في بلد تعصف به حرب مدمرة منذ أكثر من عامين، لا يبدو أن القوى السياسية السودانية تملك ترف الاتفاق أو استشعار خطورة اللحظة. فرغم الدعوات المتكررة إلى وحدة الجبهة المدنية ووقف نزيف الدم، إلا أن الانقسامات والتناحر الداخلي باتت السمة الأبرز للمشهد. ثلاث كتل رئيسية تتزاحم على مسرح الأزمة: “صمود”، و”تأسيس”، و”تحالف الكرامة”، وكل منها تخوض معركتها الخاصة – لا مع الحرب، بل مع نفسها.
جبهة “صمود”: لا للحرب.. بلا فعّالية
برزت كتلة “صمود” كإحدى محاولات القوى المدنية لاستعادة المبادرة السياسية من وسط ركام الحرب. فمنذ إطلاقها لشعار “لا للحرب” عقب اندلاع النزاع في 15 أبريل 2023، حاولت هذه القوى توسيع الجبهة المدنية المناهضة للحرب، وأعلنت في مايو 2024 عن تأسيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، التي ضمّت 83 كيانًا سياسيًا ومجتمعيًا والعديد من الشخصيات القومية.
وفي أول بيان لها، شددت “تقدم” على ضرورة وقف الحرب فورًا ورفض أي مشروع للحكم عبر البندقية، وقالت إنها تعمل على “بناء جبهة مدنية عريضة تُنهي الحرب وتؤسس لسلام دائم وديمقراطية حقيقية” (بيان تقدم – 6 مايو 2024).
لكن رغم الزخم الأولي، عانت “تقدم” من شلل تنظيمي وانقسامات مبكرة، انعكست في بيانات متفرقة لا تتعدى صدى الفضاء الافتراضي. وفي اجتماع الهيئة القيادية الذي عُقد عبر تطبيق “زووم” برئاسة حمدوك في 10 فبراير 2025، أُعلن رسميًا انقسام الكتلة إلى جناحين: “تأسيس” و”صمود”.
وقد أكد الصحافي فيصل محمد صالح في تدوينة مطوّلة بتاريخ 11 فبراير 2025 أن الانقسام كان متوقعًا بسبب “غياب الاتفاق على الأولويات بين القوى المدنية الكبرى، خصوصًا حول العلاقة مع الدعم السريع، وتحديد طبيعة المرحلة الانتقالية”.
ورغم تمسك جناح “صمود” بخطاب رافض للحرب، إلا أن عجزه عن الفعل الميداني أو التنسيق الإقليمي، جعل منه مجرد عنوان بلا مضمون، وسط تساؤلات عن جدوى بقائه في ظل انفضاض كتل وشخصيات مؤثرة عنه، وحدة الهجوم عليه من كيانات كانت مؤثرة خلال حراك ثورة ديسمبر، ومن بينها جناح مؤثر في تجمع المهنيين الذي وصف أداء التنسيقية بأنه “هزيل ومُخيب” في منشور على صفحته الرسمية بتاريخ 18 فبراير 2025.
“تأسيس”: حكومة في المخيلة فقط
من نيروبي، أعلن جناح “تأسيس” عن نفسه وسط احتفالية ضخمة في فبراير 2025، بحضور قادة من الحركات المسلحة وممثلين عن الدعم السريع. وبشّر قادته بقرب إعلان حكومة “تأسيسية” تتخذ من مناطق سيطرة الدعم السريع والحركة الشعبية شمال مقرًا لها، وهو ما اعتبره مراقبون محاولة لخلق توازن سياسي موازٍ لتحالف الجيش من بورتسودان.
في حديثه لقناة “الجزيرة مباشر” بتاريخ 14 فبراير 2025، قال أحد قيادات “تأسيس: “نحن لا نقف في خانة الحرب، بل في خانة إعادة بناء الدولة على أسس جديدة.. ولا يمكن أن نترك الساحة لتحالف الانقلابيين في بورتسودان”.
وذهب الطاهر حجر وهو عضو سابق في مجلس السيادة الانتقالي، ورئيس لإحدى الحركات الدارفورية الموقعة على اتفاقية السلام المعروفة باسم “اتفاق جوبا” إلى القول إن ما يجري في نيروبي هو تأسيس للدولة السودانية على أسس جديدة.
لكن ما بدا كولادة صاخبة لمشروع سياسي، سرعان ما تحوّل إلى صمت مطبق. فباستثناء الخطاب الاحتفائي الأول، لم تصدر “تأسيس” أي بيان ذي تأثير، ولم تعلن عن تشكيل حكومي أو رؤية سياسية واضحة.
وفي تغريدة للصحفي وائل محجوب بتاريخ 20 مارس 2025، كتب: “تأسيس لم تُولد مشروطة بالخلافات، بل وُلدت ميتة لأن المشروع ارتبط بالدعم السريع دون شرط أو نقد، وتجاهل التوازنات المدنية.”
اللافت أن قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو، الذي يُعد أبرز داعمي الكتلة، بات يتجاهلها تمامًا في خطاباته الأخيرة، مركزًا على المسار العسكري. ففي كلمة له بتاريخ 25 مارس 2025، لم يأتِ حميدتي على ذكر “تأسيس” نهائيًا، بل اكتفى بالحديث عن “تحالف إرادة شعبية ستنتصر بالسلاح والسياسة”، في إشارة إلى محور الدعم السريع – الحركات المسلحة، أما في كلمته الأخيرة التي بثت الأحد تجاهل حميدتي كل حلفائه في تأسيس حتى الحركة الشعبية، واكتفى برسائل إلى العالم الخارجي والتباهي بكثرة قواته، وأرسل إشارات فهم منها سيطرته الكاملة على العمل المدني في مناطق نفوذه، موجهًا من أسماهم بالولاة إلى العمل بجدية أكبر لتحسين حياة الناس.
تحالف الكرامة: وحدة السلاح.. وتناحر الخطاب
على الطرف النقيض من الجبهة، يقف “تحالف الكرامة” الذي يلتف حول الجيش، ويضم خليطًا من القوى الإسلامية والقبلية والعشائرية التي دعمت انقلاب 25 أكتوبر 2021. وقد تشكّل هذا التحالف بشكل غير رسمي منذ اعتصام القصر المعروف إعلاميًا بـ”اعتصام الموز”، الذي فتح الطريق لانقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان.
بعد اندلاع الحرب، اتسعت الكتلة بدخول عناصر من كتائب التيار الإسلامي المتشدد، إضافة إلى ميليشيات أهلية تشكلت في كسلا والقضارف ونهر النيل، وتحالفت جميعها تحت مظلة “الكرامة” في خطابها الإعلامي.
وفي مقابلة مع قناة الحدث بتاريخ 3 مايو 2025، قال الناطق باسم الجيش العميد نبيل عبد الله إن “تحالف القوى الوطنية المساندة للقوات المسلحة يمثل العمق الشعبي والوطني لمواجهة العدوان”. لكن هذا “العمق” سرعان ما بدأت تضربه التصدعات.
أثار تعيين الفريق البرهان للدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء موجة رفض صاخبة من داخل معسكر الإسلاميين، واعتبره البعض “طعنة في الظهر”، حسب تدوينة منسوبة للقيادي الإسلامي أنور محمد خير على منصة X بتاريخ 6 يونيو 2025، جاء فيها:
“تعيين رجل له ارتباطات مع الغرب دون التشاور مع مكونات الثورة المضادة هو عبث سياسي سينعكس على ميدان المعركة.”
كما شهدت مجموعات الدعم العسكري المتعددة توترات داخلية، خاصة بعد المواجهات التي وقعت في بورتسودان بين ميليشيات “درع الشرق” ومجموعات أمنية محلية في منتصف مايو، وهو ما أشار إليه تحقيق استقصائي نشرته “الانتباهة” بتاريخ 20 مايو 2025.
نهاية طريق أم منعطف جديد؟
المشهد يبدو قاتمًا. فالكتل الثلاث – كلٌ بطريقتها – فشلت في تقديم بديل سياسي أو أخلاقي للحرب، وعجزت عن تجاوز حسابات الذات والجماعة إلى مشروع وطني جامع. وبين صراع الحلفاء في “الكرامة”، وخمول “تأسيس”، وتراجع “صمود”، لا تلوح في الأفق بوادر اتفاق، بل مزيد من الاصطكاك الذي يخصم من رصيد هذه الكيانات في الشارع السوداني.
أستاذ العلوم السياسية د. صديق الحسن قال لـ”أفق جديد”:
“ما يحدث داخل الكتل الثلاث ليس خلافًا سياسيًا طبيعيًا، بل انهيار شامل في الثقافة السياسية السودانية، حيث تغيب البرامج، وتعلو الصراعات الشخصية، ويتقدّم السلاح على الكلمة”.
وأردف: “المشهد محزن ومخزٍ، ويكشف مدى الابتزال للعمل الوطني، وأن المواطن لم يعد له مكان في عقول من يتصدرون المشهد.”
وفي بلد يعيش على حافة المجاعة، والنزوح الجماعي، وتهديدات التقسيم، يصبح سؤال “من يمثل السودان؟” ومن يهتم لإنسانه أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
خاتمة
في ظل هذا الواقع، لا تبدو الحرب وحدها مسؤولة عن انهيار الدولة، بل أيضًا الطبقة السياسية التي تتصارع على وهم السلطة بينما ينزف الوطن. ومع غياب بديل مدني حقيقي قادر على لملمة الشظايا، ستبقى “الكتل الثلاثة” مجرد عناوين في نشرة أخبار دامية.
أفق جديد