وثق تقرير حقوقي ما وصفه بالفساد المالي والإداري في أروقة السلطة القضائية السودانية، في فترتي الانقلاب العسكري على الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2021، والحرب المستمرة منذ أبريل 2023.
وأعدت التقرير عضو المكتب التنفيذي لمجموعة “محامو الطوارئ” الحقوقية، رحاب مبارك، بعنوان “الملف الأسود لفساد السلطة القضائية السودانية في فترتي الانقلاب والحرب”.
وقال التقرير إن “ملف العدالة ظل من أكثر الملفات تعقيدًا وإغلاقًا، بسبب ما فُرض عليه من سريةٍ، لإخفاء فساد نظام الإنقاذ، الذي مكّن عناصره من كوادر الحركة الإسلامية داخل السلطة القضائية”.
وزعم التقرير أن خُطة السلطة القضائية في فترة الانقلاب هندسها القاضي أحمد هارون ـ رئيس حزب المؤتمر الوطني ـ من داخل سجن كوبر، تبدأ بإعادة كل من فصلتهم لجنة التفكيك خلال الفترة الانتقالية ليعملوا على إخراج عناصر النظام السابق من السجون، واسترداد ممتلكاتهم وأموالهم المصادرة.
ولتنفيذ المهمة اختار أحمد هارون عددًا محدودًا من القضاة الموالين للنظام، ممن يملكون سلطة إصدار القرار داخل الجهاز القضائي، وفق التقرير.
وأضاف “كان هارون بصفته رئيس المؤتمر الوطني المكلّف، المخطط ومصدر الأوامر، بينما تولّى رئيس القضاء المكلف عبد العزيز فتح الرحمن، تنفيذ الأوامر والتوقيع عليها، فيما شكّل نائب رئيس القضاء الأمين الطيب البشير، حلقة الوصل بين القاضيين “هارون وفتح الرحمن” وفق التقرير.
وأوضح التقرير أن اجتماعات مطوّلة عُقدت داخل سجن كوبر، بين أحمد هارون ومجموعته، بحضور مدير السجن، الذي بلور خطة الهروب من السجن على شكل “فتوى قانونية”.
وبين أن أداة التنفيذ للخطة كان رئيس دائرة الاستئناف بالمحكمة العليا وقتها القاضي محمد علي أبو سبيحة، الذي ألغى كل قرارات لجنة التفكيك، وأعاد جميع القضاة المفصولين إلى الخدمة، كما أمر بفك الحجز عن الأموال المنهوبة والحسابات البنكية التي كانت الحركة الإسلامية قد استولت عليها خلال ثلاثين عامًا من الحكم.
وأضاف “أتمّ القضاة الثلاثة هذه المهمة بأعلى درجات الولاء والطاعة، ولم يهدأ لهم بال حتى خرج جميع منسوبيهم من السجون، وأصبحوا يتحركون أحرارًا داخل ولايات السودان، بل إن بعضهم فرّ خارج البلاد، ووصل إلى تركيا، وقطر، ومصر، حيث لا يزالون هناك حتى اليوم”.
وبعد حرب أبريل 2023 انحصرت مهمة السلطة القضائية في مرحلتين، الأولى “جمع أكبر قدر من الأموال عبر مؤسسات السلطة القضائية، بهدف دعم الحرب” والثانية “الانتقام والتشفي من كل دعاة التغيير، وإخماد أصواتهم بالقتل أو السجن بأحكام الإعدام والمؤبد، بتهم مثل “تقويض النظام الدستوري” و”إثارة الحرب ضد الدولة”، أو التعاون مع قوات الدعم السريع، حسب التقرير.
وأضاف التقرير “لأجل ذلك اعتمد أحمد هارون على عدد محدود من القضاة المتنفذين ممن يملكون سلطة إصدار القرار، كما وسّع الدائرة في فترة الحرب من خلال عمليات إحلال وإبدال واسعة داخل إدارات السلطة القضائية، قادها رئيس القضاء عبد العزيز فتح الرحمن عابدين، واستعان بأكبر عدد من القضاة الموالين للنظام السابق، والحانقين على القوى المدنية التي فصلتهم من مناصبهم وجردتهم من سلطتهم”.
وتابع “بناءً عليه، قام بتوزيع أصحاب الولاءات والراغبين في الانتقام وتصفية الحسابات القديمة على إدارات السلطة القضائية”.
وأشار إلى تعيين القاضي طلال هاشم قرشي في منصب رئيس المكتب التنفيذي، المسؤول عن تنفيذ القرارات الصادرة عن رئيس القضاء، ويمثل المنصب حلقة الوصل الرئيسية بين رئيس القضاء وبقية الإدارات.
وبدوره عيِّن القاضي “الكباشي محمد عمر علي، قاضي المحكمة العامة – نائبًا له، ووصفه التقرير بأنه “الحلقة الأخطر داخل المكتب التنفيذي، إذ يملك فعليًا أدوات الربط والحل”.
كان القاضي الكباشي قد أعيد إلى الخدمة بعد فصله بواسطة لجنة التفكيك، باعتباره من القضاة الذين يدينون بالولاء للحركة الإسلامية، وكما أنه كان ضمن قضاة جهاز الأمن المزروعين داخل السلطة القضائية، وفقًا للتقرير.
وكانت لجنة إزالة التمكين سلمت رئيسة القضاء على عهد حمدوك القاضية نعمات عبدالله، مظروفاً سرياً يحتوي على أسماء أكثر من 18 قاضيًا، كانوا في الحقيقة ضباط أمن مزروعين داخل الجهاز القضائي، وفق التقرير.
تُعنى هذه الإدارة بتقديم الخدمات للقضاة، بما في ذلك توفير المواد الغذائية بشكل شهري. ولأجل ذلك، يتم استقطاع مبلغ 100,000 جنيه شهريًا من راتب كل قاضٍ.
وأضاف التقرير أنه “منذ اندلاع الحرب، استمرت إدارة الخدمات في استقطاع هذه المبالغ من جميع قضاة السودان دون أن تقدم لهم أي من هذه الاحتياجات”.
يترأس هذه الإدارة القاضي “مالك بكري” وهو قاضٍ بدرجة الاستئناف وهو من القضاة الذين أُعيدوا للخدمة بعد فصلهم من قبل لجنة التفكيك.
وأوضح التقرير أن “مالك بكري” أسس شركات وأسماء أعمال بأسماء أشخاص لا ينتمون للسلطة القضائية، واستغل أموال السلطة القضائية في ذلك. كما وظّف أفرادًا تابعين له وأقارب لرئيس القضاء في مصنع طحنية بمدينة عطبرة، وشركة لتصدير اللحوم، وعدة صيدليات في الولايات الآمنة التي لم تصلها الحرب.
كذلك، يعمل الرجل في مجال التنقيب عن الذهب في ثلاثة مربعات للتعدين اثنان في ولاية نهر النيل، وواحد في البحر الأحمر، حسب التقرير.
وتابع “عيّن مالك بكري القاضي “عياد التهامي” رئيسًا لإدارة الخدمات في ولاية كسلا، وخصّص له عربة “بوكس” بقيمة 85 مليار جنيه، واستأجر له شقة في كسلا، وأخرى في القضارف”.
يترأس هذه الإدارة حاليًا القاضي أحمد صديق نايل، ويعاونه نائبه القاضي محمد السر إمام، ونائبه الثاني القاضي أبوبكر المهاب.
يصرف القضاة علاوة بدل وجبة موزعة كالأتي “600 ألف جنيه شهرياً للقاضي من الدرجة العامة، و702,000 للقاضي من درجة الاستئناف، و820,000 للقاضي من الدرجة العليا”.
قال التقرير إن رئيس القضاء في إدارة المحاكم أصدر قرارًا يقصر صرف هذه البدلات على القضاة “العاملين بالخدمة” فقط، رغم أن عددهم لا يتجاوز 300 قاضٍ، بينما تم استبعاد أكثر من 1100 قاضٍ خارج الخدمة بسبب الحرب.
ورغم أن الإدارة منعت غالبية القضاة من استلام مستحقاتهم، إلا أنها لم تخاطب وزارة المالية لتوضيح العدد الفعلي للمستحقين الذين قررت منحهم هذه البدلات، وفق التقرير.
قال التقرير إن رئيس القضاء، القاضي عبدالعزيز فتح الرحمن، عيّن القاضي ماهر أحمد فضل الله، شقيق الإسلامي البارز إسحق أحمد فضل الله، في منصب نائب مسجل عام الأراضي، مع أنه لا يزال بدرجة قاضٍ عام، ما يجعل تعيينه مخالفًا للوائح والأسس التي تُشترط أن يشغل المنصب قاضٍ من درجة الاستئناف على الأقل.
وأشار إلى أن هذا القاضي كان قد تم فصله سابقًا بواسطة لجنة التفكيك، بحجة الفساد الذي شاب توظيفه منذ البداية، حيث تم تعيينه منفردًا من قبل رئيس القضاء الأسبق جلال الدين محمد عثمان دون معاينات، بزعم معرفته بأصول الكمبيوتر. وقد ألحقه بكشف القضاة المعينين على هذا الأساس، وظل بعدها لسنوات مسؤولًا عن مكتب الكمبيوتر، دون ممارسة العمل القضائي، قبل أن يترقى بعها تدريجيًا حتى بلغ درجة قاضي المحكمة الأولى.
وسعت “دروب” للحصول على تعليق من السلطة القضائية بشأن هذه الاتهامات، لكنها لم تتمكن نسبة إلى عدم فعالية مكتب الاعلام فيها، كما لا توجد قنوات تمكن الصحفيين من الوصول إليها.
وقال مصدر بالسلطة القضائية تحدث مع “دروب” إن الحصول على تعليق صحفي يتطلب الحضور إلى المكتب التنفيذي لرئيس القضاء في مدينة عطبرة شمالي السودان، وهو ما لا نستطيع فعله في “دروب”.