انطلقت أجولة طعام تزن 50 كيلوغراما من فتحة طائرة شحن لتتناثر في الهواء أثناء هبوطها من ارتفاع ألف قدم إلى الأراضي المنبسطة في شمال شرق جنوب السودان.
وعلى مدار الأسابيع الثلاثة الماضية نفذت شركة أميركية يديرها جنود ومسؤولون أميركيون سابقون عمليات إنزال جوي لمئات الأطنان من دقيق الذرة والفول والملح في منطقة تشهد إحدى أشد حالات الجوع في العالم.
وجلبت هذه الحملة، التي تقول حكومة جنوب السودان إنها تمولها، مساعدات ضرورية إلى مناطق دمرها القتال بين الجيش وميليشيات محلية منذ فبراير.
لكنها أيضا أثارت نقاشا حول مستقبل المساعدات الإنسانية في أعقاب تفكيك الرئيس الأميركي دونالد ترامب للوكالة الأميركية للتنمية الدولية وتقليصه ميزانيات المساعدات في مختلف أنحاء العالم.
ويُعد العقد مع جنوب السودان واحدا من قائمة متزايدة من الفرص التجارية لشركة فوجبو، وهي شركة تضم حوالي اثني عشر شخصا وزعت الطعام لأول مرة العام الماضي في غزة والسودان.
وقال رئيس الشركة ميك مولروي إن لديها الآن خمسة طلبات لإدارة مشاريع بمناطق نزاعات في أفريقيا والشرق الأوسط. والشركة مملوكة لدبلوماسي أميركي سابق وجندي سابق في سلاح مشاة البحرية ورجل أعمال أميركي.
وأرجع مولروي تزايد الطلب على خدمات الشركة إلى سعي جهات مانحة إلى دعم مشروعات إنسانية، لكن تلك الجهات تواجه صعوبة متزايدة في إيجاد شركاء منفذين بسبب خفض المساعدات.
بعض العاملين في الإغاثة يرون في الطلب على خدمات فوجبو تحولا مقلقا نحو نموذج مساعدات أكثر تسييسا
وقال مولروي، الذي شغل منصب نائب مساعد وزير الدفاع خلال الفترة الرئاسية الأولى لترامب، “يزداد احتياج الناس حول العالم إلى مساعدات أساسية في وقت قررنا فيه بشكل جماعي خفض المساندة.”
ويعتقد بعض العاملين القدامى في قطاع الإغاثة أن الطلب على خدمات فوجبو يشير إلى تحول مقلق نحو نموذج مساعدات أكثر تسييسا إذ يرون أنه يضحي بمبادئ إنسانية كالحياد، وبالتالي يضحي بمصداقيته لدى المستفيدين.
وفي غزة تجاوزت مؤسسة غزة الإنسانية نظام المساعدات الذي تقوده الأمم المتحدة واتهم بعض المنتقدين المؤسسة باستغلال المساعدات لخدمة أهداف الحرب الإسرائيلية. والمؤسسة مدعومة من الولايات المتحدة وفوضتها إسرائيل في توزيع الغذاء في القطاع الفلسطيني.
وتنفي شركة فوجبو أي صلة لها بمؤسسة غزة الإنسانية لكن عملياتها في جنوب السودان تثير بعض التساؤلات ذاتها إذ أنها تعمل مباشرة نيابة عن طرف في نزاع قائم.
وازدادت الحملة في جنوب السودان تعقيدا بسبب ارتباطها بالحكومة إذ تأتي المساعدات في أجولة تحمل عبارة “إغاثة جنوب السودان الإنسانية” ومزينة بالعلم الوطني.
ووفقا لاثنين من السكان وساسة معارضين ومصدر في الأمم المتحدة، يرفض بعض الناس الطعام لعدم ثقتهم بالحكومة التي تقصف قواتها أنحاء من ولاية أعالي النيل.
وقال مانبيني بال، وهو مسؤول محلي كبير في منطقة أولانج، إحدى منطقتين في ولاية أعالي النيل استهدفتهما عمليات الإنزال الجوي، “يتوقعون من الناس أن يأخذوا الطعام، لكننا نقول لأهلنا لا تأخذوه.”
وتساور بعض العاملين القدامى في مجال الإغاثة شكوك عميقة بشأن نموذج فوجبو. ودعا مارتن جريفيث، الذي شغل منصب كبير مسؤولي الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة من عام 2021 إلى عام 2024، إلى تجنب السعي لإعادة اختراع العجلة.
وقال جريفيث لرويترز “مجتمع الإغاثة كبير وليس له شكل معين. إنه أيضا حذر. وأخيرا، يتمتع بالخبرة. كان يجب الاعتماد على ذلك، وأتمنى لو أن فوجبو قامت بذلك.”
وقال مايكل فان روين مدير مبادرة هارفارد الإنسانية المتخصصة في بحوث القضايا الإنسانية إن فوجبو ومؤسسة غزة الإنسانية تقوضان نهج تقديم المساعدات القائم على الأدلة والاحتياجات.
وأضاف “هذه المنظمات ليست إنسانية. إنها وكلاء للحكومات، وهدفها تحقيق أغراض سياسية، وفي بعض الحالات عسكرية.”
وقال كريس هايسلوب مدير الشؤون الإنسانية في فوجبو والخبير في منظومة عمل الأمم المتحدة إنه يجري اتصالات شبه يومية مع برنامج الأغذية العالمي لمناقشة مواقع الإنزال ويطلب توصيات.
وأقر هايسلوب بوجود صعوبات في العمل مباشرة مع الحكومة لكنه قال إنه يجب موازنة هذه المخاوف مع فوائد تحمل السلطات الوطنية مسؤولية شعبها.
وقال المتحدث باسم برنامج الأغذية العالمي إنه على الرغم من تلقي البرنامج تحديثا يوميا من فوجبو بشأن مواقع الإنزال لتجنب أي حوادث في المجال الجوي، فإنه لا يشارك في عمليات الشركة.
وأعلنت حكومة جنوب السودان أنها طلبت من فوجبو، وليس برنامج الأغذية العالمي، القيام بعمليات الإنزال لتسريع عملية التوزيع وإظهار مسؤوليتها تجاه مواطنيها.
وقال تشول أجونجو وزير شؤون الرئاسة “هذه حكومة تأخذ على عاتقها المسؤولية بوصفها إحدى مهامها الأساسية.”
ورفضت الحكومة الإفصاح عن حجم إنفاقها لتوزيع 600 طن من الغذاء. ووفقا للأمم المتحدة، يعاني 57 في المئة من سكان جنوب السودان الذين يزيد عددهم على 13 مليون نسمة انعداما حادا في الأمن الغذائي. ولم تتلق البلاد حتى الآن سوى تعهدات تغطي 20 في المئة من احتياجاتها الإنسانية المقدرة لعام 2025، والبالغة 1.69 مليار دولار.
في غزة تجاوزت مؤسسة غزة الإنسانية نظام المساعدات الذي تقوده الأمم المتحدة واتهم بعض المنتقدين المؤسسة باستغلال المساعدات لخدمة أهداف الحرب الإسرائيلية
ويعبر قادة فوجبو عن احترامهم للأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية المعروفة، ويقولون إنهم سيكونون سعداء بالعمل كمتعاقدين ضمن النظام الحالي. لكنهم يعتقدون أيضا أنهم قادرون على تقديم أداء أفضل.
وفي غزة دعت فوجبو إلى إرسال الطعام انطلاقا من قبرص على متن سفن عبر البحر المتوسط لتجنب الاختناقات في المعابر البرية. وعارض العديد من العاملين في مجال الإغاثة هذه الفكرة قائلين إنها ستخفف الضغط السياسي عن إسرائيل من أجل فتح الطرق البرية.
وقال جيرو، وهو طيار سابق في مشاة البحرية الأميركية، “كان المجتمع الإنساني مستاء منا جدا لأنه كان يضغط من أجل (فتح) المعابر البرية، وكنا نقول: ‘مهلا، سنجرب شيئا مختلفا’.”
وألغت فوجبو خطة إرسال المساعدات عبر السفن عندما قرر الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في مارس 2024 إيصالها عبر رصيف عائم بناه الجيش الأميركي.
وقال جيرو إن فوجبو اتجهت إلى تسليم 1100 طن من الطحين (الدقيق) عبر رصيف أميركي وميناء إسرائيلي بتمويل من قطر.
وأضاف جيرو أن الشركة استخدمت في وقت لاحق من العام الماضي أرباحها من عملية غزة في تمويل عمليات إنزال جوي على ولاية جنوب كردفان النائية في السودان قبل أن تعرض الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تقديم التمويل.
وأحجمت وزارة الخارجية الأميركية عن التعليق على هذه العملية. وقال متحدث باسمها إن الولايات المتحدة لم تشارك في عمليات إنزال المساعدات في جنوب السودان لكنه عبر عن دعمه “لتقاسم الأعباء بين الدول القادرة (على ذلك).”