا فض الاعتصام في الشوارع ما يزال طازجاً، كانت المدينة تتحدى خدمة الإنترنت المقطوعة وتسمع صوتها لكل العالم أن هي ثورة حتى النصر، وأن الشعوب بإمكانها تغيير مجرى التاريخ، كانت الشوارع هي الشوارع “لا تخون”.

اليوم الخرطوم ليست هي الخرطوم، الشوارع ليست هي الشوارع، لا قصر يمكن الوصول إليه من أجل تقديم مذكرة المطالبة بالتنحي، الفتية والصبايا ممن نجوا من رصاص الحرب قذفت بهم بعيداً. لم يعد شارع الستين هو شارع الستين وشارع الشهيد عظمة الذي لم يستلقِ عند المعركة تحول لخراب، لا بشر يمكنهم أن يحتلوا الشوارع بالهتاف، البيوت التي كانت تخرج منها المياه والأطعمة للثائرين صارت خرابات من أثر الشفشفة، لا حكومة يمكن المطالبة بإسقاطها في سودان الحرب العبثية لا شيء ظل واقفًا على قدميه، ولا أقدام تملك الاستعداد لأن تُغبر من أجل تحقيق الحلم. من انقلبوا على الثورة السلمية قرروا أن يطلقوا رصاص موتهم على شعب كامل، ويحولوا سودان الثورة السلمية لسودان الحرب الأهلية، تغيرت اللغة من أشعار حميد ومحجوب وأغنيات وردي لـ”البل الجغم والفتك”، اختفت معالم شارع الستين، لم تعد هناك مؤسسة ولا مواكب أم درمان، اختفى عن المشهد مجانين “الحاج يوسف”، لم تعد هناك مدرعة شرطة ولا ملصقات ولا صور شهداء تعلقها ديسمبرية على صدرها.

سودان الحرب

في سودان اليوم لا عاصمة يمكن الخروج لشوارعها “الظالمون عادوا من جديد”، لا قصر يمكن للقابع فيه أن يستلم مذكرة، لا قيادة عامة يمكن الاعتصام أمام بواباتها، لا بري ولا العباسية لا شمبات ولا الحلفايا، لا جسور يمكن التهديد بإغلاقها، لا كلاكلات ولا جنون ثوار الجيل الراكب رأس لا أغنيات ولا بمبان الجو مشحون بالرصاص. لا قحاتة باعو الدم ولا حمدوك للشكر أو المطالبة بالسقوط، لا هتاف العسكر للثكنات والجنجويد ينحل لا مواكب في مدني بالقرب من صيدلية الخير، لا انتظار للمدفعية عطبرة، قطار الموت أوقف كل القطارات، لا صور من العقدة المغاربة، ولا من مواكب نيالا والفاشر مشغولة بإن تزيح عن وجهها رمال الموت. للأسف في سودان الحرب لا مواكب للمطالبة بالحياة، فمن يطلب من “عسكري” عدم نهب بيوت يجب عليه حمايتها يختفي في ظروف غامضة.

مواكب الأسئلة

في الثلاثين من يونيو، في عام ديسمبر السادس، وفي عام الحرب الثالث لا “مواكب” في الشوارع ولكن أسئلة بلا نهاية ترى أين أخفيتم البشير الذي أسقطناه ذات صباح؟ الحقيقة أن بشير الحروب لم يعد حاكماً بشخصه ولكن ما زالت تحكمنا قيمه. قد يطرح آخر سؤال وأين حمدان؟ هل صوت السارينا الذي يسبق موكب سيارات قائد الجيش حرمه من الاستماع لهتافات الشارع “ما في مليشيا بتحكم دولة”؟ قد لا يجد الديسمبريون إجابة لأسئلتهم من المكون العسكري المنقلب على أحلامهم. ولكنهم لن يغادروا منصتهم دون أن يطرحوا أسئلتهم على المدنيين. هل ستكون ديسمبر ومواكبها مجرد ذاكرة نستدعيها كما فعلنا من أكتوبر وأبريل؟ أما كان بالإمكان أفضل مما كان؟ يقول آخر: “ستعود الخرطوم وبقية المدن السودانية وشوارعها، لن تستمر الحرب بلا نهاية، ولكن إن أعادوا إليكم الأماكن فمن يعيد الرفاق”؟.

سننتصر

عبارة يرددها ديسمبري على صفحته بالفيسبوك قبل أن يدعو رفاقه لإنجاز موكب “أسفيري” يؤكدون من خلاله أن ديسمبر ولدت لتنتصر، دعونا نخبرهم أن هذه البلاد لن تعود للوراء مهما حدث، نخبرهم بأننا نعرف أن من يرهبون الأطفال ويقتلون الشيوخ ويغتصبون النساء، لصوص المنازل وغرف النوم، لن يجلبوا ديمقراطية وآخر ما يمكن أن يكونوا حراس الثورة.. وإنه لا “كرامة” لسوداني في بلاد تمزقها الحرب، وتضيق بشعبها بأفعال يمارسها الجيش، دعونا نسمعها لهم مرة أخرى “العسكر للثكنات والمليشيات تنحل”، دعونا نخبرهم مرة أخرى فريق الحرب في النهاية مصيره الهزيمة.. هذا الشعب لن يهزم وديسمبر الشعب لن تهزمها الحرب .

في آخر المطاف ستنتصر ديسمبر لشهدائها ولصدق المؤمنين بها، ستنتصر لشعب كامل، وللجنود المؤمنين بجيشهم وللجيش نفسه .

ستنتصر للفاشر، لدنقلا والدمازين، لكادقلي وبابنوسة، لنيالا والضعين، ولسنار وكسلا، ستهزم من يظنون أن السودان معروض للبيع في أسواق الخيانة الدولية. ستنتصر للخرطوم وتعيدها سيرتها الأولى تنظف شوارعها وتكتب لافتة كبيرة: لم يخلق السوداني للهزيمة، سيعيش في أرضه بعزة وكرامة، ولا كرامة أكثر من أن تخلو البنادق التي تقتلنا وتهجرنا من رصاصاتها.. ثلاثون يونيو تسقط الحرب ومن يشعلون فتيلها .

آفق جديد

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا