الراكوبة – تحليل سياسي
في خضم الدمار الذي تشهده السودان نتيجة للحرب المستعرة بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، برز خطاب سياسي وإعلامي موجه نحو شيطنة دولة الإمارات وتحميلها مسؤولية إشعال الحرب. هذا الخطاب لا يخلو من توجيه الاتهامات بشكل انتقائي، في حين يُتغاضى تمامًا عن الدور التركي المتنامي، والذي أثبتته تقارير دولية ووقائع ميدانية واضحة.
من يقف وراء خطاب الشيطنة؟
الخطاب المناهض للإمارات تقوده في الغالب دوائر قريبة من النظام البائد – أي الكيزان – والمتماهية مع أجندات جماعة الإخوان المسلمين التي ترى في أنقرة راعيًا استراتيجيًا لمشروعها. ومع عجزها عن مواجهة الواقع وتحمل مسؤولية إفشال الانتقال المدني، تسعى هذه الجهات لصناعة “عدو خارجي” يبرر إخفاقاتها ويعيد صياغة الرأي العام المحلي ضد خصومها الإقليميين.
الإمارات: مشجبٌ لتبرير الفشل
لم تثبت أي جهة دولية مستقلة تورطًا مباشرًا للإمارات في إشعال الحرب، رغم الضجيج الإعلامي الكثيف. حتى لو كانت هناك مواقف أو اصطفافات إقليمية ضمن لعبة النفوذ، فإن تحميل الإمارات وحدها المسؤولية الكاملة للحرب يُعد تبسيطًا مخلًا وهروبًا من الحقائق.
وفي الوقت الذي يتم فيه شيطنة أبوظبي، تغيب تركيا تمامًا عن الانتقادات رغم تورطها الفعلي والميداني: تشغيل طائرات مسيّرة من بورتسودان، تسليح فصائل بعينها، وتسهيل تحركات عناصر مرتبطة بالإسلاميين داخل السودان.
الدور التركي: الحقيقة الغائبة
تركيا لعبت دورًا محوريًا في تغيير موازين المعركة عبر تزويد قوات الجيش السوداني والتشكيلات التابعة للتيار الإسلامي بطائرات “بيرقدار-أكينجي”، والتي استُخدمت في قصف البنى التحتية في دارفور وكردفان ونيالا، تحت ذريعة استهداف قوات الدعم السريع.
هذا الدعم العسكري والتقني تمّ في وضح النهار، وبعلم مباشر من قادة الجيش، ويُعد خرقًا خطيرًا للسيادة السودانية. المفارقة أن الخطاب الرسمي للجيش يتجاهل تركيا بالكامل بينما يصب كل الاتهامات على الإمارات، وكأنها الشيطان الأوحد.
السلطة غير الشرعية… من منح البرهان الصفة السيادية؟
لا يمكن مناقشة الأزمة دون الإشارة إلى السياق السياسي والدستوري. عبد الفتاح البرهان لا يملك أي شرعية دستورية بعد انقلابه على الحكومة الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك في أكتوبر 2021. فالاتفاق الدستوري لعام 2019 حدد فترة انتقالية بقيادة مدنية تنتهي بانتخابات، لكن البرهان انقلب على هذا المسار، وفرض نفسه رئيسًا لمجلس السيادة بلا تفويض شعبي أو قانوني.
الأمر ذاته ينطبق على حميدتي، الذي انخرط في حرب مدمّرة بعد أن كان جزءًا من السلطة الانقلابية. إذن، لا البرهان شرعي ولا حميدتي، وكلاهما قاد البلاد إلى حرب عبثية، ضحيتها الأولى والأخيرة هي الشعب السوداني.
خاتمة: معركة الرواية قبل معركة الميدان
من يسعى لإشعال نار الكراهية الإقليمية لحسابات أيديولوجية ضيقة، هو ذاته من يُغرق السودان في مستنقع الحرب الأهلية. شيطنة الإمارات لن تُخفي تورط تركيا، ولن تمنح البرهان شرعية مفتقدة. والمطلوب اليوم ليس تبادل التهم، بل تفكيك منظومة الفشل والانقلاب، والعودة لمسار الانتقال المدني الحقيقي.